عاطف الطيب و أسرار لم تروي.. واجه الدولة بصمت ومات وفي قلبه حكاية لم تُكشف
رصدت عدسة عاطف الطيب واقع المجتمع بلا خوف، كان لا يبتسم كثيرًا، لكنه زرع في كل مشهد قنبلة أسئلة، و كل حوار يحمل وجهًا مختلفاً من وجوه الوطن، اسمه لم يكن مجرد توقيع على شريط سينمائي، بل كان دائما علامة تمرّد.
كتبت: ريهام طارق
عاطف الطيب.. كان أشبه بـ كاتب بيان سياسي يُلقيه بصوت الكاميرا هادئ كأنه لا يحمل هموما، لكن في الحقيقة كان يحمل وجع أمة بأكملها.. تارة يتهمونه بالخيانة، وتارة أخرى يحتفون به كـ عبقري.. ورغم ذلك لم يدافع عن نفسه أبدًا، وترك أفلامه ترد بدلاً عنه.
كيف لمخرج واحد أن يغيّر قواعد اللعبة؟
كيف لمخرج واحد أن يغيّر ملامح السينما؟ كيف لرجل هادئ الطباع أن يزلزل أركان السلطة، ويزرع الرعب في قلوب الفاسدين، بمشهد، أو جملة في حوار سينمائي؟ عاطف الطيب فعل ذلك وأكثر، في خمسة عشر عامًا، قدّم 21 فيلمًا أعاد بها صياغة الوجوه، وكشف المستور، وصنع من السينما منصة للمواجهة لا للهروب.
في السطور القادمة، أروي لكم سيرة مخرج ، ونفتح صندوقا من الأسرار… بعضها لا يزال غامضا حتى بعد رحيله.
ابن بولاق ولد بين الفقراء بائع لبن فكان الأصدق في ترجمة وجعهم والتعبير عن آلامهم على الشاشة:
وُلد عاطف الطيب في كنف أسرة فقيرة، وتربى في حي بولاق الدكرور، أحد الأحياء الشعبية في القاهرة، حيث تمزج الحياة بين الفقر والكرامة، وبين الصخب والبساطة، رأى هناك الناس بلا أقنعه، بلا رتوش.. عاش بينهم، وشاركهم تفاصيلهم اليومية، استوعب أحلامهم الصغيرة، وشعر بهمومهم الثقيلة، و رأي كيف يواجهون الحياة بجلد، وكيف تلمع عيونهم بفرحة بسيطة، و تنطفئ بألم أصبح مع الوقت مألوف لهم مصاحبته.
كان والده رجل بسيط يمتلك محلا لبيع الألبان في حي الدقي، وكان عاطف، خلال دراسته الثانوية، يساعد والده في توصيل اللبن إلى المنازل، ويؤدي أعمال بسيطة أخرى لكسب لقمة العيش، كان فتى من الطبقة الفقيرة بامتياز، لكنه امتلك ثراء فاحش من نوع آخر، وهو مخزون ثري من التجارب و المعايشة الواقعية للشارع المصري.
التحق بالمعهد العالي للسينما عام 1966، ولكن جاءت نكسة يونيو، والتحق بالخدمة العسكرية، ثم شارك في حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، وشهد لحظة النصر، هذا الانتصار لم يكن مجرد ذكرى، بل تحول إلى وعي ترسب في وجدانه، وانعكس بوضوح في أعماله، التي كثيرًا ما حملت إشارات فنية وإنسانية لروح أكتوبر، وصلابة ومعدن الجندي المصري.
من “الغيرة القاتلة” إلى “سواق الأتوبيس”… كيف انطلق عاطف الطيب من الصفر ليصنع تاريخًا لا يُنسى؟
بدأ عاطف الطيب، رحلته في عالم السينما من خلف الكاميرات، حيث عمل مساعدا لعدد من كبار المخرجين مثل :”مدحت بكير، محمد شبل، شادي عبد السلام، ويوسف شاهين.
اخرج عدد من الأفلام الوثائقية القصيرة، متدرجًا بخطى ثابتة ومثابرة حتى شق طريقه نحو الإخراج الروائي الطويل، حتي جاءت باكورته السينمائية بعنوان “الغيرة القاتلة“، لكنه لم يحقق النجاح المرجو حينها.
