أفريقيا الحقيقية: عندما تكذب الخرائط وتنطق الأرض
كتب باهر رجب
لقرون، علقنا على جدران فصولنا الدراسية و مكاتبنا خريطة للعالم وهي تخفي واحدة من أعظم الخدع البصرية في التاريخ. خريطة “مركاتور” الشهيرة، التي اعتمدت في القرن السادس عشر لتسهيل الملاحة البحرية، لم تكن مجرد رسم للأرض، بل كانت تشويها منهجيا لحجم القارات، سرقت مساحة أفريقيا الحقيقية و وزعتها على دول الشمال. اليوم، وفي عصر الوعي والبيانات، يثور سؤال جوهري: كيف ستبدو خريطة العالم إذا تخلينا عن هذا الإرث الاستعماري وقدمنا الأرض بحجمها الحقيقي؟
أفريقيا المسروقة.. القارة التي ابتلعها “مركاتور”
لفهم حجم المأساة، تخيل أن مساحة أفريقيا الحقيقية تبلغ 30.4 مليون كيلومتر مربع. هذه المساحة الشاسعة يمكنها أن تستوعب بداخلها مساحة كل من الولايات المتحدة، الصين، الهند، اليابان، وأغلب دول أوروبا مجتمعة، ولا يزال هناك متسع! فالقارة الأفريقية هي ثاني أكبر قارات العالم بعد آسيا.
ولكن على خريطة مركاتور، تظهر جزيرة غرينلاند المتجمدة، التي تبلغ مساحتها الحقيقية 2.2 مليون كيلومتر مربع، وكأنها تقارب حجم أفريقيا. الحقيقة المذهلة أن أفريقيا أكبر من غرينلاند بـ 14 مرة! حتى دولة مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها، تبدو على مركاتور بحجم أوروبا الوسطى، بينما في الواقع، مساحتها تعادل مساحة إسبانيا، فرنسا، ألمانيا، النرويج، وإيطاليا مجتمعة.
هذا التشويه لم يكن بريئا. لقد رسمت الخرائط في حقبة الاستعمار لتعكس رؤية القوى المسيطرة، حيث بدت دول أوروبا وأمريكا الشمالية أكبر وأهم، بينما تقلصت أحجام الأراضي التي كانت تخضع للاستغلال، مما يعزز – ولو لا شعوريا – فكرة هامشيتها.
ثورة الإسقاطات.. البحث عن وجه الأرض الحقيقي
لم يكن مركاتور وحده، فهناك العشرات من طرق إسقاط الخرائط، كل منها يقدم تضحيات مختلفة. إسقاط “غال-بيترز”، على سبيل المثال، هو رد فعل على مركاتور، حيث يحافظ على المساحات النسبية بشكل دقيق، لكنه يشوه الأشكال، فيبدو العالم ممتدا و مسطحا عند خط الاستواء و منضغطا عند القطبين.
أما الإسقاط “ذو المركز الأفريقي” أو “الإسقاط الأطلسي”، فيضع القارة الأفريقية في قلب العالم، كجسر يربط بين الشرق والغرب، بدلا من وضعها عند الحافة السفلية للخريطة كما اعتدنا. هذا التغيير ليس مجرد نقل هندسي، بل هو تصحيح جيوسياسي وثقافي، يعيد تعريف مركزية أفريقيا في التاريخ البشري وفي الجغرافيا العالمية.
عواقب التشويه.. عندما تشكل الخريطة الوعي
الخريطة ليست مجرد ورقة؛ إنها أداة لتشكيل الوعي الجمعي. التشويه المنهجي في الخرائط التقليدية له تداعيات عميقة:
1- التقليل من شأن أفريقيا: عندما تظهر القارة أصغر مما هي عليه، يتضاءل إحساس العالم بضخامة إمكاناتها، وثرواتها، وتنوعها، و تحدياتها. تؤثر هذه الصورة على الاستثمارات، والسياحة، وحتى على كيفية تناول وسائل الإعلام للقضايا الأفريقية.
2- تعزيز مركزية الشمال: جعلت خريطة مركاتور دول أوروبا وأمريكا الشمالية تبدو وكأنها “معيار” العالم وحجمه الطبيعي، مما عزز – بشكل غير مباشر – نظرة استعلائية.
3- تشويه إدراك المسافات: يؤدي التشويه إلى فهم خاطئ للمسافات الحقيقية بين الدول، خاصة تلك الواقعة على خطوط العرض العليا والدنيا.
الخاتمة: نحو خريطة أكثر إنصافا
التحول نحو استخدام خرائط بحجمها الحقيقي. مثل تلك المعتمدة على إسقاط “غال-بيترز” أو غيرها من الإسقاطات المتساوية المساحة. هو أكثر من مجرد تصحيح تقني. إنه اعتراف بالحقائق الجغرافية. وخطوة نحو تفكيك الرواسب الفكرية للاستعمار. إنها دعوة لرؤية العالم بتوازن. حيث تحتل كل بقعة من الأرض مساحتها العادلة على الورق. كما هي على أرض الواقع.
عندما نعلق الخريطة الحقيقية. لا نغير فقط شكل العالم. بل نغير عقلية الأجيال القادمة. نقدم لهم أفريقيا ليست على هامش الخريطة. بل في مركز التاريخ والإمكانات. قارة شاسعة وعميقة. تستحق أن ترى كما خلقتها الطبيعة: بحجمها الحقيقي.









