أمثال شعبية في مرآة الذات (1)
كتبت
نهى رجب محمد
يمكن لكل إنسان أن يتقبل نفسه كما هو، من غير شروط الناس، ومقاييسهم ومقولاتهم، ولا يصبح نسخة مطابقة للآخرين، فقط يجتهد دومًا؛ ليكون ذاته ثم يتغيّر للأفضل.
سيحتاج وقتًا وتدرُّجًا في النضج، واستكشاف جوهر وجوده؛ ليتحرر من تلك البرمجات الخاطئة التي تربى عليها، واعتاد ممارستها.
وقد ظهرت بعض تلك البرمجات في صورة الأمثال التي اختزلت إرثًا إنسانيًّا للأجيال السابقة، ومخزنًا ثريًّا دالاً على أفكارهم وتصوراتهم وعاداتهم وتقاليدهم، على اختلاف فئاتهم.
اعتبرت الأمثال والمقولات الشعبية جزءًا من ذاكرة الشعوب، وكنزًا لا ينضب، حمل لنا الكثير من وجهات النظر المتباينة: بعضها يحمل نظرة سلبية وأحكامًا تعميمية غير صحيحة، واتسم بعضها الآخر بنظرة إيجابية، وتقديم للعبرة.
وقد ارتبط كل مثل بقصة ما، أو موقف، أو حدث، كان يقوم المثل فيه بالتلخيص أو التعليق الحكيم، وظل كالشاهد الدال على هذا الموقف، وقدَّمه في لغة مختصرة، وجمال لفظ، وثراء في الدلالة. واتسمت الأمثال بسرعة الانتشار والاستخدام عبر الأزمنة والأماكن.
وسأتناول في هذه القراءة عدداً من الأمثال الشعبية المصرية؛ لتتضح لنا الصورة قليلاً:
======================
عندما تحدثوا عن المرأة والزواج، وصفوا الرجل بالسند يقول المثل الشعبي المصري:
(ضِل راجل ولا ضِل حيطة)؛
إشارة للحاجة الملحة إلى وجود هذا الرجل الذي يمنحها الحماية من مصائب الزمان؛ حتى لا يفوتها قطار الزواج، وتحتمل قسرًا وقهرًا سماع كل أوصاف الناس وألقابهم المؤذية لمشاعرها، مثل لقب (العانس) الذي يطلقه البعض عليها؛
مما يجعلها تفضل الزواج على البقاء بمنزل والدها وحيدة في ظل الحائط.
هذا المنطق قد يدفع بعض الأسر لتوافق على زيجة غير متكافئة؛ لمجرد أن يخصص لها الزوج بيتًا، و(ضِلّ راجل)! وأحيانًا تلجأ أرملة أو مطلقة إلى الزواج؛ لمجرد أن يكف الناس عن توجيه اللوم لها، ورفع عيونهم المترقبة عن تحركاتها.
قالوا في المثل:
(يا مآمنة للرجال يا مآمنة للمية في الغربال)؛
إشارة لطبع الرجال في الغدر، ونصيحة بعدم الوثوق فيهم، ولو وثقت المرأة برجل كمن تثق بعدم تسرب الماء من الغربال وذلك محال. لكن هذا المثل يسعي لإطلاق أحكام عامة غير صحيحة؛ فليس كل الرجال خائنون مخادعون.
بعضهم أوفياء، منهم من احترم ذكرى زوجته الحبيبة الراحلة؛ حتى كبر أبناؤه، وزوَّجهم، وهناك من الأزواج المخلصين من ظل حنونًا على زوجته ومحبًّا لها ومهتمًّا بها، يحتمل مرضها، ويساند في محنتها؛ حتى تنجو، ويذكِّرها على الدوام كم يحبها، ويمدها بالأمل. وسنجد زوجًا على قدر المسؤولية، يحتمل أعباء الحياة، ويتحمل مشاق العمل والسفر؛ لينعم مع زوجته وأبنائه بحياة طيبة، ويوفر لهم عيشة كريمة.
الحياة تحمل النقيضين: البياض والسواد، والنور والظلمة، _ وبضدها تتميز الأشياء_ وسنلمح أيضًا نماذج لأزواجٍ مخادعين، نتمنى أن يجدوا طريق الصواب، ويعودوا لدفء عوائلهم قبل فوات الأوان.
وقالوا:
(ما يجيبها إلا رجالها)،
كأنهم يقصرون حلَّ أي معضلة على الرجال، ويميزونهم بعقلهم الراجح، وقدرتهم على التصرف وإدارة الأزمات، وحسن التصرف والقرارات الناجعة في الأوقات العصيبة. المثل فيه مديح مبالغ فيه، وشبة مفاضلة، وإعطاء الرجل الصدارة والتفوق على المرأة، وذلك الأمر نسبي؛ فقد نجد رجالاً أصحاب فكر نير، وعقل متيقظ نبيه، مثالاً للتصرف السديد، وسنجد بالمِثل نساء مميزات بمواقف أثبتن فيها قدرتهن على التعامل مع المشكلات والعقبات وتجاوز المحن بمهارة ووعي وفطنة.
