في زمنٍ مضى، عاشتْ رحابُ مع أمِّها وأبيها، وكانا قد كبِرا وتزوجَ جميعُ أبناءِهم، وخرجَ كلُّ منهما مع زوجتِه ببيتٍ بمفرده، ما عدا رحابَ.
رحابٌ كانت شابةً لا تملكُ مقوماتِ الجمالِ التي انتشرتْ مع تهافتِ الفتياتِ على عملياتِ التجميلِ والرتوش، كما يُسمّونها.
شكلُها عاديٌّ بملامحَ بسيطةٍ، وكانت تعيشُ في بيئةٍ بعيدةٍ عن التجميلِ وإضافةِ المساحيق، وتظهرُ دائمًا بشكلها الطبيعيِّ، وهذا لا يناسبُ الشبابَ الذين يبحثونَ عن الفتاةِ الجاذبةِ للنظر.
أصبحتْ رحابُ في الثلاثينَ من عمرها ولم تتزوجْ، ثم أتى أحدُ الشبابِ لخطبتها.
لم يتوانَ أهلُها عن القبولِ به دون السؤالِ عنه والتأكدِ من شخصيتِه، وكانت رحابُ مترددةً، لكن الجميعَ ينصحها بالقبولِ فهي أصبحتْ كبيرةً وقد فاتها القطارُ.
لكن هي لم تكن مهتمةً للقطارِ ولا من الجالسينَ في محطاته.
كانت تخافُ أن تركبَ القطارَ وتعودَ مكسورةَ الجناح.
لكن كلَّ من يعرفها كان يلحُّ عليها: “تزوجي”.
فامتثلتْ لهم وتزوجتْ من شخصٍ يُدعى رامي.
رامي كان شابًا عشوائيًّا ليس له ثوابتُ أو مبادئُ.
لا يهتمُّ لنظافته ولا لملبسه ولا لطريقة كلامه.
كلُّ همِّه هو إلحاقُ الضررِ بوقت حَلَّت المدارس للبنات لمعاكستهنَّ وعشُّ طيورٍ يمتلكه على السطح يؤذي به الجيرانَ حيث يقف لساعاتٍ على السطح.
يهشُّ الحمامَ ويسبُّه الجيرانُ، ويلعنونه ويلعنون أهله كلما رأوه.
تزوجتْ رحاب فما ذاقت طعمَ الراحة.
شخصٌ قذرٌ بمنطقٍ أقذر يسبُّها ويعنفها ويجبرها على وضع الماء والطعام للحمام، ولا يخشى عليها من عيون الرجال.
وكلما أخبرته أنها تخجل وهي تصعد السطح، يقول لها: “من تظنين نفسك من ينظر إليك؟ أنا لولا أن سمعتِ معروفة ولم يقبل أي بيتٍ بتزويجي من بناته ما خطبتك”.
انظري لشكلك، تشبهين البقرة!
لم تفارق الدموع عيني رحاب، فهي كانت تشمئزُّ منه وحقدت على كل من أقنعها بالزواج لمجرد الزواج وكي تتخلص من لقب “عانس”.
في نفسها تقول: “العانس أفضل ألف مرة من لقب زوجة القذر”، فحتى الجيران يلقبونه “رامي الوسخ”.
رحاب الفتاة السمينة التي كانت تضحك ليل نهار في بيت أهلها وتأكل بشراهة، فهي ما كانت تبالي بشيء، سعيدةً بوضعها لولا كلام الناس.
مستمتعةً بمشاهدة التلفاز والطعام وجلوس مع أمِّها وأبيها وجارتهم الكبيرة بالسن التي تأتيهم كل يوم وتبدأ بالحديث عن ما يجري في محيطهم، وتبدأ بالتغزل برحاب التي تبدو جميلةً جدًا داخل المنزل وذلك لكونها بطبيعتها عكس ما تبدو عليه عند خروجها من المنزل.
فرحاب ترد على تغزلها بوصف نفسها بأبشع الأوصاف وتستمر بالضحك دون توقف.
كانت رحاب تحمل براءة الأطفال وزنها الذي يراه الناس زائدًا هي لا تحس به، تحس نفسها طفلةً تضحك وتمرح وتأكل وتلعب تسعدها أبسط الأشياء.
فكرتْ رحاب بطلب الطلاق وتكلمت مع والدتها لكن والدتها رفضت بشدةٍ.
وأجابتها: “تعرفين شنو مطلقة؟ الناس شراح تقول؟”
أجابتها رحاب: “دمرتوني خوفًا من الألقاب بين هذه الألقاب وكلام الناس أنا فقدت روحي وفقدت وزني، ألا ترين أني أصبحت أنحل منك؟”.
