الأنساق الروائية ومواجهة القوى الخفية قراءة في رواية: ستانلي.. بقلم.م/ صالح شرف الدين.

أ-لقد أصبح من يدركون وظيفة الأدب ،والدور الاجتماعي للأدباء أقلية، وما نقرأة من الروايات والدواوين الصادرة حديثا يؤكد غياب الوعي حتى عن كثير من الذين يمتهنون مهنة الكتابة، فتصدمنا الخيالات المريضة، والأفكار التافهة المسطحة الضحلة ،والرغبة في الإثارة ،والخروج عن المألوف لمجرد الخروج دون هدف أو فائدة، بل يتشح بعضها بالعنصرية، والترويج لأفكار متطرفة في ثياب أدبية، واستخدام لغة مسفة في السرد أو الحوار، أعمال كثيرة تخلو من كل ما يمت للأدب بصلة، ونفاجأ بلاءات سبع إذا سألنا أنفسنا بعد قراءة تلك الأعمال:
هل زادت مساحات الحق؟
هل زادت مساحات الخير؟
هل زادت مساحات الجمال؟
هل للعمل هدف إنساني سام؟
هل نريد قراءة العمل مرة أخرى؟
هل يوجد في العمل ما يمكن أن نشيد به؟
هل وجدنا أنفسنا إنسانيا في نسق من أنساق العمل؟
***
ب- والحقيقة أننا محظوظون فكل فترة وأخرى يقع في أيدينا عمل يبرأ من كل ماسبق ،ويفارق كل المثالب التي أوردناها ،ويطمئننا أننا مازلنا بخير، وأن هناك من يكتب ويدرك أنه إنسان قبل أن يكتب، وأن له مهمة سامية ككاتب، وأنه مسؤول عما يكتب، وأن حرية الكتابة ليست انطلاقا من كل قيد، ولكنها بوح جميل، وسرد أجمل، ورغبة عارمة في أن يكون كل شيء حولنا مثاليا، وجدنا ذلك في ثلاثية روائية قيمة: متروبول، وسان ستيفانو، وستانلي: وهي ثلاثة أماكن في عروس البحر المتوسط الإسكندرية، صارت عناوين لثلاث روايات قيمة.
لقد لفت انتباهنا فيها أن النسق الروائي آخذ في الصعود من متروبول حتى ستانلي مرورا بسان ستيفانو، وقد دونا قراءتنا لمتروبول تحت عنوان: تناسخ الأرواح بين الواقعية والرمزية، والميتافيزيقية.
وقراءتنا لسان ستيفانو تحت عنوان: العبقرية الثلاثية: الزمان والمكان والإنسانية، وها نحن نقرأ معا ثالثة الثلاث روايات: ستانلي..
***
ج-بين يدي الرواية:
1-الغلاف الخلفي :فقرة مشوقة:
“ظللت واقفًا أتأملها بصمت، وكأني أتأمل لوحة بديعة رسمها فنان ماهر. كبرت وكبر معها جمالها، وازدادت فتنة وجاذبية. ابتسمت لها ابتسامة مرتعشة ومعتذرة. أكملت طريقها إلى المعبد ودخلته وأنا أتابعها بنظرات مبتهلة وكأن عيوني تصلي في محراب حضورها، ثم مضيت في طريقي عائدًا إلى منزلي. صحيح أني لم أبادلها الحديث بحديث، ولكن يكفيني أني رأيتها، وسمعت صوتها. ظل ذلك اليوم محفورًا في وجداني وكياني، لا تبارحني تفاصيله في يقظتي أو منامي..”.
-والغلاف الأمامي: العنوان: ستانلي: ترنيمة الحب والحرب والحياة، وصورة جميلة لكوبري ستانلي في الإسكندرية..
2-الإهداء:إلى كل قلب ما زال ينبض بالحب والحياة.
-فقرة قصيرة معبرة عقب الإهداء: حين فرت (الراء) هاربة من (الحرب) إلى يم الحلم بقي (الحب) وجودا وصار اسمي: ترنيمة حياة
هذه العتبات النصية تعمق التلقي والتشويق: (الحب الحرب الحياة) فالحب والحرب والحياة تشعل من في الأرض منذ بدأت الخليقة وحتى يرث الله الأرض وما عليها ،تثير الذهن، حتى على مستوى صوت الحرف في (الحاء )المشتركة بين الثلاث كلمات: الحياة الحب والحرب، وصراع إنساني في الحياة، أحدهما يجني السعادة والآخر يحصد التعاسة، وهنا يتألق الخيال وحلم المبدعين الذين ينحازون للحب، ويحاولوا أن يطفئوا نيران الحرب لتحلو الحياة، هذا النص الموازي يتماهى مع أحداث الرواية تماهيا لا يجعله مجرد مدخل لها بل شريحة عبقرية تضوي على جُلْ أحداثها، وتعكس ألوان الغلاف المبهجة تفاؤلا رغم قسوة الأحداث، وهو تفاؤل يعكس ثقة جينية ممتدة لآلاف السنين حيث تنتصر مصر بأبنائها بعد كل هزيمة، وتقوم بعد كل كبوة؛ فبنت النيل لم تستسلم أبدا لمعتد أو لقبح..
