التجربة الكرواتية بقلم سيد على

سوف تظل ذاكرة العالم لمونديال ٢٠١٨ تنحصر في فوز فرنسا بالكأس، وحماس الرئيسة الكرواتية كمواطنة قبل أن تكون رئيسة، الأمر الذي أضفى حيوية على أيام المونديال وجعل العالم يتوحد مع المشجعة الأولى للمونديال..

وإذا كانت مصر قد خرجت من الأدوار التمهيدية لكأس العالم، إلا أنها راحت تشجع كرواتيا وتوحدت مع الرئيسة كوليندا غرابار كيتاروفيتش، التي ذابت مع الجماهير كمواطنة تشجع فريقها بحرارة لفتت كل أنظار العالم لها، وإذا كانت فرنسا قد حصلت على كأس العالم فقد حصلت كرواتيا على المجد والاحترام من كل شعوب العالم وحققت دعاية عالمية بعشرات المليارات، وذلك لأنهم فعلوا ماعليهم بجدية وبدون فهلوة، أو إعلانات أو “روح الفانلة”.

وقدمت تلك الدولة ذات الـ ٢٧ عاما نموذجا للإرادة والجدية ولعبت بمهارة وخسرت بشرف بعد مباريات صعبة ولياقة غير عادية وخاصة في آخر ثلاث مباريات عندما لعبوا وقتا إضافيا شوطين وفازوا فيهما، وكان مشهد النهاية في المباراة النهائية كاشفا لتحضر تلك الدولة وطريقة التعامل الودودة بين الست الرئيسة والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وذهبت لغرفة لاعبي فرنسا لتهنئتهم وكانت الأمطار قد أفسدت مكياجها وتسريحة شعرها، ولم يعرفها لاعبو فرنسا إلا بعد أن أخبرتهم.

وفِي لحظات الفرح والخسارة لم تكن الرئيسة ذات الخمسين عامًا تدعي ولا تلبس أقنعة البروتوكول، وذلك بالرغم من أن خصومها السياسيين يطلقون عليها باربي نظرًا لجمالها، وهم يشيرون إلي اقتصار جمالها على صورتها الخارجية بدون عمق، وطبعًا هذا كذب سياسي؛ لأنها تتحدث أربع لغات بطلاقة (الكرواتية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية) إلى جانب إحاطتها بالألمانية والفرنسية وحصولها على أكثر من ماجستير في اللغات والعلاقات الدولية؛ لدرجة تصنيفها في المرتبة الـ١٤ لأقوى النساء في العالم؛ وبرغم تلك المؤهلات لم تسلم من التحرش عندما نشر البعض صورة عارضة الأزياء والراقصة “كوكو أوستن”، وهي ترتدي المايوه وزعموا أنها للرئيسة كوليندا.

وبمجرد تأهل كرواتيا لدور الـ١٦ حصلت على إجازة، وقامت بعدة رحلات على حسابها الخاص في الدرجة الاقتصادية، وفِي متابعتها للمباريات ذهبت للجلوس مع المشجعين، وتركت المكان المخصص لكبار الشخصيات، وهي التي باعت الطائرة الرئاسية و٣٥ سيارة مرسيدس للوزراء وأودعت عوائدها لخزانة الدولة، ورفضت بيع مؤسسات القطاع العام الإستراتيجية وقلصت سفارات وقنصليات بلادها في الخارج للحد من الإسراف، ورفضت الاستدانة من البنك الدولي؛ إلا للمشروعات الإستراتيجية، وهي التي ألغت الضرائب على محدودي الدخل، وحاربت الفساد في كل مكان بالدولة.

مشوار كرواتيا من البداية للمشاركة في كأس العالم لم يكن سهلا، وكادت تخرج حتى فازت على أوكروانيا في مباراة صعبة خارج أرضها، وعندما أتيحت لها فرصة التواجد بالمونديال حققت ستة انتصارات مستحقة مسجلة ١٤ هدفًا بالفوز على نيجيريا بهدفين، ثم بثلاثية على الأرجنتين وميسي ثم بهدفين على أيسلندا وبركلات الترجيح على الدانمارك، وأيضًا بركلات الترجيح على روسيا ثم بالفوز على إنجلترا بهدفين في مباراة أسطورية؛ لكي تظل التجربة الكرواتية ملهمة في الرياضة والسياسة وإرادة النصر للدول الناشئة.

كانت كرواتيا عضوًا مؤسسًا للدولة اليوجسلافية حتى عام ١٩٩١، عندما أعلنت استقلالها، وخاضت لمدة أربع سنوات حربًا شرسة للاستقلال، وتبلغ مساحة كرواتيا أقل من ٥٧ ألف كيلو متر مربع أي بالمركز ١٢٨ بين دول العالم أي أقل من محافظة أسوان البالغ مساحتها ٦٣ ألف كيلو متر مربع، وهي بالمناسبة الرابعة في المساحة بعد الوادي ومطروح والبحر الأحمر، ويبلغ عدد سكان كرواتيا ٤ ملايين و٣٠٠ ألف نسمة، أي بالمركز ١٢٧ بين دول العالم؛ أي أقل من سكان المنوفية، ويبلغ نصيب الفرد من الدخل القومي بكرواتيا عام ٢٠١٦ – حسب سعر الصرف – ما يوازي ١٢ ألفا و١١٠ دولارات في المركز ٧٩ بين دول العالم، بينما كان نصيب الفرد بمصر من الدخل القومي بنفس العام ٣٤٦٠ دولارًا بالمركز الـ١٤٥ بين دول العالم؛ حسب إحصائيات البنك الدولي
وفِي كل الأحوال يظل ما حققته كرواتيا منذ مشوار الاستقلال وحتي المونديال مبهرًا وملهمًا، بأوطان أفضل وبنخبة سياسية متواضعة وقوى رياضية ناعمة.

وفِي ظني أن ما حققته في المونديال يصعب تحقيقه بالمليارات وبالجيوش، فقد احتلت مساحات كبيرة من قلوب وعقول العالم بدون أن تدفع مليمًا للدعاية، أو تطلق رصاصة واحدة. نقلا عن الاهرام اليوم

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.