“عم عبرة” قصه قصيره للكاتبه زينب بدر

عم “عبرة” ..

شيخٌ مسنٌ رقيق الحال .. تراه في جلبابه الأبيض النظيف دائمـًا , وقد خطت السنوات خطوطها على وجهه النحيف .. قمحي اللون .. يطلق الناس عليه ” ساحر المدينة ” .. لم يكن مشعوذًا أو دجالا , بل كان سحره للناس نابعـًا من حكاياته التي لا تنفد و لا يمل أحدٌ سماعها , و بساطته في لقاء الناس و احتواءه لهم مهما كانت صفاتهم و فكرهم المتفق معه أو المختلف و المخالف له أو بساطة تعليمهم أو حتى أميتهم , و مهما كان عمرهم فالكبير يجد ضالته عنده و الصغير , فهو يتعامل مع كل الناس بالرحمة و المودة , و ما هي إلا أن تتحرك شفتاه و يبدأ في حكاياته حتى تجد نفسك و روحك قد تعلقتا به و أنت أسير مجلسه .. لا تريد أن ينتهي من قصصه أبدًا , و الزمان ينام عند قدميه في هدوء و سكينة .
هذا هو “عم عبرة” الذي أخذ من اسمه بالحظ الوافر , فهو لماحٌ , متوقد الذهن , يقظٌ منتبهٌ حساس .. تمطر الحكمة من حكاياته على ظمأ النفوس للحياة و الحب , و تتساقط قطرات العبرة من أبطال حكاياته الرائعة , و هو في مجلسه الذي لا يتغير على مقعده الخشبي القديم المتهالك الذي يكبرني سنـًا و يشغل مدخل دكان “عم عبرة” الصغير الذي لا يتجاوز طوله المتر و النصف و عرضه بالكاد مترًا واحدا , يحفظ “عم عبرة” كل تفاصيل دكانه المتواضع عن ظهر قلب , فهو يعرف أين يجد ما يريده ببساطة ٍ و يسر ٍ , فبمجرد أن يمد يده ليأتي لك بما تريد , تجده في يده و كأنه يلتقطه أو يسعى الشيء إليه طائعـًا مختارًا , لا تخطئ أنامله الطويلة الرفيعة فيما تريد أن يتناوله من بين مئات الأصناف المتراصة في نظام هو وحده يعرف كيفيته و لا تكاد أن تميز بعينيك صنفـًا من آخر , لا يأتي أحدٌ ليشتري من “عم عبرة” شيئـًا إلا وجده عنده مهما كانت غرابته , بل و استمع إلى حكاية ٍ من حكاياته المتجددة و التي تلقى قبولا و توفيقـًا دائمين مع حالة من يسمعها و ينصت لها قلبه , كان يروي قصصه بهدوءٍ لا تمله القلوب و همس ٍ تعشقه الآذان , و كنت أذهب إليه دائما لأستمع إلى حكاياته و أشتري ما أريده و ما لا أريده , و أترك روحي تحلق في رحابة خياله ألا نهائي , و تسبح نفسي في بحور الجمال و الحب و القيم النبيلة , و عندما ينتهي من حكايته الجديدة لي كل مرة أعود إلى البيت و أنا لا أسمع إلا همساته تترقرق في أذني و حكايته تملأ كل كياني , أتمدد على فراشي و أنام و على شفتي ابتسامة رضا و سعادة و أحلم بما أسمعه لي “عم عبرة” , و كان حلمي الأثير الذي لا يفارق خيالي هو بـ ” الشاطر حسن ” الذي أخرجه لي “عم عبرة” من مصباح حكاياته السحري , و جعله يتغلغل في كل كياني و يملأ روحي ببهجة لقاءه الذي أنتظره كل يوم فقد أخبرني “عم عبرة” بأنني إذا حلمت به فسيأتيني يومـًا ما , فإن كل ما يحلم به الناس الطيبون يأتيهم مثله , و كنت أصدقه و أصدق نفسي و أنتظر قدوم ” الشاطر حسن ” كل ليلة في الحلم و كل يوم في الحقيقة .
