إسماعيل يس .. دمعة على خد الضحك من ضوء المسرح إلى صمت الرحيل
إسماعيل يس .. في فجر الأربعاء، 24 مايو 1972، نشرت صحيفة “الأهرام” خبرًا موجعًا تحت عنوان: “وفاة إسماعيل يس صباح اليوم بأزمة قلبية”. توقّف قلب الكوميديان الأشهر في العالم العربي، عند الساعة الواحدة صباحًا، بعد رحلة عُمر امتدت لستين عامًا، كانت كلها مشحونة بالضحك، والتعب، والوحدة في آن واحد.
كتبت: ماريان مكاريوس
عاد إسماعيل يس إلى منزله قادمًا من الإسكندرية، حيث كان يُعرض له عمل مسرحي. دخل حجرته، جلس قليلًا، أشعل سيجارة كعادته، لكن فجأة داهمته الأزمة القلبية. لم يكن في البيت سوى ابنه وزوجته. حاول الابن الاتصال بطبيب، لكن عُطلًا في الهاتف أخّر النجدة. اتصل بأحد الجيران، الذي استنجد بفريق علميات الطوارئ في القاهرة. عندما وصل الطبيب، كان إسماعيل قد لفظ أنفاسه الأخيرة. صمت قلب أضحك الملايين، في هدوء يشبه بدايته تمامًا.
حياة اسماعيل يس
إسماعيل يس اسماعيل علي نخلة، ولد في 15 سبتمبر 1912 بمدينة السويس، وكان الابن الوحيد لصائغ ثري في شارع عباس بمدينة السويس، توفيت والدته وهو طفلًا صغيرًا.
كما التحق إسماعيل بأحد الكتاتيب، ثم بمدرسة ابتدائية محلية حتى الصف الرابع الابتدائي، ومع ذلك عندما أفلست شركة والده للمجوهرات بسبب سوء الإدارة المالية، وسُجن بسبب الديون المتراكمة، اضطر الصبي الصغير إلى العمل كمنادي في الشارع أمام متجر للأقمشة، حيث كان عليه أن يتحمل المسؤوليات منذ صغره.
اقرأ ايضا: قضايا وإشكاليات حضارة مصر القديمة .. ندوة تثقيفية بمكتبة القاهرة الكبرى
بداية عمله
وفي نهاية المطاف، اضطر إلى مغادرة المنزل، خوفًا من بطش زوجة والده، وبدأ العمل كسائس سيارات في أحد مواقف السيارات في السويس، لكنه كان يحمل في داخله شرارة الفن. حلم بأن يكون مطربًا على غرار عبد الوهاب، لكن الحياة قادته إلى طريق آخر، أكثر بهجة، وأشدّ ألمًا.
مشواره الفني
بدأ مشواره كمونولوجست، يجوب الكازينوهات والنوادي الليلية. بصوته المميز وتعابيره الوجهيّة الساخرة، استطاع أن يترك أثرًا لا يُمحى. كان يضحك الناس، لكنه يذرف الدموع بعد كل عرض. قابل الريحاني، وأشاد به بديع خيري، وعمل مع بديعة مصابني، ووجد نفسه في قلب الحياة الفنية القاهرية.
مع دخول الأربعينيات، اقتحم عالم السينما، وكان أول أدواره كان في فيلم “علي بابا والأربعين حرامي”، ثم توالت الأفلام، من أدوار صغيرة إلى بطولات
و اهمها مجموعة السلسلة من الأفلام التي حملت اسمه منها اسماعيل يس في البوليس و الجيش الأسطول و الطيران و غيرهم.
اقرأ ايضا: نجيب الخطاب أشهر مذيعى التليفزيون التونسي .. مشوار حافل وبرامج مختلفة مميزة
أعماله السينمائية
إن ميزة إسماعيل يس الكبرى لم تكن في الوسامة، بل في تلقائيته، وفي كونه يُجسّد “الراجل الغلبان” الذي يقهر الحياة بضحكة.