ضعف جسدي وذهبت ضحكتي كنت سعيدةً لكنكم أقنعتموني بأن أتخلص من لقب العانس ولم تكترثوا مع من أتخلص منه.
كأني أصبحت عارًا عليكم أردتم التخلص منه رميتموني في النار لكن نار لا تحرقني بسرعة فأموت والإخلاص منها نار تحرقني ببطء تأكل روحي وصفاء ذهني أنا أعيش المرار.
أنا أتقبل ألف لقب وأتقبل ألف عار لكن لا أقبل ما أنا فيه أنا أموت في كل لحظة أنتم لا تحسون بما أحس فيه.
خوفكم من ألقاب اخترعتموها وجعلتموها أغلالًا في رقابنا لا دين ولا قانون يفرق بين الناس كما فرقت مصطلحاتكم.
ما رأيكم بلقب الناهبة إذا هربت لأنكم لم تطلقوا سراحي من هذا الوغد؟
الأم: “أنتي فعلاً عار ليتك متي حين ولدتك”.
رحاب: “إذا كان هذا اللقب أزعجك هكذا فدعيني أختار لقبًا آخر”.
الأم: “وما هذا اللقب؟”
رحاب: “ستعرفينه حينما تسمعين خبري وقد مت”.
الأم: “أنتي جننتي ماذا ستفعلين؟”
رحاب: “سأحرق نفسي أو أسممها وسأحصل على لقب منتحرة”.
هل يناسبك هذا اللقب؟
الأم: “اخ منك سأخبر أباك وسيقتلك بنفسه ونتخلص من عارك”.
رحاب: “حسناً دعيه يوفر علي ثمن السم ولكن ما لقب من يقتلها أباها؟ هل هو لقب الطف من عانس ومطلقة ومنتحرة؟”
الأم خشيت أن تخبر والد رحاب بالأمر وعادت.
رحاب لبيت زوجها بعد أن أصبحت لا تقوى على المشي نحلت جدًا لدرجة أن لا أحد أصبح يعرفها حين يلقاها من الجيران.
أصبحت لا تضحك أبدًا حزينةً كئيبةً.
طرقت الباب ففتح رامي الباب وهو يردد: “أهلا أهلا هل شبعت من بيت أهلك؟ أعجبك ما جرى بسببك”، وهو يصيح بصوتٍ عالٍ: “أيّتها الغبية انظري لشكلِك ماذا فعل الله بك من سمينة كالبقرة إلى نحيلة كأنك خشبة يابسة! هذا كله من السم الذي بداخلك”. ثم سحبها من شعرها ورماها على السرير ونزع حزامه الجلدي وأخذ يضربها ويركلها وهي لا تعرف لماذا فقد تبكي وتقول: “أرجوك اتركني”، لكن هو لم يتوقف يضربها ويركلها حتى تورمت وجوهُها وزرق جسدُها وسقطت مغشيًّا عليها.
فلم يعجبه الأمر ذهب مسرعًا وأحضر ماء ورماه في وجهها بعد أن ابتلعه وفرغه من فمه على وجهها.
استفاقت وهي تشهق وتبعد بالماء عن وجهها: “لماذا يا رامي ماذا فعلت لتفعل بي كل هذا؟”
إلا تعلمين ماذا حصل؟ ماذا ألم أخبرك قبل أن أذهب وأنت سمحت لي؟
ضحك مستهزئًا: “وهل تظنين أني منزعج لغيابك؟ أنت لا تعنين لي شيئًا! أنا أصلاً تزوجت لأجل أمي أنا عندي أمور أهم منك! من أنت الأفكر بك! لكن بسببك نسيت وضع الماء للحمامات ومات أحد أفراخهن!”
وهل ضربتني كل هذا ضربٌ من أجل أفراخ الحمام؟
نعم تستحقين هؤلاء أفضل من أهلك لو لم تذهبي لما مات أحد منهم!
فكرت رحاب بالهرب وبقتل نفسها وبأمور كثيرة لكنها لم تنفذ أحد منها لأنها كانت تخشى الله وتخشى تشويه سمعة أهلها.
وبعد ذلك قررت الصبر والدعاء وحاولت إصلاح زوجها لكنه لم يتغير فمن شبَّ على شيء شاب عليه.
عانت وعانت ونحلت كثيرًا وذهبت قواها ولم تعد تذهب إلى بيت أهلها لأنها شعرت أنهم سبب تعاستها وأنهم لا يأبهون بما يجري عليها كل همهم كلام الناس الذي لا يغني ولا يسمن.
