سمر سعيد تكتب …. الصفقة

الصفقة ( قصة قصيرة )

سمر سعيد

تمدد على فراشه ينظر إلى الفراغ بسقف حجرته، فصوت الرياح وصريرها لا ينذر بخير، انكمش داخل ملابسه علّه ينعم ببعض الدفء فبرودة الجو يقشعر له الأبدان.
تقصف الأفكار به بين شطآن الوحدة والحيرة القاتلة فاشل هكذا يراه الجميع، الحزن يخيم على ملامحه، يفترش البؤس مقلتيه؛ تبكي السماء على حاله و ما آل إليه، فقد هجره الجميع.
حاول الاتصال بها آلاف المرات، لكنها وضعته على قائمة الحظر، كأنه شخص سخيف، ألقته بقارعة الطريق كدمية ملتها وذهبت للبحث عن جديد؛ بالأمس كانت رفقته مطلب للجميع، واليوم بعدما فقد أمواله أصبح كشجرة خاوية تساقطت أوراقها فليس لها ظل ولا ثمار؛ الوحدة أصبحت عنوان أيامه فلا خليل ولا رفاق.
اتصل بأصدقائه زعم بعضهم الانشغال للتخلص منه، و البعض الأخر تجاهل المكالمة مثلما فعلت حبيبته.
وبخ حاله على كل تصرفاته الطائشة، فلولا تهوره لما أصبح نكرة يتملص منه الجميع.
قرر إنهاء مأساته بيده حمل سكين كان بطبق الفاكهة الموضوع على الطاولة المجاورة له، وضع السكين على شريانه النابض لأنهاء حياته؛ إلا أنه سمع دقات على باب منزله أخرجته من أفكاره.
سأل: من الطارق؟
أتته الإجابة من الخارج :
شخص ضل الطريق.
فتح الباب ليجد رجل في العقد الخامس من العمر، ملابسه لا بأس بها، ملامحه حادة، طويل القامة، هيئته مخيفة، وعيون جاحظة، قبل أن يسأله براء عن كينونته، وسبب الزيارة.
بادره الغريب بالحديث
توقفت سيارتي بسبب الطقس السيء هل استطيع استخدام هاتفك حتى يتثنى لي طلب المساعدة من أحد الأصدقاء.
وافق على مضد، ثم دعاه للدخول فالطقس قارص بالخارج.
كان بداخله خوف منه ومن ملامحه، لكن ما باليد حيلة فهو ذاق طعم التخلي والوحدة منذ قليل.
اتجه نحو الهاتف لإجراء المكالمة إلا أن العاصفة عطلت جميع الخطوط، طلب منه قضاء الليل حتى تمر العاصفة وتعود خطوط الهاتف للعمل من جديد.
فكر في الرفض لكنه لم يستطع فالجو بالخارج شديد البرودة، البرق ينير السماء بصورة مرعبة، صوت الرعد يهز الجدران فهذه الليلة عصيبة، و المطر بها كثير.
احضر فنجانين من الشاي حتى ينعما ببعض الدفء، جلسا بغرفة المكتب ليبادره الغريب بسؤال
– هل تقطن هنا بمفردك؟
أندهش من سؤاله وجراءته، قرأ الغريب اندهاشه، ليخبره:
– لا تخف يا ولدي أنا في عمر والدك، وأني لك من الناصحين.
أقتنع بكلماته، كالمسحور صدقه، ليطمئن له ويجيبه:
– أجل فأنا وحيد بعدما تركني الجميع.
ترقرقت عيناه بالدمع بعدما قص عليه ما حدث معه وكيف فقد أمواله.
ابتسم و اتقدت عيناه شزراً ليرتعد جسد براء خوفاً منه فعيونه تحولت للون الأحمر ظهرت له أنياب و صوته تبدل أصبح مخيف ثم تحدث:
سوف أعيد لك كل ما سلب منك فقط عليك إطاعتي.
