قصر الغرام ..قصة قصيرة للاديب العميد أ/ح رءوف جنيدى

قصر الغرام : _

فى أسرة ريفية طيبة الأصل . ولأب يحيا على طاعة الله . دأب على العيش فى كنفه ساعياً بالحلال على قوت عياله . ولأم حنون تنساب الرحمات من بين أصابعها . ويتدفق حنينها ليجرى بين أركان بيتها ليغمر زوجها وأبنائها بماء الود غمراً … تربى ( سامح ) ذلك الشاب المهذب . الذى يشهد بدماثة خلقه كل الأهل . ويتحاكى برفيع أدبه كل سكان الحى . نشأ سامح وأخته فى أسرة متواضعة الحال . إلا أن تفوقهما الدراسى جعل والديهما يضحيان بكل ما يملكان من جهد ومال .بعد أن التحق سامح بكلية الطب ومازالت أخته فى المرحلة الثانوية . لتمر الأيام بخطى ثقيلة الأحمال على كاهل أب يئن لثلاثين يوماً ليتقاضى بعدها بعض جنيهات قليلات . بالكاد يقمن صلب بيت ينفق على طالب الطب وشقيقته التى باتت هى الأخرى تطل عما قريب على عتبات التعليم الجامعى …..

يجتاز سامح سنوات دراسته عاماً بعد عام متفوقاً على أقرانه . فهو الشاب الطموح الآمل فى مستقبل يرضى به أبويه وليحقق من خلاله كل أمنياته وتطلعاته . هو الإبن البار بوالديه والذى يتمتع بكل الحب والرعاية من أب لا تتوقف دعواته فى أن يرى ابنه طبيباً مرموقاً . ودعوات أم تحوم فوق رأسه ًكسحابات ظليلات يحرسنه كلما غدا أو راح . متباهية بفلذة كبدها أمام جيرانها . فهى التى تودعه بالدعاء من شرفة منزلها كلما غادر . ولولا الحسد لنادت على سكان الشارع أن يطلوا من شرفاتهم فسامح الآن يمر . ولم لا يشار إليه بالبنان وهو طالب اليوم وطبيب الغد . والذى إن مال مالت معه كل فتيات الحى .وكم هى سعيدة الحظ من سيقع عليها اختياره بعد حين . وان غداً لناظره قريب ….

اقتحم سامح سنته الدراسية الأخيرة بكل ثقة واقتدار . واقتحمت قلبه أيضاً ودون إذن ( علياء ) تلك الفتاة فائقة الجمال ساكنة الحى الراقى بالمدينة . صديقة أخته وزميلة كليتها . والتى كثيراً ما كانت تتردد عليهم لزيارة أخته لاستذكار بعض الدروس أو لتبادل بعضاً من محاضرات تكون قد فاتت إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى . وشيئاً فشيئاً ازداد انشغال سامح بعلياء زائرة البيت والقلب . بات حريصاً على غير عادته أن يتواجد فى المنزل فى أوقات زيارتها . حتى أنه كان يبدو قلقاً مضطرباً إن تأخرت أو غابت عن مواعيد يبدو أن القلبين قد اتفقا عليها . حتى أنه كان يطلب من أختها جهراً السؤال عنها والإطمئنان عليها . ولم لا . وهى الضيفة العزيزة على القلب والتى أحدثت به انقلاباً وجدانياً راح سامح على أثره يلتهم الكتب التهاماً . ويطوى الأيام تحت قدميه طيا ً ليكون أهلاً للفوز بقلبها بعد أن أخبرته عيناها ……. أنها فى الانتظار ..

شعر الوالدان باهتمام سامح الزائد بعلياء . بات الأب قلقاً من أن يمضى سامح فى طريقه هذا . فكثيراً ما كان الأب يجلس منفرداً مناجياً ابنه سراً . هل يظن سامح أن تردد علياء على منزلهم المتواضع نوع من الندية المجتمعية .. لا .. فهذا ليس مبرراً على الإطلاق لأن يتقدم سامح للزواج منها . نعم قد تسمح علاقات الصداقة وزمالة الدراسة بتقارب لا تسمح به علاقات النسب والزواج . فلا القطار ينبغى له أن يبحر . ولا السفينة تمشى على اليبس . فكل فى فلكه يدور حيث بيئته المجتمعية التى تلائمه . صحيح أن ابنه طبيب ولكن والد علياء ومن على شاكلته لا تعنيه الوظائف بقدر ما يعنيه المستوى المادى والعيش بين الطبقات الأرستقراطية الراقية الذى هو منهم والذين هم منه . فكيف لسامح أن يتقدم لفتاه تأتى لزيارة أخته بسيارة فارهه يقودها سائق خاص . وعلى الجانب الآخرعاشت الأم اياماً عصيبة بين مهابة ورجاء . مهابة رفض ابنها وانكسار قلبه . ورجاء القبول ولم لا : فقد يكون النصيب وإرادة الله . فهو سامح الذى يعرفه قلبها والذى يستحق الخير كله …