3-تقع الرواية في خمسة وأربعين فصلا انضبط نسقها الروائي من فصلها الأول، وحتى فصلها الأخير بتقنية: السرد المباشر والسارد العليم، بالحكي عن الحاضر، والارتداد للماضي، والربط بينهما..

***
د- النسق الروائي :
1-سرد مباشر(بضمير المتكلم ) على لسان (سارة رياض) التي كانت بطلة من أبطال متروبول، وسان ستيفانو، ثم سرد بالعودة إلى الماضي تقوم به الكاتبة بأسلوب السارد العليم(بضمير الغائب) لتاريخ أسرة الدكتور كريم الذي يتماهى مع فصول مهمة من تاريخ مصر ، سارة تحكي عما حدث لها خلال فصل كامل من فصول الرواية، ثم تحكي الكاتبة بسردها العليم فصلا كاملا، وتعود سارة لتحكي، ثم الكاتبة حتى نصل لنهاية الرواية..
تبدأ الفصل الأول سارة:
“ظللت ساهمة لبرهة أستعيد كلماته مرة تلو الأخرى..
ترى ما هو هذا الموضوع العاجل والمهم الذي يريدني أن أذهب
إلى هذا المكان من أجله، وأنا لم ألتقِ به قط قبل الآن،
ثم قفز إلى ذهني خاطر أفزعني..
هل التقيت به حقًا..؟
أقصد هل كان هذا الرجل موجودًا إلى جواري بالفعل منذ لحظات يحدثني؟
أم أن الأمر كله محض خيال؟..
حاولت استئناف القراءة مرة أخرى ونسيان ما حدث ولكني لم أستطع..
فقررت العودة للبيت ..”
،وتنتهي الرواية بنهاية الفصل الخامس والأربعين على لسان سارة أيضا – نهاية قوية تفتح آفاق التلقي :
“…. في غرفة بيضاء كنت أرقد على أحد الأسرة بين الموت والحياة. ثم رأيتني أقف على قدمي من جديد، وريت أحمد يقف بجانبي يمد لي يده، أمسكتها، استطعت أن أمسك يده أخيرًا. ابتسم لي وهو يعانق كفي يطمئنني، بأنني سأكون بخير، وأن ثمة نور يضي عتمة الطريق في نهاية هذا النفق الطويل..”
2-الجزء الحديث من الرواية يدور أغلبه في لندن والإسكندرية، والجزء القديم يدور في حي الحسين بالقاهرة والمناطق الشعبية حوله، وفي الإسكندرية أيضا، وهنا تبدو عبقرية الأماكن في أنساقها المضمرة: علاقة حي الحسين بالإسكندرية، وعلاقتهما بلندن، وهو جانب تاريخي يلعب دورا حيويا في الرواية حيث إن وقائع التاريخ ترتبط بالمكان كما ترتبط بالإنسان، والزمان:
“التقوا جميعًا أمام سانت كلير التي كانت قد شيدت حديثًا بشارع صلاح الدين بحي العطارين، وقبل أن يذهبوا ناحية شباك التذاكر، لمحوا من مسافة قريبة عسكري إنجليزي يسير مترنحًا، وبدا أثر الخمر واضحًا عليه، كان يهذي بكلمات غير مفهومة ثم يكيل السباب للمصريين المارين إلى جواره، لم يكن غالبيتهم يعرف اللغة الإنجليزية، فلم يفطنوا إلى أنه يسبهم، ولكن مصطفى كان يتقنها جيدًا. ظل يرقبه وقد انتفخت أوداجه من الغضب، إلى أن مر العسكري بجوار امرأة مصرية كانت تسير على مهل ممسكة بيد طفلتها، امتدت يد العسكري المخمور إلى جسد المرأة تتحسسه، صرخت المرأة في فزع. هرع مصطفى ناحيته ولكمه في وجه عدة لكمات أسقطته أرضًا، شكرته المرأة وحملت طفلتها وجرت مسرعة بعيدًا عن المكان. أسرع الطالب الإنجليزي يرافقه الطالب اليهودي ناحية العسكري الإنجليزي ليساعداه على الوقوف، وهما يوجهان نظرات غاضبة ومتوعدة إلى مصطفى الذي رمقهما بتحدٍ وإباء، انضم إليه الطالب المصري المسيحي وربت على كتفه ممتدحًا فعلته، وجذبه من ذراعه وسار به بعيدًا عن الإنجليزي واليهودي، أما الطالب العربي فظل يقف في صفوف المتفرجين لا هو في صف هذا ولا ذاك وكأن الأمر لا يعنيه أو كأنه ليس طرفًا فيه..”.