وافق براء ليحصل على الحياة من بين براثن الخسارة مهما كان المقابل.
وقع معه عقد شراكة أثناء التوقيع جرح أصبعه لتسقط قطرة دم على العقد لتوثقه، طوى الغريب العقد الموقع مع وعد بتغيير حاله بين ليلة وضحاها.
مر الليل سريعاً، استسلم للنوم بعدما شعر بألم يجتاحه كسيوف حادة تمزق أوصاله
في الصباح الباكر كان وحيداً كعادته، ظن وقتها أن ما حدث بالأمس كان هاجس أو حلم راوده فقط، فقد بحث بأرجاء المنزل عن الغريب لكن بلا فائدة.
رن هاتفه ليخرجه من تيهته حاملاً له خبر نزل عليه كالصاعقة، أسهم المضاربة الخاصة بشركته سجلت أعلى نسبة أرباح، مما أدى لتعويض كافة الخسائر، وزيادة رأس المال لثلاثة أضعاف الأصل.
تهللت أساريره، فبين ليلة وضحاها عاد لحياته السابقة وللعمل من جديد.
بدأ خطواته بدقة متناهية خوفاً من الخسارة مرة أخرى فهو لا يريد أن تتكرر الدائرة وتطحنه تحت تروسها، حاول الجميع التقرب منه مرة أخرى لكنه كان قد تعلم الدرس جيداً، هجرهم بعدما مزق صفحتهم من حياته، ليبدأ صفحة جديدة خالية من النفاق والرياء.
خُيل له أن الحظ حالفه وأن الدنيا ابتسمت له بعدما صفعته على وجهه عدة مرات، فقرر اقتناص الفرصة لينعم بالحياة.
نسى أمر الغريب وما دار بينهما، ظن أن كل ما حدث حلم.
ألا أنه كان يراقبه بعيون كالصقر يحسب أنفاسه، لينقض عليه مطالباً بشروط العقد في الوقت المناسب.
جَنّ الليل على الكون بعباءته السوداء، سمع براء طرقات على باب منزله أخرجته من متابعة مستندات صفقته الجديدة.
فتح الباب ليتفاجأ بالغريب أمامه مرة أُخرى فرك عينيه علًّه يحلم.
بادره الغريب بالسؤال:
هل ستدعني أنتظر على الباب كثيراً؟
تجمدت أطرافه وكأنه رأى أمامه ملاك الموت، وجاء ليحصد روحه؛ أنقبض قلبه عندما حدثه عن أتفاق عقد بينهما ينص على مساعدته له مقابل بيع روحه؛ ثم أظهر له عقد كان يحمله يَنُص على هذا الاتفاق ودماءه توثقه.
صاح وهاج عندما رأى العقد، ظن أن هذا الرجل فاقداً لعقله فقرر في لحظة حاسمة الخلاص منه
قام بإخراج مسدس من درج مكتبه وقام بأطلاق النار على الغريب ليسقطه أرضاً؛ ظن أنه قضى عليه، وأنتهى منه، إلا أنه لحظات وعاد ليتحول إلى وحش عملاق ظله يملأ الأرض، أظافره حادة كنصل السكين، صوته كالرعد تهتز له الجدران، ينفث النار كبركان يقذف حممه ليحرق الأخضر واليابس.
وَاهم أنت أيها البشري، ما من أنس ولا جان استطاع خداعي فأنا فالج أبن إبليس، الخداع والدهاء وظيفتي؛ اركع أمامي الأن وإلا حولتك لرماد تزره الرياح.
تحول براء لكلب بشع لونه أسود، له أنياب حادة، ومخالب، يعوي كالذئب، اشعث، و رائحته كريهة، وظيفته زهق الأرواح، تنفيذ أوامر سيده الجديد وأن حاول التمرد سيبقي هكذا مسخ دميم.