وقالوا:
(اللي يسمع لمراته تكثر نكباته)،
في إشارة صريحة، ونصيحة ملزمة بعدم استشارة الزوجة في أي أمر، ولو فعل ذلك فالنتيجة الحتمية يقدمها له المثل (تكثر نكباته) أي تتوالي عليه المصائب! مثلٌ غير منصفٍ؛ لأن الزواج كيان قائم في جوهره على الاهتمام والمودة والرحمة وتشارك الخبرات والرأي. وكلما قويت أواصر المحبة والاحترام المتبادل فلا ضير على الإطلاق في مشورة المرأة؛ لأن لها وجهة نظرها التي تُحترم، والتي ربما لا يصل إليها الرجل؛ فمن الزوجات من لديها دقة ملاحظة، واهتمام بالتفاصيل، وحدس وبصيرة، قد تلهم الزوج برأي حصيف، أو نصيحة مفيدة، أو حل سريع لمشكلة طارئة.
وقالوا:
(ياجايبة البنات ياشايلة الهم للممات)،
إشارة لمصيبة الأم بميلاد بنت، تظل تحمل همها، وتفكر فيها طوال العمر. ولكن ذلك الكلام غير دقيق؛ لأن الأم تهتم ببناتها كثيرًا، وتفعل ذلك بكل محبة، ولا يتحول هذا الاهتمام إلى هَمٍ ثقيلٍ طولَا العمر، وإلا صارت تلك الفتاة بالنسبة للأم مصدرًا للألم، وجالبة للكدر والضيق والغَم، فالأمر يتوقف على طبيعة شخصية الأم: إذا كانت إيجابية فلن تتأثر بالحكي السلبي لابنتها، وتجيد الإنصات لها، وتشاركها في التفكير والبحث عن حلول، وتمنحها من حكمتها، وحسن تصرفها، وتعلمها الصبر على المكاره، والمرونة في التعامل مع المستجدات، ومحاولة ضبط المشاعر.
ويلزم تلك الابنة وقتًا؛
لكي تختبر الكثير من المواقف، وتتسلح بالتحمل والمرونة، تفكر بهدوء بعيدًا عن الانفعال، واختلاق الصدامات، أو الدخول في جدالات لا تجدي نفعًا. لكن لو كانت شخصية الأم سلبية فستتأثر بحديث الابنة، وتحزن وتندب حظها، قد تلوم نفسها على كونها سببًا في هذه الزيجة، وربما يمتد هذا التأثير على الأم؛ ليكدر مزاجها، ويعكّر صفو حياتها، ويؤثر في صحتها.
قد يختلف الوضع لو كانت الابنة ذات شخصية قوية مرنة وقادرة على تدبير أمور حياتها، لا تشتكي، ولا تطلب مشورة الوالدة إلا لضرورة ملحة.
ويبدو الوضع أكثر ارتياحًا لو وهبها الله زوجًا حنونًا متفهمًا، يتغاضى عن التفاهات ويترفع عن الجدال، متسامحًا يحترم رأيها، ويحب أسرته، وينظر دومًا إلى المصلحة العامة للعائلة.
وقالوا:
(اكسر للبنت ضِلع، يطلع لها أربع وعشرين ضلع)؛
توضيحاً لضرورة الشدة في التعامل وتربية البنات حتى لا تخرج على الأصول، وطاعة والدها، ولا تقترف المشين من الأفعال التي لا ترضاها التقاليد والأعراف والأخلاق، وكلما عاملوها بهذه الشدة تمادت.
لكن هذا يتنافى مع أساليب التربية الصحيحة؛ فالعنف والقسوة في معاملة البنات مرفوض شكلاً وموضوعًا، وليس حلاً ناجحًا لتهذيب الفتيات، أو تقويم سلوكهن. وانتهاج تلك المعاملة من قِبل الوالدين ينتج عنه شخصية ضعيفة خانعة، ليس لها رأي، ويستمر مسلسل الخوف من زوجها، وتتلقى المزيد من العنف سواء اللفظي بالإساءة لشخصها أو الفعلي.. تسكت وتكتم ذلك عن عائلتها، وتخشي حتى مناقشة زوجها بالأمر؛ لأنها ترسَّبت في داخلها خبرات عديدة عن هذا العنف الذي اقترن بخوفها طلبًا للاستقرار الموهوم في بيتها، ومن أجل أبنائها، متناسية أنها تهدر كرامتها تحت دعاوى الالتزام بالواجب، والتضحية من أجل الأسرة، ولم تدرك أنها من غير قصد قدمت قدوة غير سوية لأبنائها وبناتها على السواء.
قدمت نموذجاً للأم الضعيفة المتساهلة في حقوقها، وليتها تعرف لتفكر بمرونة أكثر كيف ترفع هذا العنف عنها وتبحث عن حلول وسيطة، تضمن لها ممارسة حقوقها من غير ضرر ولا ضرار؛ لتعيش كإنسانة وأم وزوجة تستحق التقدير والاحترام من الجميع.