3-وأحسب أن من أهم ما يجده القارئ في هذه الرواية هي أحداث حقيقية ووقائع تم الربط بينها عبر المكان والزمان والإنسان لتكشف فصولا من صنع الشيطان الذي جعل قابيل يقتل هابيل، وتبقى جثته تشير إلى جرم القاتل والمحرض، رغم غربان كثيرة تحاول إخفاء الجثث ليعيد الشيطان ووكلاؤه كرتهم، ويضلوا من يستطيعون من أبناء آدم ويوردونهم الجحيم معهم ،يقول أحمد صادق البطل الذي توفي منذ فترة طويلة ،ولكن روحه مازالت تسعى وتتجسد لسارة:
“أعني من يحركون خيوط اللعبة بأكملها، فالحكومة الإنجليزية نفسها ليست سوى دمية بين أيديهم الملطخة بدماء المؤامرة.. اقرئي التاريخ بعقلك لا بعينيك.. استمعي إلى من يروونه بضميرك لا بأذنيك.. وستعرفين كل شيء.. وستفهمين الحقيقة.. فمن لا يقرأ التاريخ جيدًا، لا يستطيع حماية الجغرافية من أطماعهم.. صحيح أن التاريخ ليس منصفًا دائمًا، ولكنه على الأقل يمنحنا الفرصة لسماع أحاديث من دفنوا بين صفحاته ، ربما تجنبنا تكرار أخطائهم، لنكون منصفين مع الحاضر ومن يعيشون فيه..”
4-إن اتساق الأنساق الروائية مع جوهر الإنسانية بطل أبطال هذه الرواية التي ترسي دعائم هذه الإنسانية التي تعاني أشد المعاناة في اللحظات الآنية:
“هذا الجامع، دليل حي على أن الديانات السماوية بريئة تمامًا من العنصرية.. فلم يأمر الله أتباع أي دين باضطهاد أتباع دين آخر أو ازدرائهم.. فالله محبة، ولكن الكراهية من صنيعة البشر.. وأحفاد يهوذا هم أول من أشاعوها بين الناس، ليحققوا أطماعهم الخفية، مبدأهم دائمًا( فرق تسد)..
صمتوا بعدما أنهى عزيز كلامه، واستكملوا سيرهم في الشارع، كل منهم في شأن
كان صادق يفكر في كل كلمة قالها عزيز، شارع واحد يضم بين دفتيه، بيوت عبادة لأتباع الرسالات السماوية الثلاث: مسجد النبي دانيال، والكنيسة المرقسية، ومعبد إلياهو حنابي.. وكأنه هو في حد ذاته رسالة سلام ومحبة لجميع البشر، كما هي رسالات الله لعباده.. ولكن عزيز محق: ليس كل البشر يعتنقون المحبة مذهبًا،
أو يؤمنون بالإنسانية سبيلًا للخلاص..”
5- بين التحليل النفسي والاجتماعي تنفرد الثلاثية بذلك البعد الميتافيزيقي الذي يأخذ بعدا واقعيا بعيدا عن الشعوذة وجموح الخيال ،وهذا النسق تمثله سارة رياض التي تشعر أنها عاشت حياة سابقة ، والتي تجد أن تلك الحياة السابقة يجب ألا تدمر واقعها ،وأن رؤيتها لمن رحلوا يجب ألا تغلق عليها باب التعلق بمن مازالوا على قيد الحياة ،وأن ذلك لا يجعلها شخصا مريضا نفسيا أو عقليا، ولكنها شخص سوي تعيش قصة حب سوية كادت تنتهي نهاية سعيدة لولا الإرهاب الذي علق نهايتها على شفائها من إصابة عشوائية بالغة.