أحببت “عم عبرة” كما لم أحب أحدًا من قبل , و ارتبطت حياتي به فقد كان يملأها بهجة و نبلا و حبـًا صافيـًا,فمع كل إشراقة شمس يوم جديد أسمع حكاية جديدة من “عم عبرة ” و أنتظر أن يأتيني “الشاطر حسن” , و في كل ليلةٍ أحلم بـ “الشاطر حسن” و البطل الجديد لحكاية “عم عبرة” الجديدة , و سؤال يتردد صداه في نفسي و يؤرقني أني لا أجد إجابة له .. لماذا أجد “عم عبرة” على مقعده الخشبي القديم ؟! .. لا يفارقه أبدًا ليلا أو نهارًا إلا عند سماع صوت الآذان من زاوية الشيخ “حمزة” التي تقع على ناصية الحارة المواجهة لدكان “عم عبرة” ..؟ لماذا لا يذهب إلى بيته الواقع في آخر الحارة و الذي لا يبعد إلا بضعة أمتار ٍ عن دكانه العتيق الضيق ؟! .. لذلك و ذات صباح قررت أن أسأله عندما أذهب إليه و أنا أتحجج بشراء شيء لا أحتاجه عادة .. و عندما وقفت بين يديه و طلبت منه ما أريده و عيناي لا تنظران إليه و تهربان من عينيه , فابتسم لي ابتسامته الرقيقة العذبة و قال لي في هدوءه الرائع و بصوته الحنون : إنتي عايزة إيه يا “زينب” بالظبط ؟ .. لم أستطع أن أنطق و تلعثمت حروفي بين شفتي و لم أقدر على أن أنظر إلى عينيه اللتين كانتا تتفحصان كل حركاتي و سكناتي و تعدان أنفاسي التي تتلاحق في صدري و تنصتان إلى دقات قلبي التي كنت اسمعها كالطبول تصم الآذان .. و لم أدر كيف أفلتت كلماتي مني و أنا لا أسمعها و لا أكاد أميز هل من قالها أنا أم هو ؟!! .. ما كنت أتصور أو أتخيل أن هذا السؤال الذي سألته له يمكن أن يكون قاسيـًا و صادمـًا لـ “عم عبرة” بهذا الشكل .. فما هو المبرر لحالته التي أصبح عليها بعد سؤالي له عن سبب عدم ذهابه لبيته و جلسته التي لم يغيرها على مقعده الذي تتصور أنه أصبح جزءًا من “عم عبرة” ..؟!! ارتعشت يدا “عم عبرة” و توترت أعصاب جفونه و جفلت عيناه و أغمضهما كما لو كان إلى الأبد , رفع وجهه إلى السماء ببطء ٍ و هدوء ٍ و كأنما الزمان وقف ليستوعب كل حزنه و قسوته في تلك اللقطة و يلقيهما على وجه “عم عبرة ” بلا مبالاة متعمدة لتزيد من شعوري بالذنب مما اقترفت من الم ٍ لهذا الشيخ الكبير .. تدافعت كلماتي الممزوجة بالألم و قلت له في محاولة يائسة للتخفيف عنه : ( أنا آسفة يا “عم عبرة” .. أنا مش قصدي أزعلك .. أنا بحبك و كنت عايزة اطمن عليك ..و الله ما قصدي حاجة .. ) لم يفتح عينيه و لم يرد غير أني كنت أرى دموعـًا تتراكم و تتزاحم و تكاد تنفجر خلف جفنيه الواهنين .. مددت يدي و ربت على كتفه فانتفض جسده المتهالك و انكمش على نفسه و كأنه سيبدأ في التلاشي .. سحبت يدي بسرعة و انصرفت كأنني أهرب من ذكرياته التي أحسست أنها تطاردني و تحاول أن تلحق بي و تطعن قلبي بسكينها البارد و تدوسني تحت أقدامها الثقيلة بقسوة أستحقها .. جريت الى البيت و الألم يعتصر قلبي مما سببته من حزن ٍ و ألم ٍ لـ “عم عبرة” سرعان ما عصف بفرحتي التي تعودت عليها بعد كل لقاء ٍ بـ “عم غبرة” و تسرب الى أحلامي ليلتها حتى أني و لأول مرة ٍ منذ حلمت بـ “الشاطر حسن ” يعطيني ظهره و يتركني في صحراء الوحدة و الريح تردد اسمي وعواء ذئابٍ جائعة .
تملكني الأرق و كلما أغمضت عيني رأيت عيونـًا مغمضة تحملق في وجهي بحزن ٍ و كآبة .. و وجه “عم عبرة” يلومني و يؤنب ضميري من جراءتي في التطفل على حياته التي ما كان ليتحدث عنها مع أي أحد .. فهو لا يتحدث عن نفسه أبدًا حتى أنك لا تكاد تسمع كلمة أنا في حديثه و كأنها مفردة سقطت عمدًا من قاموسه عندما يتحدث مع الناس ..
