كل ما تراه ليس كما يبدو… الحرمان العاطفي سبب السقوط في فخ النرجسي
حين يُعمي الحب البصيرة.. تكون الأم بوصلة الحقيقة والأسرة حصن الأمان
بقلم: ريهام طارق
في كل قصة حب هناك خيط رفيع يفصل بين الحقيقة والوهم، بين الصدق و الزيف، وبين العاطفة التي تحيي الروح وتلك التي تفتك بها.
أحيانًا لا نرى الأشياء كما تبدو، بل كما نتمنى أن تكون، فنقع في فخ الأماني الكاذبة، هذا ما يطرحه حكاية “هند”ضمن حكايات مسلسل “كل ما تراه ليس كما يبدو”، الذي يضعنا أمام مرآة صادقة تكشف هشاشتنا الإنسانية حين نبحث عن الحب بأي ثمن، لنكتشف في النهاية أن الألم قد يكون المعلم الأول في رحلة اكتشاف الذات.
حين يقود الحرمان العاطفي إلى السقوط في فخ الاستغلال
تتمحور أحداث المسلسل حول شخصية هند، الفتاة الثرية التي نشأت في كنف أسرة افتقدت فيها دفء الأب وحنانه، فترك غيابه جرحا نفسيا عميقا.. جعلها أكثر هشاشة أمام أي تهديد خارجي، هذا الحرمان العاطفي دفعها إلى البحث عن كلمة حب أو لمسة اهتمام تعوض نقصها، حتى بدت وكأنها تطارد صورة الأب الغائب في كل رجل يمنحها شيئًا من العاطفة، وهنا يطلق العمل رسالة تحذير واضحة إن عطش الابنة إلى الحنان إن لم يروه الأب، فسوف تبحث عنه في طرق قد تجرها إلى الهلاك والضياع و قدّم الفنان القدير عزت زين شخصية الأب بأداء عميق وصادق، ليبرهن مجددًا على مكانته الراسخة في الدراما التلفزيونية المصرية.
بسبب فراغها العاطفي، تنجرف هند نحو حب يوسف، ذلك الشاب الوسيم الماهر في التلاعب بالكلمات، و المتقن لارتداء قناع الضحية يستغل يوسف باسم الحب، ضعفها و احتياجها العاطفي، وفرض عليها سيطرته تدريجيًا حتى يتمكن من الزواج بها، لكن سرعان ما تتحول القصة إلى صدمة قاسية، بعد ما يستغلها ماديا ثم يتركها هاربا بلا مبرر.
تستيقظ هند على الحقيقة المرة: مطلقة من دون ذنب أو خطأ اقترفته، هذه اللحظة تمثل نقطة التحول في حياتها، من فتاة ساذجة ضعيفة وقعت ضحية لرجل يفتقد أدنى درجات الإنسانية، إلى امرأة قوية ناضجة، تفكر وتخطط بحكمة، قادرة على المواجهة والانتقام، ساعية لاستعادة حقها وبناء ذاتها من جديد.
لا يتوقف المسلسل الي هذا الحد بل يرسم نهاية عادلة ليوسف، الذي يدفع ثمن استغلاله للقلوب وخداعه للنساء، و يخسر كل شيء امتلكه بالباطل.. المال، المكانة الاجتماعية، الوظيفة، وحتى سمعته التي بناها على السرقة والاحتيال لتكون نهايته جرس إنذار لكل رجل تُسوّل له نفسه ابتزاز امرأ أو استغلالها، فكل ما يأتي من الحرام لا يدوم ولا يحمل بركة، وكما قال ديننا الحنيف: {كما تدين تُدان}، فمن يظلم النساء سيرد الله ظلمه في بيته وأهله، لأن الله عادل ولا يرضى بالظلم أبدًا.
من أبرز الرسائل الفكرية التي يطرحها مسلسل “كل ما تراه ليس كما يبدو” حكايه هند أن الفتاة، حين تُسلم قلبها للحب دون وعي أو قد تصبح ضحية لشخصيه زائفة صنعها الطرف السام بـ ذكاء، تغلق عينيها أمام الوجه الحقيقي للحبيب المخادع وهنا يتجلى الدور المحوري والهام للأسرة، باعتبارها صمام الأمان الأول، ويأتي في المقدمة دور الأم إذ تملك بحكم الخبرة والفطرة حاسة استشعار نادرة، قادرة على كشف الخداع حتى قبل أن يترجم إلى واقع وقد جسدت الفنانة القديرة حنان سليمان هذا الدور بعمق كبير، واثبتت مجددا أنها أيقونة الأمومة في الدراما المصرية، قدمت أداء تمثيلي صادق بدون مجهود ، لان ملامحها وجهها تمتلك نصيب كبير من الصدق والبراءه والطيبه الفطرية تجعل المشاهد يشعر وكأنها أمه بالفعل.
