صاحب موسوعة ” شخصية مصر”

كتبت / رحاب شعيب

 

الدكتور جمال حمدان صاحب موسوعة “شخصية مصر” والذي يمر اليوم على رحيله 30 سنة يعد واحدا من أكبر وأشهر علماء الجغرافيا في مصر والعالم العربي، وقد كتب الكثيرون عنه وعن عبقريته العلمية ولكن هناك جانبا مهمشا من حياته ربما لا يعرفه الكثيرون، فقد نشرت جريدة أخبار الأدب في عددها رقم 1199 تحقيقا عن دراسة أصدرتها مكتبة الإسكندرية بعنوان “جمال حمدان وعبقرية المكان” قام بها كل من الأستاذ محمد محمود غنيمة والأستاذ أيمن منصور، وقد نقلت الجريدة في هذا التحقيق عن الأستاذين الفاضلين الكثير مما خفي من حياة هذا العالم الكبير، إلا أن المفاجأة الكبيرة كانت في نشرهما عدد من اللوحات التي رسمها العالم الراحل، وهذا إن دل فإنما يدل على أن الدكتور جمال حمدان العالم الكبير قد جمع بين العبقرية الفنية بجانب العبقرية العلمية.

وقد ولد جمال محمود صالح حمدان بقرية ناي محافظة القليوبية في يوم 4 فبراير سنة 1928 لعائلة تنحدر من قبيلة بني حمدان العربية، وحصل على شهادة الثقافة سنة 1943، ثم حصل على ليسانس الآداب قسم الجغرافيا من جامعة فؤاد الأول سنة 1948، ثم حصل على شهادة دكتوراه الفلسفة في الجغرافيا من جامعة ريدنج البريطانية سنة 1953، وبدأ حياته العملية معيدا بقسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة، وظل يتدرج في المناصب العلمية حتى بلغ درجة أستاذ الجغرافيا بالكلية، ولكنه اصطدم بما أدى به إلى الإستقالة من العمل الجامعي سنة 1963، وهو ما زال في سن الخامسة والثلاثين من عمره، وخلاصة الموضوع أنه رأى من هم أقل منه شأنا وموهبة وعلما ودرجة يسبقونه ويتخطونه في الترقية، ولأنه كان رجلا معتدا بنفسه، فقد قدم استقالته من منصبه الجامعي وتفرغ للبحث العلمي والإبداع الفكري، فنذر نفسه وعبقريته للبحث والدراسة والكتابة وظل معتكفا داخل شقته وانقطع عن العالم الخارجي تماما، وكانت شقته بمثابة الصومعة، فكان يدخلها ويغلق بابها على نفسه ولا يفتح لأحد أو يرد على أحد، إلا للبواب الذي يأتيه بطلبات المعيشة ولناشر كتبه إذا جاء للحديث معه فقط.

ومن أشهر مؤلفاته “أنماط من البيئات” و”جغرافيا المدن” و”دراسات في العالم العربي” و”إستراتيجية الإستعمار والتحرير” و”6 أكتوبر في الإستراتيجية العالمية” و”اليهود أنثروبولوجيا” و”المدينة العربية” و”قناة السويس” و”القاهرة” و”سيناء في الإستراتيجية والسياسة والجغرافيا” ولكن تظل موسوعة “شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان” هي الأكبر والأعظم والأروع والأشهر والأكثر انتشارا من مؤلفاته الأخرى، فقد قدم فيها تفسيرا جديدا للتاريخ المصري، واعتمد فيه على التحليل الجغرافي، وقد أثارت تلك الموسوعة التي ظل يعمل عليها 10 سنوات حتى أكملها دويا هائلا وقت صدورها، وكان هذا الدوي حول ما جاء بها من حقائق كانت مخفية بين سطور التاريخ، وقد بلغ عدد صفحات هذه الموسوعة حوالى 4000 صفحة، واعتمد في كتابته لها على مصادر يعجز القارئ عن حصرها، فيكفى أن نعلم أنه اعتمد في المجلد الرابع من هذه الموسوعة فقط على 245 مرجعا باللغة العربية و791 مرجعا باللغة الإنجليزية، هذا غير عشرات المقالات التي استعان بها وأثبتها في هذه الموسوعة الشهيرة.
وقد تم تكريم الدكتور جمال حمدان بسبب نبوغه ومؤلفاته المبهرة غير المسبوقة، حيث تم منحه جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية سنة 1959، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة 1986، ووسام العلوم من الطبقة الأولى عن موسوعة شخصية مصر سنة 1988، كما حصل على جائزة مؤسسة التقدم العلمى بالكويت، كما عرض عليه عدة مناصب مثل تمثيل مصر في إحدى اللجان الهامة بالأمم المتحدة، ورئاسة جامعة الكويت وإنشاء وتولي إدارة وزارة التعليم العالى بليبيا وعضوية هيئة اليونسكو و عضوية مجمع اللغة العربية، لكنه رفض كل ذلك مكتفيا بالدراسة والبحث والكتابة في معشوقته الأولى الجغرافيا.

وقد عزل الدكتور جمال حمدان نفسه داخل مسكنه المكون من غرفة واحدة وصالة بالدور الأرضى بالعقار رقم 25 الكائن بشارع أمين الرافعى المتفرع من شارع هارون بالدقى، حيث لم يفتح باب شقته إلا للبواب من أجل أمور المعيشة ولناشر كتبه فقط، وعاش زاهدا وظل معتكفا داخل شقته الشبيهة بصومعة الراهب، حيث لم يكن الدكتور جمال حمدان يمتلك سيارة يوما أو تليفزيون أو حتى ثلاجة، حيث نذر نفسه فقط للبحث والدراسة والإبداع، ولذلك كتب عنه صديقه الكاتب والصحفي الكبير أحمد بهاء الدين يوما يصف حالته المادية ومسكنه غير اللائق بعبقري مثله، وكان يهدف من وراء ذلك مساعدته بأن تصرف الدولة له معاشا إستثنائيا يتعيش منه، ولكن وقعت الواقعة وكانت القطيعة بينهما حين علم الدكتور جمال حمدان بذلك، فقد غضب منه غضبا شديدا واستمرت مقاطعته لصديقه الذي كان مقربا إليه حتى الممات.

وكانت وفاة الدكتور جمال حمدان في يوم 17 أبريل سنة 1993 نتيجة اشتعال النار في جسده ومسكنه بعد تسرب الغاز من أسطوانة البوتاجاز الموجودة بمطبخه، وقد أشيع وقتها أن الموساد الإسرائيلي هو الذي كان وراء مصرعه، وذلك بسبب ما صرح به قبلها بأنه يعد كتابا عن اليهود والصهيونية يدحض فيه مزاعمهم بحقهم التاريخي في أرض فلسطين، ويكشف فيه أن اليهود الموجودين حاليا ليسوا من نسل اليهود الذين سكنوا أرض فلسطين قديما، والجدير بالذكر أن شقيقه اللواء عبدالعظيم حمدان بالإضافة إلى ناشر كتبه قد أعلنا أنه كان يعد لثلاثة كتب منهم جديدة منهم الكتاب المشار إليه، ولكن بعد وفاته لم يعثروا على أي أثر لأي من أصول هذه الكتب، وللأسف الشديد وكما تم تهميش هذا العالم الكبير وعدم تقديره في حياته فقد تم تهميشه بعد وفاته، فمن منا يسمع أو يقرأ في أي من وسائل الإعلام عن العالم الكبير الدكتور جمال حمدان رحمه الله إلا فيما ندر.
رحمه الله عليه .

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.