” الاحتياج وحش”: القياتي يتحدي منطق الأغنية العاطفية وبلال سرور يُجرد الألم من وقاره
بقلم: ريهام طارق
في مشهد غنائي يعاني من الملل المزمن ، ويشكو من العبارات المستهلكة والقصص العاطفية النمطية التي أصبحت هي السائد، يطل علينا الملحن العبقري بلال سرور والشاعر الغنائي المبدع محمد القياتي مع أداء استثنائي وناضج من تامر حسني، بتجربة فنية عبقري، تمثلت في أغنية “الاحتياج وحش”.

طرحت اليوم اغنية “الاحتياج وحش”، ضمن ألبوم “لينا ميعاد” احدث البومات النجم تامر حسني، والتي تمثل قفزة فنية واعية، لا في بنية اللحن وحده، بل في عمق الفكرة، وجرأة الطرح، وخصوصية الأسلوب التعبيري الذي ينتمي بامتياز إلى مدرسة “الكوميديا السوداء”، والتي تجاوزت 33 الف مشاهده علي اليوتيوب خلال ساعه واحده فقط من طرحها.

القياتي يعتبر الحب جريمة يومية نرتكبها في حق أنفسنا ويهاجمه بسكين ساخر في اغنية “الاحتياج وحش”
أختار الشاعر محمد القياتي عنوان صادما وغير مألوف للأغنية وهو”الاحتياج وحش“، لكنه لم يذهب بنا إلى المسارات الدرامية التقليدية، بل أدخلنا إلى عالم السخرية السوداء، حيث تختلط المرارة بالضحك، ويصبح الاحتياج العاطفي مصدرًا للتأمل لا للبكاء، وبدأ بجملة:
“الاحتياج وحش والذكريات أشباح.. معششة في نفوخنا”.. وهنا نجد توليفة ذكية بين اللغة اليومية البسيطة و المشهد التصويري القوي، و استخدام كلمة “نفوخنا” كمفردة شعبية منح النص روحًا قريبة من الناس، بينما جاءت “الذكريات أشباح” كصورة مجازية تعبر عن الماضي الثقيل الذي لا يغيب عن الذهن، وكأنه شبح يطارد صاحبه.
القصيدة لا تحكي قصة حب تقليدية، بل تعكس حالة إنسانية عامة يعيشها كثيرون في زمن العلاقات السريعة والفاشله والمتقلبة، وصور القياتي كيف تحولت العلاقات إلى تجربة مرهقة، ولكن باللغه لا تخلو من الطرافة المؤلمة، كما في قوله: “داخلين بـ حاجة ساقعة.. خارجين بعلقة سخنة”
جملة قصيرة لكنها تحمل الكثير، إذ تجمع بين العفوية والوجع، وتقدم نقدا اجتماعيًا ساخرا من العلاقات التي تبدأ باندفاع وتنتهي بخيبة أمل.
في “الاحتياج وحش”، قدم محمد القياتي مرآة ساخرة للواقع العاطفي المربك، بلغة بسيطة لكنها عميقة، تُشبه ما يشعر به كثيرون منا.. و تلامسهم دون افتعال غير مبرر في التعبير عن المشاعر.

