رمضان والانتصار على الأعداء
رمضان والانتصار على الأعداء
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
في شهر رمضان انتصارات حققها المسلمون على أعدائهم من غزوة بدر إلى فتح مكة إلى عين جالوت إلى حرب العاشر من رمضان وغيرها من الانتصارات الإيمانية .
لذلك فإن مدرسة الصيام محطة مهمة ليجعل العبد المؤمن لنفسه فيها برنامجا عمليا لتحقيق الانتصارات بمفهومها الشامل .
وبفضل الله وعونه فقد أحصيت عددا من الانتصارات التي يجب على المؤمن الصائم في شهر رمضان أن يحققها ، وينجح في إمتحانها ، ليتأكد ويطمئن ، أنه فعلا استطاع أن يستثمر أجواء الانتصارات الإيمانية الرمضانية ، وخرج منها بحظ وافر ، فمن الانتصارات التي يحققها المؤمن على أعدائه في شهر الصوم :
الانتصار على مرض الرياء :
رمضان شهر الإخلاص
فشهر رمضان شهر الإخلاص بلا منازع ، وقد
توفرت كل عوامل النجاح للمؤمن فيه على كل دواعي الرياء وأسبابه، وتنمية عنصر المراقبة والتجرد لله عز وجل لديه ، فامتناع الصائم عن الطعام والشراب والشهوات المادية والمعنوية طيلة يومه، استجابة لأمر ربه هو عين الإخلاص ، وإن تحقيق هذا النوع من الانتصار هو الأساس الذي تنبني عليه كل الانتصارات الأخرى .
الانتصار على الشيطان :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
« إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ » .
أخرجه مسلم
ولهذا يضيِّق الصوم مجاري الشيطان في بدن الإنسان فإنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، إلاَّ أنَّه بالصيام يضعف نفوذه .
وفي الحديث الذي رواه البخاري :
« إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ » .
فالعلماء قالوا :
إنَّ التضييق عليه يكون بتضييق مجاريه بالجوع ومنها الصوم ، فالجوع يكسر الشهوة ، ومجرى الشهوات ، وبذلك ينتصر المؤمن في رمضان على الشيطان .
رمضان شهر الانتصار على الشهوات :
فشهر رمضان تمرين عملي للصائم على التغلب على شهواته المختلفة من شهوة البطن والفرج والنظر والسمع والكلام والقلب والنفس وغيرها بحيث يتحرر من أسرها له ويتعالى على جواذبها التي تجذبه إلى مستنقعها الآسن ويخلص نفسه من كل دواعي الاستجابة لإغراءاتها .
وما انتصر أسلافنا على أعدائهم إلا بعد ما انتصروا في معركة الشهوات هذه وما انهزموا وانكسرت شوكتهم إلا لما استسلموا لشهواتهم وانهزموا أمامها .
وانتصار المؤمن في رمضان على شهوات البطن والفرج وشهوة الكلام والغضب والشح والبخل وغيرها من شهوات الدنيا وملذاتها وانتصاره على أهواء النفس كل هذا مؤذنٌ بالنصر الكبير .
فإن الإنسان الذي استطاع النصر على نفسه فيمتنع عما تحب وتهوى طاعة لله تعالى يرشحه ذلك أن ينتصر على عدوه في المعركة الكبرى معركة الإسلام مع خصومة .
الانتصار على الشح والبخل :
فإن التخلص من داء الشح والبخل وتطهير النفس منهما والذي عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهلكات والمتسبب في كثير من الموبقات .
ففي مسند أحمد وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
« إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا .
فمن مقاصد الصيام المهمة الجود والكرم والبذل والعطاء .
لذلك كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حتى كان كالريح المرسلة فليتأسى المؤمن به .
وصدق الله حينما قال :
وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
التغابن16
فالصيام مدرسة يتعود فيها العبد على السخاء ، وإطلاق اليد بالعطاء، ويتعمق لديه فيها الشعور بمعاناة المحرومين ، ويدوس فيها على أنانيته وحبه لذاته ، لأن الروح السخية المعطاءة التي تستلذ رفع العنت والقهر عن المحتاجين ، وتأخذ بأيديهم وتسد حاجتهم ، هي معيار القرب من الله عز وجل .
كما جاء في الحديث الذي يرويه الترمذي :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
« السَّخِىُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ وَلَجَاهِلٌ سَخِىٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ ».
الانتصار على اللسان وآفاته :
فعندما نسمع حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
« مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ »
رواه البخاري
هنا ندرك أهمية هذا النوع من الانتصار في شهر رمضان ، فمن لم يستطع أن ينتصر في معركته مع لسانه خاصة وهو صائم لا يمكنه أن ينتصر في معركته مع شيطانه وشهواته ، بل إن الانهزام أمام اللسان وآفاته يؤدي بصاحبه إلى الإفلاس الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم :
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
« أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ .
فَقَالَ : « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ».
رواه مسلم
لذلك كان الصيام تدريبا عمليا للعبد على ممارسة هذه العبادة .
فيقول صلى الله عليه وسلم :
« أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ »
رواه الترمذي
وامتلاك القدرة على التحكم في اللسان وكبح جماحه وتوظيفه في الخير والطيب من القول .
وقد ربط القرآن الكريم بين الهداية إلى صراط الله المستقيم وبين الهداية إلى الكلام الطيب وكأنه يريد أن يؤكد لنا أنهما متلازمان ، لا يمكن أن يتحقق الثاني ، حتى يتم الالتزام بالأول، فقال سبحانه :
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
الحج24
فالانتصار على اللسان وآفاته من عدمه ، معيار مهم يعرف من خلاله المؤمن الصائم مدى توفيقه ونجاحه في مدرسة رمضان،
وحصوله على كنوزه ومنحه ونفحاته وجوائزه التي لاتعد ولا تحصى .