أما انطلاقته الحقيقية، كما كان يُحب أن يسميها، جاءت في عام 1982، عندما بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، مع فيلمه الأشهر “سواق الأتوبيس”، فيلم وُلد عملاقا، وحقق نجاحا فنيا مدوّيًا، حتى اعتبر أحد أعمدة السينما الواقعية في مصر، لم يكن مجرد نجاح عابر، بل إن الفيلم وُثّق في المركز الثامن ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، واحتل المركز 33 في قائمة أفضل مئة فيلم عربي.
وفي عام 1984، أخرج رائعته الواقعية “التخشيبة“، من بطولة أحمد زكي، ثم أتبعه في عام 1985 بفيلمه الشهير “الزمار“، من بطولة نور الشريف، مؤكّدًا أنه لم يكن مخرجًا موهوب فقط بل مشروعًا لعبقرية سينمائية سينمائيًا.
في عام 1986، بلغ عاطف الطيب ذروة نضجه الفني، وكان على موعد مع توقيع أحد أعظم مشاهد الإبداع في سينما الواقعية، ففي هذا العام، قدّم رائعته الخالدة “الحب فوق هضبة الهرم“، المأخوذة عن قصة للأديب العالمي نجيب محفوظ، وبطولة النجم أحمد زكي، الذي أصبح شريكه الروحي في تقديم الشخصيات المنتمية لنبض الشارع والإنسان البسيط.
لم يكتفي الطيب بذلك، بل أضاف إلى رصيده تحفة سينمائية أكثر جرأة وإيلامًا، وهي فيلم “البرئ“، عن قصة كتبها ببراعة الكاتب الكبير وحيد حامد، و جسّدها أحمد زكي بأداءٍ اعتُبر من أصدق ما قُدِّم في تاريخ السينما العربية عن القهر والانتماء والصراع الداخلي، وظهرت فيه عبقريه النجم العظيم محمود عبد العزيز التمثيلية.
حقق الفيلمان نجاحًا فنيًا باهرًا، وقد احتل فيلم “البرئ”، المركز 28، ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، بينما جاء “الحب فوق هضبة الهرم” في المركز 68 في القائمة ذاتها، ليؤكد الطيب أن السينما الواقعية لم تكن فقط أسلوبًا، بل رسالة يحملها على كاهله .
من “أبناء وقتلة” حتى “قلب الليل” و فيلم “كتيبة إعدام”.. قدم الطيب سينما بلا مساومة:
في عام 1987، واصل عاطف الطيب توهّجه الإبداعي، فعاد ليُقدّم تحفته السينمائية “أبناء وقتلة“، من بطولة النجم الكبير الراحل محمود عبد العزيز، ثاني فيلم له مع الطيب حيث رسم ملامح معقدة للإنسان الممزق بين الخضوع والمقاومة، ويعتبر من أهم الأعمال في حياة الفنان الكبير أحمد سلامة، وفي العام ذاته، أخرج فيلمه “ضربة معلم“، عن سيناريو كتبه المبدع بشير الديك، وجسّده النجم القدير نور الشريف، بمشاركة نخبة من أبرز نجوم الساحة الفنية آنذاك.
وفي عام 1988، عاد عاطف الطيب ليُحلّق مجددًا مع محمود عبد العزيز، في فيلمه “الدنيا على جناح يمامة“، ثالث عمل لهم معا ، والذي قدّم فيه قراءة بصرية شاعرية للواقع المصري، ممزوجة برمزية راقية.
لكن عام 1989 كان عامًا استثنائيًا بكل المقاييس، و قدّم خلاله فيلمين من العيار الثقيل، يحملان توقيعه وجرأته المعهودة، الأول هو “كتيبة الإعدام“، عن سيناريو كتبه إمبراطور الدراما أسامة أنور عكاشة، تطرق فيه بجرأة إلى قضية الرأسمالية في عصر الانفتاح مستعرضًا كيف تحولت الشعارات إلى مطامع، والأحلام إلى صفقات، وقد أثار ضجة واسعة عند عرضه، لما حمله من نقد سياسي واجتماعي لاذع، وفي نفس الوقت حقق نجاح جماهيري ساحق.
أما الثاني فكان فيلم “قلب الليل“، قصة الأديب العالمي نجيب محفوظ،، وسيناريو الكاتب محسن زايد، أحد أبرع من ترجموا أدب محفوظ إلى الشاشة الفضية.
