التنمية الذاتية مابين الهراء والكذب وبيع الأحلام ؟!!
التنمية الذاتية مابين الهراء والكذب وبيع الأحلام ؟!!
بقلم / عبدالله إيهاب
“- هل قرأت كتاب كيف تصير مليونيراً ؟
– ههه، ومن يقرأ تلك الكتب؟ الوحيد الذي صار مليونيراً بفضل ذلك الكتاب هو كاتبه.”
مقتطف من حوارات حديثة عن التنمية الذاتية، التي فقدت لمعانها عند العموم، فما الذي أوصلها لهذه الحالة؟ وهل فعلا هي لا تصلح لشيء؟
قبل الحديث عن الوضع الحالي لا بأس من التعريج علي مراحل نشأتها وتطورها عبر الزمن.
الجيل الأول
يُعتبر نابوليون هيل أبو التنمية الذاتية – أو التنمية البشرية كما هو شائع-، ففي بداية القرن العشرين خلال عمله كصحفي بدأ سلسلة لقاءات صحافية مع مشاهير وأغنياء أمريكا، واستمرت اللقاءات بشكل عفوي إلي أن التقي رائد صناعة الصلب الأمريكي من أصل إستكتلندي ” أندرو كارنيجي “، الذي إنتهي حوارهم معهم بالقيام ببحث طويل حول نماذج النجاح توج بكاتبة أول كتاب عن التنمية الذاتية بعد عدة سنوات، حاول الكاتب عبر هذا الكتاب إعطاء خطوات عملية لتحقيق النجاح المادي.
يقال أن الكتاب لقي نجاحا كبيرا في أمريكا آنذاك، وتلاه كتاب آخر مصاغ بشكل أكثر بساطة لا يزال حالياً من الأكثر مبيعا في مجال التنمية الذاتية عبر التاريخ، وهو كتاب “فكر وصر غنيا”.
قدرات محدودة
قبل أن ينتشر في باقي الدول الغربية تدريجيا بحكم القدرات المحدودة آنذاك لنقل المعلومات بين القارات.
بصفة عامة كان هناك شبه إجماع علي أهمية تطوير الذات بعد الزوبعة التي أثارها الكتاب، كون معظم محتواه كان عبارة على مجموعة من النصائح العملية التطبيقية لزيادة التحفيز والإنتاجية وتنظيم للوقت والموارد، عبر عبارات واضحة تخلو من الهلامية أو بيع الأحلام، وإن راجت معلومات دون إثبات حول احتواء الكتاب الأصلي علي معلومات سرية هي التي تحدث الفارق حول قانون الجذب والطاقة (ما سوف يظهر في الثمانينات عبر جيل لاحق).
الجيل الثاني
مع بداية سبعينيات القرن الماضي، نشأت البرمجة اللغوية العصبية التي لا يمكن تصنيفها لا كعلم ولا كفن، وإن كان مؤسسيها باندلر وغريندر حاولا استخدام منهج علمي إلي حد ما في التأصيل لها.
البرمجة اللغوية العصبية
شكلت منعطفا كبيراً في مجال التنمية الذاتية، فقد أقبل الناس عليها أفرادا ومؤسسات، وكانت الشركات الكبيرة والمؤسسات الحكومية تسجل موظفيها في دورات منظمة لتعلمها، وظهرت الكثير من المؤسسات التي تعطي شهادات معتمدة بعد دورات تكوينية طويلة تخضع لنظام صارم في الاختبارين النظري والتطبيقي.
مفكرين عرب
كل هذا يحدث في أمريكا ودول أوربا فيما كان العالم العربي غارقا آنذاك في صراعاته الإيديولوجية ، وكل مفكر عربي حاول التعريج علي الموضوع وأهميته إتهم بالترف الفكري وتضييع الوقت فيما لا يفيد.
الجيل الثالث
حتي هذه المرحلة خلت التنمية الذاتية من كل ما هو روحاني، وأقصي ما كان يقترب من هذه المنطقة هو بعض العادات النفسية الطيبة كتمارين التركيز والعادات الصحية الجيدة من نوم جيد، واهتمام بجودة الأكل.
عزوف الغربيين عن الدين، أعطى للجانب الروحي مكانة أكبر في التنمية الذاتية وقبل كتاب السر الذي تحدث عن “قانون الجذب” الذي لم يظهر إلا في القرن الحالي، بدا الكلام في أمريكا عن الجذب والذبذبات في الثمانينيات، وربما قبل ذلك مع أسطوانة إيرل ناينتنغيل : السر الأكثر غرابة، التي حققت مبيعات خرافية في الستينيات في أميركا.