بلال سرور يُجرد الألم من وقاره
ابتعد الملحن بلال سرور في أغنية “الاحتياج وحش”، عن التلحين التقليدي وقدم تجربة موسيقية مختلفة، أقرب إلى مقطوعة ساخرة تحمل طابعا نفسيا خاصًا، لم يعتمد على الميلودراما أو النغمة العاطفية الكلاسيكية، بل اختار بناء لحن متقلب وغير مستقر، يعكس بحرفية التوتر الداخلي والاضطراب الذي يعيشه الإنسان عندما يقع في فخ الاحتياج.
الجميل في هذا التكوين اللحني أنه لا يواسي المستمع، بل يدفعه للتفكير وربما للسخرية من ذاته، من هشاشته، ومن تكرار أخطائه، وهذا هو سحر بلال سرور الحقيقي؛ إذ استطاع أن يحوّل الألم إلى لحظة ساخرة دون أن يُفقد النص عمقه أو رسالته.
فاللحن هنا لا يخفف وقع الكلمات، بل يعززها بطريقة غير مباشرة، عبر توليفة صوتية تجعل المستمع يشعر وكأنه يسمع قصة يعرفها جيدًا، لكنها هذه المرة تُروى بنبرة تهكمية توجع أكثر مما تواسي. أحيانًا، تكون السخرية من الذات هي أقسى أنواع الألم، وهذا ما نجح بلال سرور في ترجمته موسيقيًا ببراعة.
جاء التوزيع الموسيقي للموزع الموسيقي علي فتح الله للأغنية بمستوى لا يقل تميزًا عن الكلمات واللحن اختار فتح الله أن يقدّم توزيعًا هادئًا وذكيًا، يخدم الفكرة ويكمل الحالة، دون اللجوء إلى مؤثرات صاخبة أو استعراض تقني مبالغ فيه، بل اعتمد التوزيع على إيقاع بسيط منح صوت تامر حسني المساحة الكاملة ليؤدي الاغنيه ببراعة، مما اعطي الصوت المساحة الكافية لقيادة المشهد، بينما الموسيقى ترافقه بهدوء وتدعمه دون أن تزاحمه، مما حول الأغنية إلى لوحة صوتية تجمع بين الأداء واللحن والكلمة في تناغم واضح..
في ‘الاحتياج وحش’.. تامر حسني يخلع عباءة النجم ويؤدي كراوي من قلب الحدث
على خلاف أدائه المعروف في أغنيات الحب المعتادة، ظهر تامر حسني في هذه الأغنية أكثر نضجًا وتحررًا، مستسلمًا تمامًا لفكرة النص واللحن، وكأنه يحكي لا يغني، يروي لا يصرخ، يتأمل لا يتوسل، واستخدم طبقات صوته برشاقة جعلت الفكرة تصل إلى المستمع وتجعله يتقمص الحكاية، ويتذكر الكائن المتوحش الذي يسكن بداخلنا، ويفتك بنا كلما طرقنا باب الحب، وهو الاجتياح.
‘الاحتياج وحش’.. الأغنية التي طرحت السؤال الأصدق: هل نحب لأننا نريد، أم لأننا لا نحتمل البقاء وحدنا؟
تأتي أغنية “الاحتياج وحش” كعمل غنائي صادق في تعبيره عن موقف إنساني معقّد، يضع المستمع في مواجهة سؤال مهم: “هل نحب بدافع الحب الصادق؟ أم لأننا نخشى مواجهة الوحدة؟”
هذا التساؤل لا يُطرح بشكل مباشر، بل يتجسد شعريًا من خلال أحد أكثر الأسطر تعبيرًا في الأغنية:
“الوحدة خانقة.. بتجبر الواحد يروح يحب.. فـ يروح الحب نازل فوق دماغه طوب“
في هذا السطر، لا يتحدث الشاعر عن الحب بوصفه تجربة رومانسية، بل بوصفه رد فعل نفسي دفاعي أمام عزلة قاسية، تنتهي غالبًا بخيبة، وتتحول القصيدة إلى بيان احتجاجي هادئ ضد الزيف الذي يحيط بالعلاقات في عصرنا الحالي، فالبطل لا يفقد الثقة في الحب فقط، بل يفقد ثقته في نفسه أولًا، وفي قدرته على اتخاذ قرارات سليمة، تتكرر التجربة، ويزداد الألم، وتتحول العلاقات إلى حلقة مفرغة من التوقعات الفاشلة، وهو ما عبّر عنه القياتي بشكل بليغ من خلال استخدامه لتشبيه “الساقية“؛ حيث تصبح الحياة نفسها دائرة من الإخفاقات المتكررة التي لا تنتهي إلا بانتهاء العمر.
“الاحتياج وحش”، عمل فني جمع بين سخرية الموقف وعمق الرؤية، وفي تجربة غنائية جديدة تعيد صياغة العلاقة بين بين الواقع والفن عندما يصبح مرآة صادقة لحالة نفسية واجتماعية يمر بها كل منا.

في النهاية، نجح بلال سرور ومحمد القياتي في إثبات أن الأغنية العربية لا تزال قادرة على طرح أفكار جديدة، بطرح فني مختلف، يمزج بين الشاعرية والواقعية، ، في وقت أصبحت فيه كثير من الأعمال تدور في فلك التكرار، وكل التقدير للنجم تامر حسني الذي اعتاد على خوض المعارك الجديدة وعلى تبني الأفكار الجريئة والغير متوقعة التي تتبرأ من النمطية والتكرار وتعبر عن واقع نعيشه بصدق.

ريهام طارق صحافية متخصصة في الشؤون الفنية والثقافية، تمتلك خبرة واسعة في إجراء الحوارات الصحفية مع كبار نجوم الفن في الوطن العربي، تعمل مدير قسم الفن في جريده اسرار المشاهير.
بدأت حياتها المهنية في عدد من الصحف والمجلات الرائدة، من بينها جريدة “إبداع” بالمملكة العربية السعودية، وجريدة “الثائر” في لبنان، وجريدة “النهار” في المغرب، ومجلة “النهار” في العراق، كما شاركت بكتابات تحليلية في مجال السياسة الدولية، ما يعكس تنوع اهتمامها المهني وقدرتها على الجمع بين الرؤية الثقافية والتحليل السياسي في آن واحد، كما عملت عضو اللجنه الاعلاميه في المهرجان القومي للمسرح المصري.