تركه فالج في حيرة من أمره لا يعرف ما يحدث معه، يجد نفسه يقف على أربع قوائم، يسمع أصوات وصرخات ينفجر لها رأسه.
قرر الاختباء في غرفته حتى تمر الليالي القمرية، ألا أنه لم يستطع مواجهة الجوع فجسده أصبح هزيل يتعطش للدماء؛ سمع صوت صراخ خرج مسرعاً صوبه ليسكته للأبد ويشبع جوعه.
إذا به يجد شاب يحاول سرقة رجل عجوز أنقض عليه ينهش أوصاله ويمزقه أرباً؛ فر الرجل العجوز من أمامه ظناً منه أنه سيهاجمه كما فعل مع الشاب.
استمر على هذا الحال كل ليلة قمرية ليقوم بحصد قلوب ضحاياه؛ كان يستيقظ صباحاً ليجد نفسه ملطخ بالدماء، رائحته منفرة كأنه تعثر بمستنقع عفن، أظافره تحمل بقايا جلد من ضحاياه، صرخاتهم تصم أذنه. حتى كره حاله، حاول عدة مرات حبس نفسه، وعدم المثول لأوامر فالج لكن جميع محاولاته باءت بالفشل.
حَصد الأرواح أصبح وظيفته وكلما زادت الخطيئة سعد فالج، واغدق عليه بكلمات التشجيع والثناء، فهذه الجرائم تسعد كبيرهم الذي توعد للبشر بجنود مثل فالج لغوايتهم ولنشر الفساد.
ظل على هذا المنوال حتى حدث مالم يكن في الحسبان؛ أحب فتاة كانت كالملاك أجمل فتاة في الحي. رغب في الزواج منها إلا أن تحوله في الليالي القمرية كان مصدر إزعاجه كيف سيخبرها بهذا؟ و كيف سيكون ردها؟.
فكر كثيراً في طريقة للخلاص من لعنته، لجأ إلى السحرة والمشعوذين للمساعدة ألا أن كافة الأبواب كانت موصده أمامه، حاول الخلاص من حياته لكنه فشل.
ذات ليلة زاره فالج ليخبره:
أعلم أنك تريد الزواج من جميلة، و أنا أبارك هذا الزواج لكن بشرط واحد، أن تبيع لي حبيبتك روحها أيضاً.
صعق براء من طلبه، بهتت سعادته، صرخ، القى كل ما وجده بطريقه لينفث عن غضبه.
ضحك فالج باستفزاز ليخبره:
لديك مهلة للتفكير أسبوعاً واحداً؛ ثم تركه وأختفى، لا يعلم ماذا يفعل لينقذ حبيبته من بين براثنه؟
استشاط غضباً و جن جنونه، مرت الأيام لم يعرف فيها طعم للنوم، فهو لا يعرف لماذا يصر فالج على هذه الصفقة بالتحديد؟
بحث عن أصول عائلة جميلة، فكل ما يعرفه عنها أنها فتاة يتيمة نشأت في كنف عمها الشيخ مختار.
وهنا فطن لسبب إصرار فالج، حيث أن جميلة فتاة تحمل دم نقي، أصولها ترجع لذوي الهمم، الصالحين، فهي وأسرتها جنود من جنود الله في الأرض، وإغوائها، وبيع روحها له يعتبر صفقة العمر بالنسبة له، وهذا سيجعله من جنود إبليس المقربين، يحصل على تاج التتويج.
كان الإرهاق، الإجهاد عنوان لأيامه هذه الفترة، مرت المدة المحددة وحان القرار.
تقدم فالج تجاهه بكل ثقة، وغرور ليسأله عن قراره.
أجابه براء بصوت مخنوق:
سوف أوافق أن تبيع زوجتي روحها لك لكن بعد زواجنا حتى استطيع تمهيد الأمر لها، وبعدها سوف نصبح كلانا من أعوانك.