تخرج سامح فى كلية الطب بتقدير إمتياز مع مرتبه الشرف . وأى شرف يدانيه لو أنه فاز بحبيبة القلب فهو الإمتياز بعينه . أهله تقديره للعمل فى واحدة من أكبر المستشفيات الخاصة فى المدينة . حان الوقت ليفصح سامح لوالديه عن رغبته . سمع الوالدان ما كانا يتخوفان منه . وأمام تعلقه الشديد بعلياء ومباركة الأم وافق الأب قلقاً مترقباً . تحدد موعد لزيارة سامح وأمه حيث تسكن حبيبة القلب بيتاً وكأنه القصر فى أرقى أحياء المدينة . وليطلباها من أبيها على سنة الله ورسوله . انقضى وقت الزيارة سريعاً وانصرف سامح وأمه بخطى أثقلها شعور أم بعدم الرضا . فلم تر أى ترحيب بادٍ على وجه الأبوين . ودهشة ابن من برودة لقاء الأب على الرغم من الفرحة التى كانت تتراقص خجلاً فى عين الإبنة . انقطعت علياء بعدها عن زيارة صديقتها قرابة الشهر وهو ما كان تلميحاً صريحاً برفض الأمر جملة وتفصيلاً . إلى أن جائهم الخبر الأشد إيلاماً وقت أن علموا أن علياء تمت خطبتها لإبن عمها سليل الأرستقراطية ……. تجرعت بعده الأسرة أحزانها . آملة فى أن تطوى الأيام صفحة الماضى …..

انتقلت علياء الى بيت الزوجية . قطعةً من قطع الأثاث . جسداً بلا قلب . روحاً بلا مشاعر . عصفور انتقل إلى قفص جديد . صحيح أنه ذهبى ولكنه خانق . عاشت علياء حياة بلا احساس . اقتناها رجل كما يقتنى كل ممتلكاته الأنيقة . ماشعرت يوماً انها له زوجة . وأنما استكمال لواقع مجتمعى تفرضه الضرورة . حياة صاخبة وليست دافئة . أموال وممتلكات ولكن للقب احتياجاته التى لا يعرفها هذا الأحمق . تبعثرت المشاعر والأحاسيس تحت أقدام سهرات زوجها ورفاقه . فكثيراً ما كانت تخلو الى نفسها وقت غيابه . كادت أن تخرج قلبها من بين ضلوعها . لتنفض عنه ركام أحداث تهدمت عنوة فوق رأسها . وتزيل عن ساكنه الحقيقى غبار أيام نحسات ليست من عمرها . ولتخبره أنها مازالت عذراء الروح والوجدان . بكر المشاعر والأحاسيس . مانال منها الرجل حتى وهو بين ذراعيها . الا كما ينال من تلاجة بيته عندما يفتحها ليلتقط منها ما يشتهيه . غير عابئة ماذا أخذ منها سفاحاً ؟ . وهل أشبعه ما أخذ أم لم يشبعه ؟ . بعد أن باتت مشاعرها متجمدة داخل صقيع جسد ذهب عنه دفئه . فذبلت ثماره . وجفت أغصانه . وتساقطت عنه أوراق الأنوثة فى خريف أتاها قبل موعده …..

دبت الخلافات واستحالت العشرة وتدهورت حالتها الصحية والنفسية وتدخل الأهل فما كان إلا الطلاق . انفصلا . راحت علياء تلملم ما تبقى من مشاعر أهدرت ظلماً . وأحاسيس وطأها بغير رضاً منها من لا يستحق . وأنوثة شوه جمالها زائر غير مرغوب فى لقاءه . وجسد استبيح قهراً أمام تقاليد مجتمعية بالية يظنها الأهل أنها وجاهة الحسب والنسب . عادت علياء بما تبقى لها . عادت الى بيت والدها لتقضى فيه شعوراً عدة . مهيضة النفس جريحة الوجدان . ليقرر الوالد بعد أن تأخر تعافيها أن يدخلها أكبر مستشفيات المدينة لتبدأ فترة التعافى صحياً ونفسياً . وبالفعل اصطحبها والداها الى مستشفى كبير يعرف والدها مديرها . أودعت علياء إحدى الغرف . استقبلها فريق التمريض وقدم لها كل ما يلزم حالتها . استأذنت ممرضة لاستدعاء رئيس القسم ثم عادت إلى غرفة علياء ….. فهو على وصول ….