تقول الكاتبة على لسان سارة:
“وصل كريم في موعده كعادته، كنت أنتظره في الفناء الخارجي أمام باب المنزل، ترجل من سيارته وسار نحوي، حين اقترب مني ارتميت بين ذراعيه، استمد منه الدفء والراحة. قبلني على جبيني وكأني طفلته، ثم أخرج من جيب سترته علبة مربعة صغيرة من القطيفة الحمراء وفتحها أمام عيني، التي التمعت ببريق السعادة الممزوج بدهشة المفاجأة. كانت العلبة تضم خاتمًا أنيقًا. مد لي يده بها، وعيناه تسألاني عن إجابة سؤال لم تنطق به شفتاه، وإن كان خاتمه قد فعل..
هززت له رأسي موافقة وأنا أسبل جفوني بفرحة ،
احتضنني مرة أخرى بقوة أكثر من المرة السابقة،
وهو يهمس في أذني بصوت مفعم بالحياة:
أحبك..”
6-لقد تفاعل الإنسان مع الزمان والمكان تأثر بهما، وأثرا فيه، وشكلا عقدة الرواية وجاء الحل مفتوحا يفضي لتصورات كثيرة، ورغم جفاف الأحداث التاريخية ظلت حيوية الرواية، وجاذبيتها حتى آخر سطر فيها شوقنا لأن نكمل بلا ملل لتشابك الأحداث، وعدم الإسهاب، وامتزاج الخيالي بالواقعي بصورة لايمكن لنا أن نفصل بينهما خصوصا في مسألة رؤية بعض الأشخاص لمن ماتوا والتحدث إليهم..
7-برئت ستانلي من أمراض كثيرة أصابت الكثير من الروايات الحديثة: الإثارة
المبتذلة، والألفاظ السوقية المسفة، والتطويل الممل، وتفاهة الفكرة وسطحيتها، وتعمد السرد بالعامية دون أن يحتاج الموقف لذلك، ووجود الكثير من الثغرات في السرد الروائي، وتهافت الخط المعلوماتي لوجود أخطاء معلوماتية تسيء للسرد والسارد –برئت من كل ذلك، والتزمت الكاتبة لغة فصحى سهلة محلقة نجحت في توصيل المعاني والمشاعر إلينا دون تكلف أو إسفاف.
***
هـ الختام:
-إن الهدف السامي الذي تشف عنه الرواية، ويبدو ظاهرا تارة وجاريا على لسان أكثر من شخصية: وجوب الإلمام بحقائق التاريخ للحفاظ على الجغرافيا، وعدم تكرار أخطاء الماضي، كما يجده المتأمل لما بين السطور في معان ظاهرة وخفيه، هذا الهدف وأهداف كثيرة تتسم بالسمو والإنسانية والوطنية مقاومة قوى الشر الخفي منها والظاهر التي تتلون بألوان كثيرة وسلوكها على الأرض يفضح أهدافها الشريرة التي تضوي عليها الكاتبة بشجاعة، مما يجعل الرواية تقترب بشدة من الهدف الأسمى للآداب والفنون الراقية:
“زيادة مساحات الحق والخير والجمال..”
-إن التفاصيل الدقيقة في علاقة الإنسان بالإنسان ،والإنسان بالمكان والزمان التي حفلت بها الرواية تفضي لإشارات كثيرة ،ولعمق رمزي في شخوص الرواية يمكن أن يفسر تفسيرات متعددة ،فسارة رياض مثلا شخصية تحمل الكثير من الإشارات والرمزية ،قد ترمزفيما ترمز إليه لمصر التي ترى مالا يراه الآخرون، والتي تمتلك من المثالية الكثير، والتي يوقف الإرهاب تحقيقها للسعادة مؤقتا، وقد تشير إلى كل سيدة مصرية سوية قوية وطنية، وقد يكون فيها جانب من سيرة ذاتية؛ فالرمز الحقيقي يفسر ولا يحل، وكثير من شخصيات الرواية رامزة وملهمة..
-وفي كل الأحوال تستحق رواية ستانلي وسان ستيفانو ومتروبول دراسات متعمقه خصوصا في تطور ونمو الحدث الروئي، ودلالات الشخوص، والأماكن، وما تمثله في الواقع الروائي والواقع الفعلي للزمان والمكان والإنسان..
-نتمنى في ختام القراءة أن يجد فيها القارئ ما وجدناه من معالجة روائية مبدعة وقوية لعدة مشكلات حياتية تستحق الكثير والكثير من المعالجات الفنية المخلصة للفن الروائي ، ولإنسانية الإنسان في كل زمان ومكان..
مع أطيب المنى للجميع..
الجيزة
يناير 2020 م

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.