حاول جاهداً قراءة ما يدور بخلده، ومعرفة ما تُخفي عيناه، فلم يجد ما يدعو للشك، بعد لحظات وافق فالج بعدما حذره من الغدر أو التنصل من عهده و إلا لن ينال منه سوى العذاب الشديد.
اتفق كلا الطرفان على هذه الصفقة الجديدة، ثم قام براء بتوقيع العقد؛ غادر فالج على وعد بالعودة بعد الزواج لينال أرواحهم.
تزوج براء من جميلة التي وجد بين يديها الراحة والسكينة، كانت نعم الزوجة والخليلة، حاول أن يتناسى عقده مع فالج إلا أنه فشل، حاولت جميلة فهم ما يخفيه، كانت تستيقظ ليلاً على صوت صراخه و نحيبه، لتجد جبينه يتصبب عرقاً، وعند سؤاله كان يخبرها بأنه مجرد كابوس.
أصبح يتغيب عن المنزل في الليالي القمرية من كل شهر وعندما تسأله عن سبب الغياب ولمَ لا يصحبها معه في سفره، كان يتحجج بأنه يؤمن مستقبلهما وأن المشاغل كثيرة لذلك لا يستطيع اصطحابها.
في أحد الأيام قرر أخبارها بخصوص الصفقة التي وقعها مع فالج، إلا أنها فاجأته بخبر لم يكن يتوقعه:
أحمل لك خبر سعيد، بين أحشائي ينمو طفلك.
لجم الخبر لسانه، تجهم وجهه، ظنت جميلة أنه لا يريد الطفل، حزنت كثيراً من ردت فعله إلا أنه تدارك الأمر، هرول نحوها يحتضنها، ويدور بها مهنئاً لها بهذا الخبر السعيد.
علم فالج بأمر الجنين، زاد طمعه، قرر انتظار ولادة الجنين حتى يزفر به لنفسه فيصبح خادم وأبن له يساعده على تأدية رسالته، بجانب دماء والدته النقية.
مضت شهور الحمل، تارة تحمل ألام وغياب براء، وتارة أخرى تحمل السعادة والسكينة بحضوره؛ ظن أن فالج نسى أمره، أكتفى بما يقدمه له من أرواح في الليالي القمرية؛ وضعت زوجته حملها كان طفل جميل ملامحه هادئة، كأنه ملاك يشبه والدته في الملامح، حمله براء بين يديه وكأنه حمل العالم كله.
أثناء فرحتهما بمولودهما، ظهر فالج من العدم، ظهرت ملامح النفور والدهشة على وجه جميلة كانت تتسأل في نفسها من هذا الشخص الغريب؟ قرأ فالج سؤالها ليجيب:
أعرفك بنفسي، أنا فالج أبن إبليس.
شهقت جميلة عندما ذُكر اسم إبليس، احتضنت ولدها بشدة، لتسقط مغشية عليها.
تحولت جدران الغرفة لكتلة من النيران، ارتعدت عندما أفاقت ولم تجد صغيرها بين أحضانها لتجده بيد فالج وباليد الأخرى يحمل العقد لتوقع جميلة و إلا لن ترى صغيرها مرة أخرى، نظرت نحو زوجها فوجدته يحسها على التوقيع.
رضخت لقراره وقامت بتوقيع العقد لتحدث مفاجأة مدوية.
أحترق العقد و معه فالج في ذهول منه، ارتسمت بسمة واسعة على ثغر براء، ليحتضن زوجته وطفله. بوركتِ زوجتي، دماءك النقية كانت سبب خلاصنا من هذه اللعنة، كما أخبرني عمك الشيخ مختار، فهو من نصحني بالموافقة على هذه الصفقة.
ابتسمت جميلة وهى تحتضن طفلها، وتحمد الله على ما رزقها من نعمة الإيمان، وعن خلاصهما من هذه اللعنة، لتنعم مع زوجها وطفلها بحياة هادئة.
قد يعجبك ايضآ

التعليقات مغلقة.