عمرو دوارة.. حارس ذاكرة المسرح الذي هزم النسيان
من هندسة الأرقام إلى هندسة المشهد.. رحلة البدايات
سلك الدكتور عمرو دوارة دربا استثنائيا في حياته المهنية. فقد حمل في بدايته بكالوريوس الهندسة، واستكمل دراسات عليا في نفس التخصص، قبل أن يستجيب لنداء الفن الذي كان يجري في دمه، فيلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية و يتخرج فيه عام 1984 . هذا التنوع في التكوين منحه نظرة فريدة جمعت بين الدقة الهندسية والمنهجية الصارمة، وبين الحس الفني والرؤية الإبداعية .
ولم يكن مفاجئا أن ينشأ هذا الشغف في بيئة مثقفة؛ فهو نجل شيخ النقاد المسرحيين فؤاد دوارة، الذي ورث عنه حب المسرح وعشق التوثيق. لكن المفارقة التي كشفها دوارة في أحد أحاديثه كانت أن أباه هو “أكثر شخص حاربه” كي لا يعمل في الفن كمخرج أو ناقد، نظرا لقرابة الأب من الوسط ومعرفته بمصاعبه. إلا أن إصرار الابن كان أقوى، وقد نفذ الوصية الوحيدة لأبيه وهي إكمال دراسة الهندسة أولا، وهو ما أثمر لاحقا عن أدوات منهجية دقيقة أفادته بشكل كبير في مشروعاته التوثيقية الهائلة .
مشوار إخراجي حافل.. وتكوين على يد الأساتذة
تتلمذ عمرو دوارة على يد أحد عمالقة المسرح المصري، المخرج كرم مطاوع، حيث عمل مساعدا ومخرجا منفذا له في عروض عديدة بإنتاجات المسرح القومي . وهذه المدرسة الصارمة شكلت وعيه الفني و صقلت موهبته، وجعلت منه مخرجا يجمع بين الأصالة والتجديد .
على مدى مسيرته، أخرج دوارة خمسة وستين عرضا مسرحيا، قدم نصفها تقريبا على خشبات مسارح الدولة، بينما قدّم النصف الآخر مع فرق الهواة، مؤمنا بأن المسرح ليس حكرا على المحترفين، بل هو فضاء حيوي للجميع . ومن بين أبرز أعماله الإخراجية: “وهج العشق”، “خداع البصر”، “عصفور خايف يطير”، “النار والزيتون”، و”قمر الغجر” الذي كان بمثابة وداع فني لجمهوره .
الناقد والمؤرخ.. حارس ذاكرة مسرح تائه
إذا كان الإخراج هو جانب من عطاء دوارة، فإن النقد والتوثيق كانا شغله الشاغل و إنجازه الأكبر. كتب الفنان أكثر من ألف مقال ودراسة نقدية، متابعا كل صغيرة وكبيرة على الساحة المسرحية، محللا و ناقدا و مشجعا، لكن دائما من موقع الحب العميق للفن والحرص على تطوره .
أما الإنجاز الأعظم الذي سيخلد اسمه، فكان موسوعته الضخمة “موسوعة المسرح المصري المصورة”، والتي تعد كنزا توثيقيا لا يقدر بثمن. استغرقت هذه الموسوعة 27 عاما من عمره، جمع فيها وعرض كل ما استطاع أرشفته من عروض مسرحية من مصادرها المختلفة . وقد مكنته هذه الموسوعة من دحض العديد من المقولات التاريخية المغلوطة، حيث أثبت أنه “ليس هناك ما يسمى بالفرق الشامية في مصر”، وكذلك أثبت أن “مسرح الصالات هو ليس مسرح كباريهات” كما كان شائعا .
ولم يتوقف إنتاجه عند هذا الحد، فأصدر أكثر من 35 كتابا تناول فيها أعلام المسرح المصري والعربي . ومن بين مشاريعه التوثيقية الطموحة أيضا موسوعة “سيدات المسرح المصري”، وهو عمل ضخم يضم أسماء 1500 سيدة مسرح من بدايات المسرح الحديث عام 1870، مع توثيق السيرة الذاتية والمسيرة المسرحية لمئة وخمسين منهن بتصنيفات دقيقة .
صوت صارخ في وجه الأزمة.. تشخيص داء المسرح
كان لدوارة رؤية نقدية ثاقبة لأزمة المسرح المصري، لم يتوان عن التعبير عنها بصراحة ووضوح. كان يرى أن أزمة المسرح حقيقية و متفاقمة، وأن “من ينكر وجودها أو يتغافل عنها هو إنسان مغيب غير واعى أو مضلل لأهداف ومصالح شخصية” .
لخص دوارة مظاهر هذه الأزمة في عدة نقاط جوهرية، منها:
غياب الجمهور عن متابعة العروض، بسبب ارتفاع أسعار التذاكر، وضعف مستوى العروض، وعدم ارتباطها بالواقع، وسوء البنية التحتية للمسارح .
تقلص الإنتاج وتراجع ميزانيته. حيث كانت فرق مثل “المسرح القومي” و”المسرح الكوميدي” تقدم في السبعينيات والثمانينيات ما بين 5 إلى 7 عروض جديدة سنويا. بينما لا تقدم الآن سوى عرضين على أفضل تقدير .
اختفاء الفرق الخاصة التي كانت تنتج أكثر من ثلاثين عرضا سنويا. ولم يتبق في الساحة سوى فرق قليلة مثل فرقة محمد صبحي .
فقدان الهوية لفرق الدولة. حيث لم يعد هناك فرق حقيقية بين عروض فرق الشباب و الطليعة والقديمة مثل القومي والكوميدي .
رائد المبادرات وصانع الأجيال
لم يكتف دوارة بالتوثيق والنقد. بل كان صاحب مبادرات عملية أسهمت في إثراء الحركة المسرحية. فهو مؤسس الجمعية المصرية لهواة المسرح عام 1982. التي احتضنت المواهب الشابة و أسهمت في انطلاق الحركة المسرحية الحرة. كما أطلق مهرجان المسرح العربي، الذي جمع المبدعين العرب وخلق مساحة للتبادل الثقافي والفني. وكان له فضل المبادرة والدعوة إلى الاحتفال بمرور 150 عاما. على تأسيس المسرح المصري الحديث، وهي الدعوة التي تبنتها وزارة الثقافة لاحقا .
تكريم متأخر.. وإرث لا يموت
حظي دوارة بالتكريم في عدة محافل. كان آخرها خلال الدورة الثامنة من مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي في نوفمبر 2023 . كما نال جائزة الدولة للتفوق في الآداب عام 2022، تقديرا لمسيرته الثرية .