وفي أحد الأيام كانت تعد الطعام فعاد رامي إلى البيت كعادته وأخذ يتفقد الأكل ويرمي كلماته اللئيمة فهو لا يعجبه شيء ثم تحجج ليبدأ بالصراخ وكسر الأطباق فهو يأكل خارج البيت على عربات الباعة المتجولين ويعود ليأكل مرة أخرى حتى لو لم يكن جائعًا المهم أن لا تستريح رحاب.
صعد إلى السطح كعادته وبدأ يهش طيوره ويرمي الحجارة فلاحظّه أحد الجيران وقد أمعن النظر داخل داره ورَكَض نحوه وبدأ شجار كبير تطور ليصل إلى استعمال الأسلحة وهنا أصيب رامي بطلق ناري وانتهت حياته.
رحاب رغم كل ما فعل بها لكن سقطت دموعُهَا عليه وبعد مراسيم الدفن عادت رحاب إلى المنزل وحدها.
أتوا أهلُهَا لأخذِهَا لكنها رفضت: “أتريدوني أن أعود لخدمتكم لتذلوني اليوم أخذت لقب أرملة هل هذا اللقب يعجبكم؟
أليس فيه عار عليكم؟ اتركوني هذا بيتي وهذه حياتي أنا أحببت لقب الأرملة سأعيش معه”.
جاء أهل رامي بعد ذلك وقالوا: “إن لنا نصيب في هذا البيت أنت ليس لديك أولاد”.
رحاب: “أعلم ذلك لكن أين أذهب إن أخذتم البيت؟”
أبو رامي: “عودي لأهلك”.
رحاب: “أرجوك يا عم لا أريد العودة دعوني هنا وأنا لن أنكر حقكم وسأحاول إيجاد حل قيموا المنزل وانظروا كم لي وكم لكم لعلي أجد بيتًا أو غرفة أسكن فيها بالمبلغ”.
أبو رامي: “ابقى لأن سأنظر الموضوع”.
وبعد مدةٍ من الزمن ظلت معاناة رحاب التي كانت لا تملك ما تشتري به الطعام فأخذت ترسل الطيور للجيران يذبحونها وتشويها وتأكل منها وهذا الشيء الوحيد الذي تركه رامي.
وفي جلسة عشائرية قَرَّر تعويض كبير لرامي فصل كما يُسمى بالعراق التعويض او ألديه.
أهل رامي لم يحبوا إعطاء رحاب شيئًا لكن كبير عشيرتهم كان مُنصفًا فقال: “البنت تأذت وهي علاقتها غير طيبة مع أهلها وأنتم أخذتم مبلغ خيالي أعطوها حقًَّها فإن لم تفعلوا فمن اليوم أنا بريءٌ منكم”.
ذهب أبو رامي بربع المبلغ إلى رحاب فقالت له: “يا عم أنا شاكرة لك وسأذهب معك واتنازل عن البيت الذي أسكن فيه كي لا ينازعكم أحد عليه من أهلي ولكن دعوني فيه لبضع سنين لعلي أموت وأخلص من هذه الحياة”.
أبو رامي تعاطف مع رحاب لما شاهد زهدَها وعدم طمعِهِا وعدم مجادلته في نصيبِهِا فقال لها: “ابقى يا ابنتي ولن يصل أحد إليك وأنا سأطمئن عليك دائمًا ومتى ما احتجتي شيئًا اتصلي بي”.
فرحت رحاب وذهبت للسوق لأول مرة وشترت الطعام وتحسنت حالتها الصحية رغم الوحدة لكنها كانت مرتاحة البال بيت وتلفاز وطعام هي نعمة بالنسبة لها.
وأخذت تعتني بحمامات زوجها وتعطيهم بقايا الطعام فأصبحن كثيرات جدًا لأن أحدًا لم يتدخل بهن والأحد يهشهن حتى الحمامات استقرن ورتحنَ من جنون رامي.
مرت الأيام وجاءت أم رحاب لتأخذها لكنها رفضت: “أنا لن أعود أنتم لم تهتموا لأمري رغم أني كنت آتيكم مزرقة الوجه نحيلة أتوسل بكم الخلاص لكن لم ترحموني”.
المزيد من المشاركات
فكانت رحمة الله أقرب وأسرع!
دعيني وشأني!
الأم: “وماذا يقول الناس بنتكم تعيش بمفردها سيتهمونك بشرفك ونحن يركبنا العار!”.
رحاب: “كنت أضنك تغيرتي لكن أنت كما أنت لم تأتي لأجلي بل جئت لأجل كلام الناس!”.