بلغ عدد أفلامه أكثر من 200، وهو رقم نادر في تاريخ السينما المصرية. ارتبط بثنائي عبقري: المخرج فطين عبد الوهاب، والكاتب أبو السعود الإبياري. سويًا قدّما عشرات الأعمال الخالدة، من بينها سلسلة الأفلام التي حملت اسمه: “إسماعيل يس في الجيش”، “في البوليس”، “في الطيران”، وغيرها، وهي التي شكّلت الوجدان الشعبي لجيل كامل، وساهمت في نشر الروح الوطنية بطريقة خفيفة وذكية.
رصاصة في تاريخه الفني
لكن المجد لا يدوم!عاد اسماعيل يس الى مصر بعد فشله في لبنان، ليفاجأ بأن رصيده المصرفي البالغ 300 ألف جنيه قد اختفى ولم يبق فيه سوى جنيهين، بعدما حجزت الدولة على أمواله سداداً لضرائب مستحقة، ناهيك عن الحجز على عمارته، التي بناها بعرقه، وكانت هذه الصدمة بمثابة رصاصة أطلقت عليه بلا رحمة، ودون أي اعتبار لتاريخه الفني.
و كان “سمعة” قد اضطر للسفر الي لبنان في بداية الستينيات بعد تغيّر مزاج الجمهور، وتغيّرت ملامح السينما.حيث بدأ المنتجون في تجاهله، وحُرم من الدعم.
سمعة في المسرح
و بدأت فرق الدولة في الظهور و منها فرقة ثلاثي أضواء المسرح و غيرها التي قدمت للجمهور فن جديد اتسم بالعصرية و سحبت البساط من فرقة اسماعيل يس، انسحب ببطء، شارك في أدوار ثانوية، لكنه لم يعد “النجم”. عاش سنواته الأخيرة في صمت، يعاني من المرض، وتقلّب المزاج، وقسوة الإهمال و تراكم الديون للضرائب.
النهاية تأتي بسرعة
لم ينسَ أحد أن إسماعيل يس، الذي كان “نجم الشباك”، رحل دون أن يجد طبيبًا في لحظة النهاية، في اليوم الذي سبق وفاته، كان في الإسكندرية يقدم عرضًا مسرحيًا، وعاد في الليل إلى القاهرة، وفي قلبه حزن على وفاة صديقه فطين عبد الوهاب قبل عشرة أيام فقط، كأن الحياة كانت تتهيأ للفصل الأخير، بكل ما فيه من مرارة وتواطؤ القدر.
إسماعيل يس لم يكن مجرد فنان، بل ظاهرة إنسانية. رجل عاش حياته على المسرح، لكنه حين أُسدل الستار، لم يجد من ينتظره خلف الكواليس. في مشهده الأخير، لم تكن الكاميرات تدور، ولم يكن الجمهور يصفق. كان فقط صوت قلب يتوقّف، في ساعة لا يسمعها إلا من عاش الألم والبهجة معًا.
رجل يشبهنا كثيرا
لكن هل مات إسماعيل وحسب؟ الضحك لا يموت، في كل لقطة من أفلامه، نراه يتحرك بعينيه المتسعتين، وملامحه الطفولية، وصوته المرتبك، نراه يتلعثم أمام فتاة يحبها، أو يتظاهر بالشجاعة أمام لصوص، أو يهرب من الضابط، نضحك، ثم نفكر: هذا الرجل يشبهنا كثيرًا.
بموته، انتهى زمنٌ كان الفن فيه رسالة، والضحك فيه علاج، والكوميديا فيه تعبير عن الإنسان في أضعف حالاته. تركنا إسماعيل يس، لكنه ترك إرثًا سيظل حيًا طالما كانت هناك شاشة وسينما وذاكرة.
ولعل أعظم ما يمكن أن نقوله عنه اليوم: إنه أضحك الناس وهو يبكي، أعطى دون أن يطلب، ومات كما عاش… بسيطًا، شريفًا، فنانًا من طراز لا يُنسى.