الانزياح في روايات نجيب محفوظ بقلم د. عمر محفوظ
الانزياح في روايات نجيب محفوظ
ليس من شك أن نجيب محفوظ، وقد نذر قلمه لاستكناه أغوار الواقع المصري وتحولاته العميقة، قد بلغ في أساليبه الفنية مرتبة رفيعة جعلته يعالج اللغة والحدث معالجة تقوم على صنعة دقيقة ووعي نقدي راسخ. ومن أبرز الظواهر الأسلوبية التي تتجلى في رواياته ظاهرة “الانزياح”
بقلم د. عمر محفوظ
وهي ظاهرة نقدية وبلاغية قديمة في جوهرها، وإن لم يكن القدماء يسمونها بهذا الاسم، إذ كانوا يشيرون إليها بمصطلحات العدول والمجاز والمفارقة.
ويقصد بالانزياح في اصطلاح النقد الحديث الخروج باللغة أو بالمعنى عن المألوف إلى غير المعتاد، طلبًا لزيادة التأثير أو اتساع الدلالة أو تعميق الرؤية. ونجيب محفوظ قد مارس الانزياح بأنواعه المختلفة بوعي حاد وبراعة ظاهرة، حتى غدا من سمات نثره الروائي الكبرى.
أولًا: مظاهر الانزياح في روايات نجيب محفوظ
1. الانزياح اللغوي
في كثير من روايات محفوظ، ولا سيما في ثلاثيته الشهيرة، نلحظ أنه لا يلتزم دائمًا بالأداء المباشر المألوف، بل ينحو إلى أساليب لغوية تتخللها طبقات من التوتر البلاغي والتركيب الفني. ومن أمثلة ذلك توظيفه للأمثال الشعبية والنصوص الدينية ضمن السياق الروائي بما يخرج بها عن مقاصدها الأصلية ليضفي أبعادًا رمزية وشخصية.
مثال نصي:
من بين القصرين:
“وراح يدمدم في أعماقه بأدعية لا يفهم معناها فهمًا تامًا، ولكنه يثق بقدرتها على طرد الشياطين.”
هنا يتجلى الانزياح حين تتحول اللغة الدينية إلى وسيلة للتعبير عن اضطراب نفسي داخلي لا عن طمأنينة روحية.
2. الانزياح الدلالي
لم يكن محفوظ يكتفي بإيراد الأحداث في تسلسلها الواقعي، بل كان يعمد إلى تشكيل مستويات متعددة للمعنى، يحيل ظاهر الحدث إلى رمزية خفية.
مثال نصي:
من أولاد حارتنا:
“وجعل عرفة يضرب في المعمل ضرب المجانين، كأنما يحاول أن يخلق خلقًا جديدًا.”
الانزياح الدلالي هنا يظهر في تأويل فعل بشري محدود كأنه محاولة للخلق الإلهي، مما يحيل إلى أزمة العلاقة بين الإنسان والقداسة.
3. الانزياح السردي والزمني
كثيرًا ما كان محفوظ يمارس انزياحًا زمنيًا وسرديًا، إذ لا يسير الزمن الخطي التقليدي في رواياته الحديثة، بل يتشظى في انعكاسات الذاكرة والكوابيس.
مثال نصي:
من ثرثرة فوق النيل:
“في الصحف كل يوم حرب، وفي أنفسنا كل يوم خراب.”
الزمن هنا ليس تقويميًا، بل داخلي متحلل، يعكس تفسخ الإنسان وسط العجز السياسي والوجودي.
ثانيًا: تطبيقات الانزياح عبر المراحل الأدبية لنجيب محفوظ
ثالثًا: الفرق بين الانزياح الفني والانزياح الأيديولوجي عند نجيب محفوظ
• الانزياح الفني عند محفوظ يتمثل في تحوير البنية اللغوية أو السردية لتحقيق جمالية فنية عليا، إذ يغير من نمط الكتابة المعتاد لجعل النص أكثر دهشة وتأثيرًا، دون أن يكون غرضه الأول إقناعًا سياسيًا أو أيديولوجيًا.
• أما الانزياح الأيديولوجي، فيقع حين يُحدث الكاتب تحويرًا بالمعنى والسرد ليحمل رسالة فكرية أو نقدية مضمرة تجاه السلطة أو المجتمع أو البنية الدينية، كما يظهر بجلاء في أولاد حارتنا واللص والكلاب.
نلاحظ أن محفوظ غالبًا ما يدمج بين النوعين، لكنه كان حريصًا على ألا يضحي بالجانب الفني لحساب الغاية الفكرية، محافظًا على التوازن الدقيق بين الفن والرسالة.
رابعًا: لماذا اختار نجيب محفوظ الانزياح التدريجي وليس الصدمة الفنية؟
اعتمد نجيب محفوظ في تطور أسلوبه على الانزياح التدريجي، بحيث يبدأ نصه قريبًا من مألوف القارئ، ثم يجره شيئًا فشيئًا نحو عوالم رمزية وفكرية أعمق.
وهذا النهج يعود إلى عدة أسباب:
• الطابع المحافظ للمتلقي المصري والعربي: كان محفوظ يدرك أن قارئه، في أغلبه، متشبث باللغة السردية التقليدية، فآثر أن يقوده تدريجيًا نحو التجديد دون صدمة عنيفة قد تؤدي إلى الرفض الكلي للنص.
• رغبته في تحقيق أعلى درجات الفعالية الجمالية: فالانزياح التدريجي يتيح بناء طبقات متعددة من الفهم، تخاطب القارئ البسيط والنقدي على حد سواء.
• طبيعة مشروعه الأدبي الشامل: محفوظ لم يكتب رواية واحدة بل مشروعًا سرديًا متكاملًا يرصد تحولات المجتمع المصري عبر عشرات السنين، وهذا يقتضي لغة تطور نفسها بهدوء مع تطور الواقع نفسه.
خاتمة
على هذا النحو، يتراءى لنا نجيب محفوظ لا مجرد راوٍ لحكايات اجتماعية، بل مهندسًا لغويًا ومؤرخًا رمزيًا، أحسن توظيف الانزياح بمختلف أشكاله ليكشف عن خبايا الوجود الإنساني، متجاوزًا حدود الزمان والمكان إلى آفاق فلسفية وإنسانية رحيبة.
فانزياحه لم يكن ترفًا أسلوبيًا، بل كان ضرورة فنية وفكرية معًا، أثمرت فنا خلد في الوجدان العربي، وحجز لصاحبه مكان الصدارة بين كبار مبدعي الرواية في العالم.