حين تحدى عاطف الطيب الخطوط الحمراء و فجر الغضب الشعبي بفيلم ممنوع، وآخر مازال يدرس؟
في عام 1991، قدّم عاطف الطيب واحدة من أعظم تحفه السينمائية وأكثرها تأثيرًا في وجدان الجمهور والنقاد، وهو فيلم “الهروب“، الذي جسد فيه النجم الراحل أحمد زكي، شخصية “منتصر”، تلك الشخصية التي تحولت إلى رمز لـ التمرد والبحث عن العدالة في ظل مجتمع يطارد الإنسان البسيط حتى النهاية، فيلم “الهروب” كان بيانا سينمائيا يحمل توقيع مدرسة الطيب الواقعية الصادمة، التي لا تجامل ولا تُجمل الوجع.
ثلاث ضربات مدوية.. اتهم بالخيانة.. ووقف مستشار الرئيس لحمايته:
قدم عاطف الطيب فيلم “ناجي العلي”، عام 1992، تناول فيه سيرة رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير، الذي أثار ضجة سياسية وإعلامية كبرى حالت دون عرضه لفترة، بسبب جرأته السياسية، وصلت إلى حد اتهامه بـ”الخيانة” من قِبل الكاتب الراحل إبراهيم سعدة، إلا أن تدخل الدكتور أسامة الباز، مستشار الرئيس الراحل حسني مبارك، أنقذ الموقف و أوقف حملة الهجوم، ما دل على ، دعم سياسي ضمني لفن الطيب النظيف.
وفي نفس العام قدم فيلم “ضد الحكومة“، الذي عاد فيه للتعاون مع أحمد زكي، مقدمًا أحد أبرز أفلام السينما العربية في نقد السلطة والفساد والتواطؤ المجتمعي، من خلال محامٍ يتحوّل إلى رمز للضمير الغائب، واختتم العام بفيلم “دماء على الأسفلت”، المستند إلى قصة كتبها ببراعة أسامة أنور عكاشة، حيث واصل الطيب نبش التناقضات الاجتماعية والسياسية في قالب سينمائي واقعي، شديد التأثير والصدق، والذي أعاد فيه اكتشاف لبلبله وقدمها بشكل جديد ومختلف كان مفاجأة لجمهورها ومحبيها.
جواهرجي النجوم: كيف أعاد عاطف الطيب اكتشاف عمالقة الشاشة؟
لم يكن المخرج الراحل عاطف الطيب، مجرد صانع أفلام، بل كان صائغًا بارعًا في إعادة تشكيل وجوه النجوم، واكتشاف أعماق لم يُرَ لها مثيل في مواهبهم، برؤية إخراجية ثاقبة وأسلوب واقعي جريء، قدّم الطيب نجومًا بأدوار صنعت تحولات محورية في مسيرتهم الفنية، ليصبح اسمه مرادفًا للصدق الفني والجرأة في الطرح.
نور الشريف وأحمد زكي.. رفقاء دربه في الحلم والوجع:
ظل النجم نور الشريف ابن حي السيدة زينب، الفنان المثقف الممثل الأكثر حضورًا في أعماله، و له النصيب الأكبر من تعاونات الطيب، حيث شارك في تسعة من أبرز أفلامه، منها “سواق الأتوبيس”، “كشف المستور”، و”الليل، وآخره”، لتظل هذه الأفلام شاهدًا على تلاقي عبقريتين في آنٍ واحد، وصف نور الشريف عاطف الطيب بأنه نجيب محفوظ السينما المصرية، حيث أن نجيب محفوظ هو ملك الأدب الاجتماعي وأدب الحارة، وعاطف الطيب هو ملك الواقعية الاجتماعية للحارة المصرية في السينما المصرية.
بينما قدم عاطف الطيب النجم محمود عبد العزيز بشكل صادم ومختلف للجمهور في فيلم “أبناء وقتلة”، وصنع مع أحمد زكي ثنائية استثنائية في أفلامه
وقدم عاطف الطيب الفنانة الكبيرة لبلبة، في أدوار تراجيدية غير مسبوقة، مثل “ضد الحكومة” و”ليلة ساخنة”، لترتقي إلى مصاف النجمات القادرات على تجسيد الألم الإنساني بعمق مذهل، كذلك تألق ممدوح عبد العليم في “البرئ”، وهالة صدقي في “الهروب”.