كنف الغرب
مع عودة الكثير من المثقفين العرب إلي أرض الوطن نهاية القرن الماضي، بدأ الحديث ينضج شيئا فشيئا عن الموضوع، فالعيش في كنف الغرب لعقود ترك أثراً كبيراً في أفكارهم، من هنا دخلت التنمية الذاتية للوطن العربي بمسمي التنمية البشرية، وقد تعاطى لها في البداية فئة قليلة من العرب خاصة من الأوساط المتدينة متأثرين بمرجعيات الأشخاص من جهة وبالقواسم الكثيرة المشتركة مع تعاليم الدين، أو علي الأقل كما فهمها الأشخاص آنذاك.
في هذا الوقت الذي بدأ الوطن العربي يتعرف علي المجال رويدا رويدا، بدأت في الغرب موجة مضادة تناهض التنمية الذاتية لعدة أسباب، فمن جهة ظهر مجموعة من المدربين الذين امتهنوا الأمر وصار مصدر دخل مادي خاصة مع غياب إطار قانوني يشهد بمدي صلاحية الفرد لممارسة هذا الدور.
أفكار فقط
ومن جهة أخرى فشل إثبات بعض النظريات والممارسات علمياً نفر الكثيرين من الموضوع خاصة في كل ما يتعلق بقانون الجذب، والتفكير علي المحيط بالأفكار فقط.
أما في الوطن العربي كان أقوي المعارضين للتنمية الذاتية هم رجال الدين الذين اعتبر بعضهم ممارسة التأمل واليوغا شركا بالله، وبعضهم اعتبر الإيمان بقانون الجذب تحدياً لإرادة الله وللأيمان بالقضاء والقدر، ومن جهة أخرى ظهر تيار علمي لا يقل في تطرفه عن التيار الديني يتهم فيه مدربي التنمية الذاتية بالدجل وبيع الوهم للناس، واجتهد بعضهم في إجراء تجارب علمية تفند قانون الجذب، ومفهوم طاقة الأفكار.
الجيل الرابع
إن كان وصول الأجيال السابقة من التنمية الذاتية إلينا استغرق سنوات فإنه بفضل الثورة الرقمية، الأمر انتقل لحظيا إلينا خاصة مع قنوات اليوتوب والشبكات الاجتماعية، خاصية هذا الجيل الجديد هي السخرية ظاهريا من الأجيال القديمة، لكن في الداخل تبقي نفس الرسائل ونفس المحتوى هو ما يسوق، وكمثال على ذلك كتاب “فن اللامبالاة” الذي قدم اللاعب المصري محمد صلاح له شهرة كبيرة عبر صورته مع بحساباته في الشبكات الاجتماعية، هذا الكتاب يعطي انطباعا خاطئا عن محتواه، فيخال القارئ للوهلة الأولي أنه كتاب سوف يبطل كل الكلام الذي كان يقال عن أهمية التخطيط والالتزام والتحفيز الذاتيين وتشجيع علي العيش بلا هدف ولا ضوابط، ليكتشف القاريء البارع أن الكتاب في الحقيقة هو كتاب نموذجي من كتب التنمية الذاتية.
سخرية وأحلام
كما ظهرت مجموعة من المقالات المتفرقة والمداخلات على تيد إكس بعناوين براقة ساخرة مثل “لا تبحث عن حلمك” أو “إذا أردت أن تنجح فلا تخطط لذلك”.
ما يميز هذا الجيل أنه تخلص من إطار معين في خطابه، خاصة بعد السمعة السيئة التي صاحبت التنمية الذاتية مؤخرا، فصار الكثير ممن يتكلم في الموضوع يستخدمون وسوما عامة مثل “استشاري في مجال الإدارة” أو “خبير في العلاقات الإنسانية”، كما أنه توقف عن إيمانه بضرورة إيصال المعلومة لأكبر عدد ممكن، وركز علي الأشخاص الذين يبذلون مجهودات جادة من أجل تطوير ذواتهم.
الجيل الخامس
لا أظن أنه سوف يكون هناك جيل خامس أو علي الأقل علي المدي القريب، فتحرر الجيل الرابع من كل القواعد والمسميات سد أبواب الانتقاد، فصار هناك تفريق بين مجالات الإدارة الذاتية والتحفيز والراحة النفسية والنجاح المالي، وبالتالي لم يعد بالضرورة وضع كل المدربين والكتب في كفة واحدة، بل نلاحظ أن معظم المدربين حاليا يستفيضون في قدح التنمية الذاتية بشكلها الكلاسيكي ولا يتحرجون في مهاجمتها.
رأي شخصي
بين كل ما قيل ويقال، أؤمن بضرورة تطوير الذات، وإن كنت أؤمن أن هذا التطوير ليس صالحا لكل شخص، فمن لا يريد أن يبذل مجهودا لتحسين أوضاعه فلن تستطيع أن تساعده ولو حشدت له كل مدربي ومحترفي ومشاهير العالم في هذا المجال أو غيره، وفي نهاية الأمر أؤمن بالحديث الشريف الذي يقول : “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” صدق رسول الله صل الله عليه وسلم.