لم أنم ليلتها و لم أرى للنوم سبيلا إلى عيني إلا من بعض اغماضاتٍ أرى فيها طيوفـًا و خيالات ٍ حزينة .. كنت انتظر الصباح يجيء لينقذني مما أنا فيه من الكمد و الحسرة و تأنيب الضمير .. حتى إذا ما أشرقت الشمس و فرشت نورها على الأرض قمت من فراشي و غسلت وجهي و كانت عينايّ تؤلماني و بالكاد أستطيع فتحهما .. ارتديت ملابسي على عجل ٍ و نزلت إلى الحارة .. و عندما مررت بـ “عم عبرة” لم أستطع أن أنظر إليه أو حتى ألقي تحية الصباح عليه كعادتي .. تجاوزت دكانه و أنا أنصت بكبرياء إلى نفسي تحدثني أنه سينادي عليّ .. و سأتصنع عدم سماعه حتى يكررها مرة أو مرتين و عندها سأذهب إليه بعد أن أكون قد تخلصت من عناء الأسف المباشر له و الاعتذار منه .. ما هذا ..؟!! لم أسمع صوته يناديني ..!! نعم .. هو لم يناد عليّ ..!! لقد خانني غروري و كبريائي و إحساسي بمكانتي عنده و حبي له و حبه لي .. مع أني أشعر بعينيه تتبعاني و تلحقان بي .. أسرعت و انعطفت في أول حارة مررت بها و قلبي يخفق بشدة و أنفاسي تتلاحق في صدري و جبيني يتصبب عرقتًا باردًا و شفتاي ترتعشان و برودة ثقيلة تسري في جسدي و تتغلغل في كل خلاياي .. يا الله … أأنا من تفعل ذلك ..؟!! ألا أمر على ” عم عبرة” و أتصنع أنني أشتري منه شيئًا لا أريده حقيقة ؟!! .. ألا ألقي عليه تحية الصباح ككل يوم و أسمع عذوبة رده و دعائه التي تجعل يومي أكثر بهجة و تألقـًا ..؟!! يا لخسارتي ..!! .. ماذا أفعل الآن ..؟ هل سأظل في هروبي منه و أتخلى عن حكاياته التي أعيش بها و أحلامي التي تعينني على الحياة و أترقبها كل ليلة في منامي ..؟!! لا يمكن .. سأعود إليه معتذرة نادمة و أجلس بين يديه .. أسمع منه و أنصت لحروفه و هي تسيل من بين شفتيه الواهنتين كجدول ماء رقراق ٍ .. و لكني سأسأل أبي عن حكاية “عم عبرة” التي لا يرويها لأحد .. نعم هذا هو السبيل الوحيد لأطفئ ظمئي في معرفة سر “عم عبرة” .. انتظرت عودة أبي من عمله و عندما أقبل عليّ ليطمئن على أحوالي كعادته ..سألته بشكل مباشر عن حكاية “عم عبرة” التي لا يقولها لأحد و لا أعرفها .. نظر أبي طويلا إليّ و تنهد تنهدة حارة من القلب و بدأ يحكي لي عن “عم عبرة” الذي بلغ الخامسة و الثمانين من عمره و قد ماتت زوجته منذ سنوات بعيدة و تركت له إبنتين و ولد وحيد .. و مرت الأيام و تزوجت الإبنتان في يوم واحد و سافرتا كل واحدة مع زوجها للعمل في دول البترول .. أما الولد فقد تعرف على سائحة أوربية أثناء عمله في “خان الخليلي” و سافر معها و تزوجها هناك و انقطعت أخباره من يومها كما انقطعت أخبار البنتين حتى جاء اليوم الذي تلقى فيه مكالمة تليفونية من زوج إحدى إبنتيه يخبره أنها ماتت و سيرسل جثتها له ليدفنها بمعرفته و لولا أنه لا يمكنه النزول في هذا الوقت لكان معها هو و الأولاد .. ذهب “عم عبرة” وحده و استلم جثة إبنته و جاء بها إلى هنا و قام بدفنها وحده .. و عندما عاد من المقابر .. ذهب إلى دكانه و فتحه و جلس على مقعده الخشبي القديم .. و من ساعتها لم يذهب إلى بيته و لم يغادر مجلسه ذلك إلا عند الصلاة فقط ..
يا الله .. كل هذا الهم يحمله “عم عبرة” في قلبه ..!! و خزائن الحزن تلك التي تطل من عيونه و لا ترى مفاتيحـًا لها في عيون الناس ..!! كيف له أن يبتسم هذه الابتسامة المملوءة رضا و التي لا تفارق وجهه أبدًا ؟! و كيف له أن يزرع الأمل في قلوب الناس و قد عصف اليأس بكل ماله في الحياة من بيت و زوجة و أولاد ..؟! كيف له أن يكون ملء قلوب الناس و أنيسـًا لهم و وحدته تسير معه أينما راح كظلٍ يخشى أن يفقد صاحبه ..؟!