كثير من الشابات المتزوجات طلبن مشورة أمهاتهن في بعض الأمور، واستفدن بخبرتهن وحكمتهن، ولكن داومن على البر والتواصل الطيب مع الأم والإنصات الجيد، ومنهن من كانت مصدر بهجة الوالدة، وونسها، ويدها التي تتوكأ عليها في شيبتها،
حتى قالوا (البنت سر أمها).
ومنهن من وسعت أفقها، واستمدت من تعليمها وثقافتها مساحة أرحب؛ لتري وتفهم بشكل أوضح، واستثمرت معرفتها بالإيجابيات من الصديقات وتبادلت معهن الخبرات، وتعلمت منهن الكثير عن إدارة الوقت، والسيطرة على المشاعر، وضبط النفس في الأزمات، وحسن التصرف؛ لتخطي المشكلات الطارئة.
كلما ازدادت المرأة فهمًا ووعيًا بمكانتها وقيمتها واستشعرت أهمية وجودها، كإنسانه سعت على الدوام لترتقي بفكرها وتتوسع بقراءاتها لتفهم نفسها والعالم حولها ويكون لها منطقها الخاصة. وكذلك تحتاج المرأة إلى أخيها؛ ليحميها إن وقعت في ضائقة، ويساندها ليرد لها حقها، ويرفع الظلم عنها، فإن مات هذا الأخ ضعفت وضاع سندها.
وفى هذا المعني يقول المثل الشعبي:
(أخوكِ لو مات انكسر ضهرك)،
والمثل يجعل الأخ بمقام الظهر الذي يسند الجسم كله وموته براي المثل (كسر ظهر) لا يستقيم بعده، ولن تجد الاخت من يقف مكانه ليحميها او يدفع عنها السوء.
وهذا المثل يكرّس مكانة الأخ، ومدي استنادها عليهـ ودعمه لها، وكأنها من دونه بظهرٍ مكسور لن تقوى على فعل شيء، وبالرغم من حب الأخ الذي لا يمكن إنكاره، ودوره الحيوي في حياة المرأة، ولكن لماذا لا تقوي المرأة إلا به؟ ولماذا تضعف من دونه؟ لماذا لا تكون قوية بنفسها ويكون أخوها قوة إضافية، وتظل قادرة على الاستمرار بعده؟!
ويظهر بالمثل الحب الشديد للولد، والفرحة العارمة بميلاده، نراها حين يغنون:
لما قالوا دا ولد
انشد ضهري وانسند
وجابو لي البيض مقشر
وعليه السمن عام
لما قالوا دي بنية
اتهدت الحيطة عليا..
ربما تأثر المثل بنظرة المجتمع القروي، الذي وجد في الأولاد الذكور عونًا للوالد في الزراعة، ومساندًا له، وحاملاً لاسم العائلة، بينما نظروا للفتاة على أنها بمقام المعاونة للوالدة في شئون المنزل والتنظيف والطبخ. وقد تغيرت تلك النظرة قليلاً في الحاضر، حيث ازدادت نسبة التعليم، وتساوت النظرة للبنات والأولاد، وخاصة بعدما اتجهت البنت للتعليم والعمل، وأثبتت قدرتها على المشاركة وإثبات نفسها في وظيفتها، وصارت بعضهن مصدر فخر لعائلتها، بشهادتها وتفوقها، أو بوظيفتها ونجاحها.
ونجد مثلاً آخر يقول عكس هذا المعني، ويستحسن قدوم البنت ويحتفي بها فيقول:
(اللي يسعدها زمانها تجيب بناتها قبل صبيانها)،
في إشارة جميلة إلى الشعور بالفرح لمن ترزق بالبنات قبل الأولاد، فيصبحن أكبر عون للأم، ومصدر سعادة لقلبها.
وقد عايشت شخصيًّا كيف أحبنا الغالي أبي رحمه الله كان فخورًا بنا، يشجعنا طوال دراستنا، ويسعد كلما رافقني وكنت كُبرى أخواتي، وظلت والدتي _رحمها الله _ تعترض كلما نادها بعضهم بـ (أم محمد) بعد ولادة أخي الصغير، فتقف من مكانها وتقول بلكنتها الحبيبة (أنا هفضل أم نهى)، وظلت والدتي تستشيرني وكأننا متساويتان في العطاء والعتاب أيضًا.
وقد تعلمت ذلك منهما وربيت أولادي عليه، فلا فرق في أسرتي العزيزة بين ابن وابنة في الأعمال أو المكانة أو اللوم على الخطأ، ولدي نسمح له بدخول المطبخ، ومن حين لآخر يصنع لنا بيتزا شهية نثني عليه ونشكره، لا نعيب هذا الفعل مطلقًا، بل نعتبره نوعًا من المشاركة الفعالة والتعاون وهواية عادية يحب ممارستها ونشجعه عليها.
وابنتي الكبرى يحترمها إخوتها، ونقدمها دائمًا في حمل المسئولية،
وتشاركنا في كثير من القرارات مع إخوتها، وقد منحها ذلك شخصية متوازنة قوية لها رأي ووجهة نظر.
و لحديثنا بقية
نهى رجب محمد
كاتبة وقاصة مصرية مغتربة