اقرأ أيضاً: هاني الأسمر يطرح “أغلى من عنيا” ديو غنائي مع حسن الأسمر بتوقيع محمود الخيامي
ديكتاتور في الكواليس.. عبقري في الرؤية
رغم هدوئه وابتسامته في الحياة الخاصة، كان عاطف الطيب، صارمًا في موقع التصوير، لا يسمح بأي مساومة على جودة العمل أو انضباطه، كان يؤمن أن المخرج الحقيقي يجب أن يكون صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وكان يرفض تمامًا تدخل النجوم في قراراته الإخراجية مهما كانت شهرتهم.
كان يختار أبطال أفلامه بنفسه، ويفرض التزامًا صارمًا على الجميع ومن أبرز مواقفه المهنية، رفضه الشديد لقيام روبي بتصوير عمل آخر أثناء مشاركتها في فتاة المصنع، و أمهلها فرصة واحدة فقط للاختيار، مؤكدًا أن التركيز الكامل شرط النجاح.
اقرأ أيضاً: نرمين الفقي: الزواج رزق من الله وأدعوه أن يعوّض وحدتي بعوض جميل
الحب الوحيد في حياته.. حكاية السيدة “أشرف”
وراء هذا المبدع الصارم، قلب نابض بالحب والوفاء، فقد ارتبط بعلاقة حب واحدة مع زوجته السيدة “أشرف”، بدأت القصة في 28 سبتمبر 1982، حين التقيا للمرة الأولى، ورغم الظروف المادية الصعبة التي مر بها بعد فشل فيلم “الغيرة القاتلة”، لم يتخلي الطيب عن حلمه في الارتباط بمن أحب، ادخر ما يملك حتى جمع 2000 جنيه، و تقدّم لخطبتها، و تزوجا بعد ذلك، واستمر زواجهما حتى وفاته المفجعة في عام 1996.
ثنائيات من ذهب.. حين اجتمع الطيب مع عمالقة الكتابة
امتلك عاطف الطيب قدرة استثنائية على تحويل النصوص القوية إلى أفلام نابضة بالحياة. تعاون مع نخبة من كبار الكُتّاب:
مع وحيد حامد : 5 أفلام
مع بشير الديك: 4 أفلام
مع مصطفى محرم: 3 أفلام
مع أسامة أنور عكاشة: فيلمين
جوائز عالمية وإرث خالد:
نال المخرج عاطف الطيب جائزتين دوليتين عن فيلم “سواق الأتوبيس”، هما:
جائزة العمل الأول في مهرجان قرطاج السينمائي
جائزة السيف الفضي في مهرجان دمشق السينمائي الدولي
رحيل مفاجئ.. حين توقّف قلب السينما… ورحل صوت الواقع بصمت النبلاء
في عام 1996، أسدل الموت ستاره على مشهد لم يُرِد له أحد أن يُصوَّر فقد رحل عاطف الطيب، إثر أزمة قلبية ألمّت به بعد عملية جراحية بالقلب، تاركًا خلفه فراغًا لا يُملأ، ودمعة لم تجفّ في عيون السينما المصرية.
رحل وهو في قمة عطائه، بعدما وهبنا خلال خمسة عشر عامًا فقط واحدًا وعشرين فيلمًا، لا تزال محفورة في ذاكرة كل من أحب الفن النظيف، منذ عام 1982 حتى 1995.
ظل عاطف الطيب يقدّم أفلامًا لم تُزيّف الواقع، بل عرّته، واجهته، واحتضنته في آنٍ واحد، رحل وعمره لم يتجاوز الـ ثمانية والأربعين عامًا، لكن ما قدّمه في ثلاثة عشر عامًا فقط من الإبداع، يكفي ليُخلّد اسمه بين عظماء صناع السينما حاملا وسام الضمير الحيّ للسينما، وبرحيله، فقدت السينما المصرية واحدًا من أنقى مخرجيه، لم يُساوِم يومًا، لم يُهادن.. لم يخن فنه أو جمهوره، فبقي اسمه، خالدا للأبد
القائمة الذهبية لـ أفلام عاطف الطيب:
“أبناء وقتلة، كشف المستور، سواق الأتوبيس، ضد الحكومة، ليلة ساخنة، جبر الخواطر، دماء على الأسفلت، ناجي العلي، قلب الليل، الهروب، كتيبة إعدام، الدنيا على جناح يمامة، البدروم، ضربة معلم، ملف في الآداب، ابتسامة واحدة لا تكفي، الحب فوق هضبة الهرم، البرئ، الغيرة القاتلة، الطوق و الأسورة، فتاة المصنع”.