سأذهب إليه الآن و أعتذر منه و أقبل جبينه و أمسح حزنه بدموع عيني .. غير أن أبي باغتني بسؤاله لي عن سبب سؤالي عن حكاية “عم عبرة” اليوم .. فلم أجد جوابًا فأخبرني أنه عائد لتوه هو و أهل الحارة بعد أن قاموا بنقل “عم عبرة” إلى المستشفى الجامعي القريب من “الجمالية” و حالته حرجة و ممنوع من الزيارة و الكلام .. و تدحرجت دمعة من عين أبي و تحجرت دمعات في مقلتي و تسمرت قدماي في الأرض و اسودت الدنيا في عيني و لم أدر بعد ذلك نشئ إلا و أبي و أمي و إخوتي من حولي و هم يحاولون إفاقتي بعد أن سقطت مغشيـًا عليّ .. ها أنا أموت من حزني عليه و من حزنه الذي تسببت فيه .. ها أنا أزرع الآلام في قلب رجلٍ يملك صندوق ذكرياتي و مفاتيح حياتي و قلبي الذي لا يقدر على العيش بدونه .. ها أنا أطفئ شمعة أحلامي التي تقويني عل أن أحتمل هذه الحياة و تؤنس وحدتي و وحشة انتظاري الطويل لـ “الشاطر حسن” ..
ليس لي الآن إلا أن أحزم حقائب غربتي للسفر إلى إحدى دول البترول حيث سأعمل كمُدرسة للغة العربية .. لقد جاءتني التأشيرة و تذكرة السفر .. سأسافر بعد ثلاثة أيام .. سأسافر دون أن أرى “عم عبرة” أو أسمع منه حكاية أخيرة تساعدني على تحمل الغربة حتى أعود إليه و أجلس بين يديه و أسمع منه حكايات جديدة سيبقيها لي ككنز ٍ يفتحه لي عند عودتي ..
سافرت و لم أره .. و حالته بدأت تستقر ـ هكذا أخبرني أبي ـ في رسالته الأولى لي في الغربة و في الرسالة الثانية أخبرني أبي أن ” عم عبرة” سأل عني و علم بسفري ..
مرت شهور في الغربة لم يهونها عليّ إلا أحلامي القديمة التي كنت أجترها من حكايات “عم عبرة” التي تملأ روحي و عقلي و التي كان يقصها علي كل ليلة من كتاب ذاكرتي بصوته الهامس و ابتسامته الراضية المطمئنة و وجهه الطيب الحنون .. انقطعت الإجابات على أسئلتي عن “عم عبرة” رغم إلحاحي الطويل في السؤال و إصرار أبي على تجاهلها و لم أكن أعلم لماذا ..؟!
مرت شهور الدراسة ثقيلة موحشة .. و حان يوم العودة للوطن و “الجمالية” و “عم عبرة” و “الشاطر حسن” .. و ها أنا أعود اليوم ..أحمل حقائبي و ذكريات تتقافز أمامي في فرح و سرور و تطير بي في حارات “الجمالية” و تعطرني بروائح الزمن الأول و كانت عيناي تبحثان عنه ـ و عنه وحده ـ في كل الوجوه و أذناي تتسمعان و تنصتان بشوق لهمسات حكاياته ..
سأدخل الحارة التي على يميني و أمر من أمام زاوية “الشيخ حمزة” لأجد دكان “عم عبرة” على يساري .. ها أنا أمر من أمام زاوية الشيخ “حمزة” و أغمض عيني و أسير بضع خطوات أعرفها تماما .. نعم هنا بالضبط أستطيع أن أفتح عيني لأرى “عم عبرة” ..
فتحت عيني ببطءٍ لذيذ ٍ تعودت عليه .. تسمرت قدماي و تطايرت الحكايات في فراغ الفقد و انقطعت همسات “عم عبرة” و تبخر وجهه في أفق الزمن .. نسج العنكبوت خيوطه على ضلفتي باب دكان “عم عبرة” و تصدرت كومات التراب مكان مقعده الخشبي القديم .. لأول مرة أرى دكان “عم عبرة” مغلقـًا حتى أنني لم أكن أعلم أن له بابـًا خشبيـًا عتيقـًا ..
درت بعيني في المكان أبحث عن وجهه .. لا أراه .. لم أعد أسمع صوته الهامس .. توارت ابتسامته خلف الباب الخشبي .. لم أعد أرى إلا قلعة الحكايات و قد أغلقت أبوابها الحصينة و هجرها أهلها و رحلوا في عمق الزمان إلى غير رجعة ما عاد يسكنها الا صوت “عم عبرة” الخافت الواهن و هو يترقرق في قلبي و يحكي لي عن “الشاطر حسن” و هو يأتي اليّ ذات يوم ٍ من حلم ٍ قديم 

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.