الأمية البصرية بقلم/ دكتور سيد هويدي
محمد عبد الوهاب بيقول: “أنا من ضيع في الأوهام عمره” وأنا غير نادم علي عمري اللي ضاع في الكتابة عن الجمال .
الأمية البصرية
حتى وقت قريب كنا نتحدث عن أزمة جمال، تفسر حاجتنا الارتقاء بالذوق العام، فإذا بنا نواجه أزمة نظافة، ويتراجع الحديث مربع إلى الخلف، فى الوقت الذى نعانى من أمية هجائية، بنسب مفجعة، ولان ليس هناك شئ فى الدنيا بمعزل عن بعضه، نعانى ايضا من أمية بصرية يطلق عليها البعض التلوث البصرى، فى مظاهر حياتنا من فقدان عمارتنا للطابع المميز والجمالى، إلى هندسة الشوارع، الى صور الاعلانات العشوائية، وكأننا اعتادنا القبح، بعد كنا أصحاب ريادة فى عالم الفن والجمال، منذ فجر التاريخ، وهذا ليس كلام إنشائى، بل حقيقة يجهلها عديم البصر والبصيرة.
يقول الفيلسوف الالمانى “شوبنهور” (1788 ـ 1860): ” أن التذوق الفنى هو انتقال من الارادة الى المشاهدة، من الرغبة إلى التأمل” تلك الشروط البسيطة التى يطرحها شوبنهور، ما زالت حتى الآن بعيدة عن تناول المشاهد المتلقى المتابع لأى انتاج بصرى مرئى يقتحم حياتنا يوميا سواء كان عملا تشكيليا أو صور متتابعة سينمائية أو تليفزيونية أو اعلانات تصدم الرؤية فى كل مكان، لا أحد يتوقف لحظة للاستمتاع بجماليات الصور المتداعية أمامه يوميا، مهما كانت قيمتها.
ولأن الفن يحكمه مثلث شهير اضلاعه الثلاثة الموضوع الفنى والفنان والجمهور، فقد أدرك بعض تجار الفن امية الجمهور البصرية، فجاءت اعمالهم أشبه بالطرق على النحاس الذى يحدث كل هذا الضجيج، دون ان يكون له صدى فى النفس أو الوجدان، عكس ما يحدثه صوت الناى، أو الكمان.
كما ان الجمهور استراح فى منطقة الموضوع، فى العمل الفنى، واكتفى بفك رموز تلك المساحة المشحونة بالميلودراما، وتبخر الشكل فى ظل عدم ادراكه، وأصبح وجوده ثانويا، لدرجة أن اغلب الناس كثيرا ما تفاجئ الفنانين التشكيلين فى معارضهم قبل بذل اى مجهود فى قراءة لوحاتهم، بسؤال مدهش: ماذا تقصد من وراء هذه اللوحة؟!! دون ان يكلف انفسهم عناء التأمل المشروع، أو حتى متعة الاحساس بمفردات اللوحة والقيم اللونية الموجودة فيها، أو العمل الفنى سواء كان رسما أو نحتا. وكأنهم أصيبوا بمرض عضوى أسمه ضيق الأفق الواسع.
كل ذلك فى زمن تجاوز فيه الفن التشكيلى لغة الوصف الادبية على طريقة القرون الماضية، التى عرفها منذ عصر النهضة الأوروبية، فقد جاء القرن العشرين بتحولاته بمدراس فنية وتيارات تهز بعنف الثوابت وتلتقى مع العصر فى ايقاعه، وتطرح أشكال جديدة للفن والحياة والمنتجات من عمارة وسيارات، وأدوات تتناسب مع وظيفتها التى وجدت من أجلها.
وما يقال عن الفن التشكيلى ينسحب فى نفس الوقت واللحظة على الفنون الاخرى، كالمسرح والسينما والموسيقى والأدب، ونحن مازلنا نقف عند محطة الموضوع، ولا تلتفت لجماليات الصورة عامة، ولغة الفن البصرى من لون وخط ومساحة، بعد ان خاضت هذه اللغة معارك كثيرة إلى أن وصلت فضاء اتسقت فيه مع العصر.
صحيح أن الفن الحديث خرج عن حدود المجتمع وعن التقديرات المتوقعة للذوق العام، بعد أن سيطر على الفن الرغبة فى التحرر والتمرد على جميع المظاهر الفنية، وعلى جميع القيم الجمالية، كما ارتبط بمنطلقات جديدة بعيدا عن الوصفية الأدبية التى سيطرت عليه، , من عصر النهضة الأوروبية، وحتى بداية الانطباعية مع نهاية القرن التاسع عشر، الا أن الفنان المصرى اكتف بالحد الأدنى من الجهد فى الوصول إلى المتلقى، وقصر دوره على تشييد لوحته وتمثاله، ومع التحولات الاقتصادية العنيفة منذ منتصف السبعينات يحاول الفنان التحرر من جميع الالتزامات الاجتماعية، فتزيد الفجوة والهوة بين الفنان والجمهور، على الرغم من أن هدف الفن الاساسى، هو الاتصال بالناس، لهدف أكبر وهو تجاوز الواجب الزينى لوجود اللوحة والتمثال لصالح انتخاب قيم جمالية تصلح أن تكون قاطرة قيادة الذوق فى المجتمع من طابع معمارى وشكل للمنتجات والملابس وشتى الموجودات، ومن جانب آخر أصاب الجمهور الكسل بعيد عن دوائر معرفة الفنون الرفيعة بحكم الغربة وحزمة من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية العقائدية كشبهة تحريم الفن.
ولان الفن ليس نسخا عن الطبيعة، كما أنه ليس مجرد صور طبق الأصل من الجمال الطبيعى بل هو محاكاة منقحة تقوم على تبديل الواقع وتعديل الطبيعة، فهناك ضرورة إن يبشر الفنان التشكيلى بدوره، الثقافى والدفاع عن عقيدة الانسان المصرى البصرية التى بهرت العالم ومازالت، وانتزاع شرعية مفتقدة من المجتمع بأهمية دوره الحضارى، والمهنى وان تراجعت المؤسسات الرسمية، فى ظل بعثرة أدوات الدولة القومية، تحت وطأة أنياب العولمة، وتجمد العمل النقابى بسبب اختطاف نقابة الفنانين التشكيلين.