علاقات الأخوة بين الحق والفساد… مرآة تعكس جوهر الأصل في حكاية “هند”
أشار المسلسل أيضًا بصوره مباشره إلي شكل العلاقات بين الأشقاء، و انعكاس التربية والقيم، وتأثير النشأة والبيئة على سلوكهم الأخلاقي، قدمت الفنانة ياسمين رحمي شخصية يسرا، شقيقة يوسف، ببراعة لافتة جعلت الجمهور يصدقها في كل تفصيلة، حضورها كان طاغيًا، وأدائها الصادق جسّد شخصية الأخت التي تنحاز إلى شقيقها يوسف لا بدافع الحب بقدر ما هو نتاج تشابه الطينة نفسها؛والأخلاق الملوّثة المصلحة أولًا، وهو ما ظهر حينما تخلّت عنه بمجرد سقوطه وطردته من بيتها، في مشهد عبّر بصدق عن أن الروابط الفاسدة لا تصمد أمام الأزمات.
وعلى الجانب الآخر، جاء دور مؤمن نور في شخصية شقيق هند مختلف تمامًا فهو الأخ الذي يحب اخته ويخاف عليها، لكنه عبر عن خوفه بطريقة خاطئة قوامها التشدد والصرامة، في حين أن البنت كانت تحتاج شقيقها يكون صديقا وسندا وأمانا، لا مصدر رعب وضغط، هذه المعادلة الخاطئة كانت واحدة من أسباب أزمة هند، ورسالة ضمنية للأخ داخل الأسرة مضمونها هو كن مصدر الأمان و الاحتواء والحب لأختك اكتسبها صديقه .. استمع اليها واغفر لها أخطائها الصغيرة كي لا تخسرها وتكون أنت السبب الأول في سقوطها في يد من لا يرحم.
أما الفنانة هاجر الشرنوبي فقد أبدعت في دور الأخت الكبرى الطيبة، التي تشبه ما يوجد في كل أسرة عربية: الأخت الحنونة التي تتحمل عبء الدعم والمساندة في لحظات الانكسار، أداؤها كان أكثر نضجا وعمق، مؤكدًا نضوجها وتطورها الفني المستمر.
في المقابل، جاء أداء الفنان أحمد شاهين في شخصية زوج يسرا كاشفا عن قدرته على التنويع والانتقال من الكوميديا إلى الدراما باحترافية شديدة، فرغم كون الشخصية سلبية، تكتفي بالاعتراض الهادئ دون اتخاذ موقف حاسم، إلا أن شاهين أقنع الجمهور تمامًا،بدوره وكان له حضور مميز،واثبت أنه قادر على تجسيد مختلف الأنماط بنفس الكفاءة والمصداقية.
ليلى أحمد زاهر في أروع أدوارها
قدمت ليلى أحمد زاهر شخصية هند بعمق لافت، متنقلة ببراعة بين الطيبة والرومانسية، ثم الانكسار و الخذلان، وصولاً إلى التحدي والانتقام فجاء أداؤها في مشهد المواجهة مع يوسف الذي أراه الماستر سين للعمل كاشفا عن قدرات تمثيلية عالية، جمعت بين الانفعال والغضب و التمرد، لتؤكد أنها تجاوزت مرحلة البدايات إلى مصاف الممثلات المحترفات، واضعة لنفسها مكانة مميزة في الدراما المصرية.
ولم يكن الأداء وحده هو ما ميز المشهد، بل أيضًا اختيار الألوان حيث ارتدت هند اللون الأبيض، فيما ظهر يوسف باللون الأسود، هذا التناقض لم يكن عشوائيا، بل جاء كإسقاط رمزي بليغ: الأبيض يعكس نقاء قلبها ورغبتها في بداية جديدة تحمل التفاؤل والأمل والسعادة، بينما الأسود جسد ظلام نفسه الحقيره المليئة بالخداع ، ونهايته المأساوية المقرونة بالخسارة والانكسار.