دخل رئيس القسم . تقدم خطوات قليلات الى حيث ترقد علياء . وفجأة توقف رئيس القسم . توقف الدكتور سامح . تسمرت قدماه . وقف وكأن على رأسه الطير . يا إلهى : علياء ؟ وتنظر علياء ووالداها فى دهشة . مفاجأة عقدت ألسنة الجميع . يهز سامح رأسه وكأنه حلم . هى علياء ووالديها . استدار الدكتور سامح ليخرج سريعاً بعد أن أمر فريق التمريض بإجراء بعض الفحوصات . عاد الى مكتبه . ارتمى على كرسيه . غير مصدق لما رأى . غادر سامح المستشفى ليعود فى اليوم التالى ويأمر بخروج علياء لعلمه أنها ليست مريضة وإنما هى جريحة النفس مهزومة الخاطر . مطمئناً والديها بعد أن استأذنهما فى بعض زيارات منزلية حتى تتعافى تماماً ….. ورحب الوالدان …

وفى أولى زياراته حمل الدكتور سامح حقيبته متوجهاً الى القصر . استقبلته الأم ورافقته الى حيث ترقد علياء . أخرج سامح سماعته ووضعها على صدر علياء ليسمع شكوى القلب وأنينه . أمسك بمعصمها يتحسس بنبضاتها فإذا هى ارتجافات جسد كان يائساً مضطرباً . جلس سامح فى كرسى مقابل لها . تلاقت العيون . إغرورقت بالدمع . ساد الغرفة صمت دافئ . لتتحدث المشاعر والأحاسيس . راح سامح يعطى مريضته روشته علاجها عبر نظراته . تواردت الخواطر . اطال سامح النظر فى عينى علياء . راح بنظراته يعيد خصلات شعر سقطت فوق جبينها فاستجابت الخصلات وتحركت عائدة إلى مكانها . راح بنظراته يمسح الدموع بإبهاميه من فوق عينيها وخديها . فتغمض علياء عينيها حتى تمر أصابعه فوق وجنتيها برفق . راح بنظراته يربت على كتفها . فيهتز جسد علياء فى الفراش . راح بنظراته يقبل يديها . فتسحبهما علياء فى أدب ودلال مصحوبين بابتسامة رقيقة . هم سامح يحتضنها وهمت به لولا أن رءا ألا يكون ذلك إلا على سنة الله ورسوله . ……

دبت الحياة فى الجسد . ازدهرت ورداتها . أخضرت أغصانها وأورقت . أينعت ثمارها . استرسل الشعر حريراً . لمعت العيون كحاضنات الأمل . إحمرت الوجنتان كوردات الربيع . رحبت الزهرة بساقيها وتهللت بقدومه . شعر الوالدان بتحسن واضح . علمت الأم بحس الأنثى كيف ولماذا بدأت ابنتها تتعافى . تكررت زيارات سامح وتكرر حديث العيون ولقاء الأرواح . رافقته الأم وهو مغادر ذات مرة حتى باب المنزل . أوقفته فاجئته. قائلة وبدون ألقاب أو تكلف : ما تتاخرش يا سامح علياء بترتاح فى وجودك .. وهنا شعر سامح أنه لم يعد الطبيب المعالج . بل أصبح الزوج الذى تأمله الأسرة وتنتظره لإبنتها على الرحب والسعة . وفى إحدى الزيارات صارح سامح والد علياء فى رغبته الزواج منها . فما كان من الوالد الا الترحيب مكفراً عما فات . تحدد موعد اصطحب فيه سامح والديه وأخته حاملاً معه دبلة الخطوبة وتحمل أخته هدية فاخرة لصديقة عمرها . ويحمل والداه قلبين ما انقطعت دعواتهما أن يتم الله الأمر على خير . ولتعم السعادة اركان المنزل . ولتطل الفرحة من جديد عبر شرفات …….. قصر الغرام ….

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.