إن الناس لم يضربوا كما ضربت ولم يُجرحوا كما جرحت ولم يُهانوا كما أهنّت! دعيهم يقولوا ما يشاؤون لهم رب ولي رب وقد أثبت ربي أنه أرحم منك ومنهم! اذهب لن أعود معكم إلا إذا كنت جنازة!”.
رحاب بابتسامة ساخرة: “هل يعجبك يا ترى لقب جنازة؟”.
ذهبت الأم وهي تشتم وتلعن اليوم الذي أنجبت به رحاب.
وضعت رحاب سجادتها تلك الليلة وأخذت تدعو الله إن يترحم بها فقد تعبت وتأذت كثيرًا وما عاد بمقدورها الصمود أمام أهلِهَا والناس الذين ينصبون أنفسهم قضاة فيحكمون على هذا وذاكَ ويضعون الألقاب الألقاب التي حرم الله تعالى في كتابهِ حيث قال:
﴿ يا أيّتها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئكَ هم الظالمون ﴾ [الحجرات: 11].
استمرت أيام رحاب بهذا الحال وهي تضع سجادتها وتصلي وتدعو حتى الصباح أصبح وجهُهَا يشع نورًا.
لم تجد أنيسًا غير القرآن وقراءة الكتب الدينية وأحاديث الرسول وبعد سنة حفظت رحاب القرآن دون قصد منها لكن لاستمرارِهِا عليه وأصبحت تحسن تهدئة نفسها وغضبَهَا فقد تعلمتْ من الأحاديث المروية عن الرسول وآل البيت طرق علاج النفس.
قررت تعليم حفظ القرآن للصغيرات من بنات الجيران بالبداية لم يستجب أحد ثم أتت امرأة ترتدي نقاب ومعهما بنتَيَيْهِا وقالت لرحاب علمي بنتي ولكن أرجوك أنا أخاف عليهما!
رحاب: “لا يوجد أحد معي أنا بمفردي بالدار اطمئني هم في مأمن!”.
بدأ درس رحاب مع بنتين حتى أصبحت حلقة درس كبيرة ورحاب كانت تطور نفسها من خلال الاستماع للمحاضرات الدينية والدروس في القنوات الدينية.
أصبحت محبوبًة لدى الفتيات وحلقة درسِهِا يرتادُهَا الكثيرات حتى مِن كبيرات السن والشابات.
أصبحت رحاب كلها جمال ونور فقد وهبتْ لها صلتَهَا بالله كرامة.
ذاع صيتها وأصبحت تلقب بمدرسة الدين والعابدَة ولكل يحترمُهَا ويقدرُهَا ويساعدُهَا.
حتى عرض عليها العمل في حلقة درس تابعة للمحافظة فقالت: “أنا لا أود أخذ ثمن مقابل الدرس لأنه هداية الله لي ولكن أنا لارزق لدي عندي قليل من المال يكاد ينفذ
لذلك أقبل ولكن بمقدار قليل فقط على قدر شراء الطعام لي”.
مسؤول المحافظة وصلته أخبار ما فعلته رحاب وكمية الحلقات التي تفتحَهَا فهي متفرقة تمامًا لتعليم النساء والأطفال فخصص لها راتب شهري وأمر بأن يكون لها سكن.
أعادت رحاب المنزل لأهل رامي وهي شاكرة لهم ثم مرت بأهلِهِا وسلمّت عليهم وقد انبهروا بما أصبحت عليه مِن جمال وحشمة وسلامة في النطق.
قالت لهم: “ما أجمل القاب الله وما أقبح ألقاب البشر! الله وهبني لقب العابدَة والمدرسة أما أنتم لقبتوني بالعانس وحين أردت الخلاص خشيتم لقب المطلقة وحين أردت الموت خشيتم لقب المنتحرَه وحين مات زوجي أيضًا لم تفك عنّي ألقاكم فأصبحت أرملة وهذا عار أيضًا”.
حقًّا إن الله أقرب مِن حبل الوريد وحقًّا هو أرحم مِن آلام على وليدَهَا كن مع الله يكن معكَ!
جئت فقط لأن الله أمر بصلة الرحم وسأعود لحيث رزق الله وعطفَه عليّ!
الألقاب اخترعَهَا البشر ليقيد بها فئة أخرى ويستضعفَهَا ويسجنَهَا بإطار ثم يستغلَّهُم مِن خلاله.
وهكذا بدئت حياة رحاب تزهر واصبح لها هدف وحلم بالتطور أكثر.

المقال التالى
قد يعجبك ايضآ