وهنا تتجلى براعة الإخراج في استخدام اللون كلغة بصرية موازية للأداء، حيث عكس الأبيض تحرر هند من ضعفها، فيما جسد الأسود سقوط يوسف في هاوية اختياراته، ليكتمل المشهد كـ ترجمة بصرية ونفسية للصراع بين الخير والشر.
حازم إيهاب… كسر النمطية وتجسيد عبقري لشخصية النرجسي
جسد حازم إيهاب، شخصية يوسف، النرجسية باحترافية عالية، شخصية مركبة تعكس نمطا واقعي لرجل يعيش على استغلال الحب كوسيلة للابتزاز العاطفي والمادي، قبل أن يتخلى عن ضحاياه بلا رحمة، هذا الأداء شكل تحديا كبيرًا للفنان حازم ايهاب الذي اشتهر بتقديم الأدوار الطيبة والراقية، ليؤكد من خلال حكايه “هند“، أنه قادر على تجسيد شخصيات مظلمة ومعقدة، مما يفتح أمامه ابواب جديدة لأدوار أكثر تنوعا وجرأة الفتره المقبله.
حكاية هند… عندما تولد القوة من رحم الألم
لم يكن المسلسل مجرد حكاية حزينة و مأساوية، بل طرح رؤية حول كيف يمكن أن يغير الألم ملامح الشخصية، النهاية التي تنتصر فيها هند على ماضيها وتجسد قوتها الجديدة تعكس حقيقة أن الجراح قد تكون أحيانا السبيل لاكتشاف نسخه جديده منا.
في النهاية كان ديننا الحنيف سباقا في هذه القضية و وصانا أن نخالف هوانا ونمشي عكسه وأكد لنا أن الانسياق وراء هوى النفس سبيل إلى الزلل، بينما الاستماع إلى صوت العقل هو الطريق نحو الاختيار الصحيح ، والحكمة المنشودة هنا أن كل فتاة تحسن الاختيار والإصغاء لصوت العقل و رأي أسرتها وتجعل من خبراتهم مرشدا أميناً لحياتها، تضمن مستقبل آمن ومستقر.
إشادة جماهيرية ونقدية واسعة
لاقى العمل صدى واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أثنى الجمهور على قوة القصة و واقعية الشخصيات، وبقدرة المخرج على إبراز التحولات النفسية بدقة، معتبرين أن أداء ليلى أحمد زاهر وحازم إيهاب شكل نقلة نوعية في مسيرتهم.
كما حقق المسلسل نسب مشاهدة مرتفعة وتفاعل كبير على المنصات الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعي مما وضعه في قائمة أبرز الأعمال الدرامية التي جمعت بين جودة العمل والرسالة الاجتماعية في آن واحد.
مسلسل “ما تراه ليس كما يبدو” من إنتاج شركة K Media للمنتج كريم أبو ذكري، وعدد حلقاته مكونة من 35 حلقة، تنقسم إلى سبع حكايات مختلفة كل حكاية عدد حلقاتها خمس حلقات، وصناع عمل مختلفين على مستوى التمثيل والتأليف والإخراج.

نبذة عن الكاتب
ريهام طارق صحافية مصرية متخصصة في الفن، تمتلك خبرة مهنية واسعة تمتد لسنوات في تغطية أخبار الوسط الفني العربي، عُرفت بقدرتها على تقديم محتوى صحفي مهني يجمع بين الدقة والموضوعية والتحليل العميق، وأجرت حوارات مع نخبة من أبرز نجوم الغناء والتمثيل في الوطن العربي.
تشغل حاليًا منصب مدير قسم الفن بجريدة “أسرار المشاهير”، وهي من المنصات الإعلامية الرائدة في تغطية الأخبار الفنية والثقافية في مصر ، بدأت مسيرتها الصحفية من المملكة العربية السعودية عبر جريدة “إبداع”، ثم واصلت مسيرتها في عدد من المؤسسات الإعلامية البارزة، من بينها جريدة “الثائر” في لبنان، وجريدة “النهار” في المغرب، ومجلة “النهار” في العراق، وإلى جانب عملها في الصحافة الفنية، كتبت ريهام طارق مقالات تحليلية متخصصة في السياسة الدولية والبورصة وسوق المال الأمريكي والأوروبي، بما يعكس تنوع خبراتها ورؤيتها الشاملة، كما تولت عضوية اللجنة الإعلامية بالمهرجان القومي للمسرح المصري.