الرصاصة لا تزال في جيبي .. بطولات سيناء من مذبحة الكونتيلا للحظة التحرير
الرصاصة لا تزال في جيبي .. ليس مجرد فيلم سينمائى عادى ، فهو شاهد على مرحلة هامة وتاريخية، وأيضا صوت يهمس في الأذن كل عام:
لا تنسَ الرصاصة ولا تنسَ سيناء.
كتبت / ماريان مكاريوس
في الذكرى الثالثة والأربعون لتحرير سيناء، تعود الذاكرة الوطنية إلى أعمال خالدة جسدت البطولات المصرية، ومن أبرزها فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي”، الذي لم يكن مجرد عمل درامي، بل وثيقة فنية وملحمة بصرية لواحدة من أعظم المعارك في التاريخ الحديث.
تتزامن هذه الأيام مع الذكرى السنوية لعيد تحرير سيناء، الأرض التي ظلت عنوانًا للصمود والنضال. وبينما تتجدد مشاعر الفخر، يتجدد معها الحديث عن الفيلم المصري الأشهر “الرصاصة لا تزال في جيبي”، الذي وثّق بكاميرته وجدان الأمة، من لحظة الانكسار بعد نكسة 1967 حتى لحظة النصر في أكتوبر 1973، وعبور الجنود لقناة السويس لتحرير الأرض المحتلة.
في عمق شمال سيناء، تقع قرية “الكونتلا” أو “الكونتيلا”، التي لم تكن مجرد نقطة جغرافية، بل شاهدًا حيًا على تاريخ دموي. خلال العدوان الثلاثي عام 1956، قاد أرييل شارون عملية اقتحام دموية للمنطقة، أسفرت عن مذبحة بحق الجنود المصريين.
كانت هذه الواقعة بمثابة الإنذار المبكر لصراع طويل وممتد، سرعان ما تحوّلت فيه سيناء إلى رمز وهدف.
تلك المذبحة استهل بها الكاتب إحسان عبد القدوس روايته التي كتبها في أعقاب النكسة، قبل أن يعيد صياغتها بعد انتصار أكتوبر ليضيف تفاصيل العبور والنصر، وهو ما تحوّل لاحقًا إلى سيناريو الفيلم الشهير.
ملحمة فنية بوثائق عسكرية
لم يكن فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” عملاً عابرًا. فقد وُلدت فكرته بعد ساعات قليلة من العبور، في جلسة جمعت النجم محمود ياسين والمنتج رمسيس نجيب، حيث اتفقا على ضرورة توثيق النصر بصيغة درامية تحفظه في وجدان المصريين.
وقدّمت القوات المسلحة المصرية دعمًا غير مسبوق للفيلم، من خلال تسليم صُنّاعه موادًا وثائقية وأسلحة حقيقية، بل شارك في التصوير جنود حقيقيون بدلًا من الكومبارس. كما تم تصوير مشاهد خط بارليف الفعلية، في واقعية لم تتكرر في أي عمل آخر.
بلغت تكلفة إنتاج الفيلم أكثر من نصف مليون جنيه – وهو رقم ضخم في السبعينيات – واستغرق تصويره نحو تسعة أشهر، ما أدى إلى إرهاق كبير للمنتج رمسيس نجيب، الذي كان يتنقل يوميًا بين القاهرة ومواقع التصوير في بورسعيد وبورتوفيق وتفهنا العزب ببنها، وانتهى الأمر بوفاته نتيجة أزمة صحية حادة.
الرمزية والتفاصيل: مصر في ثوب فاطمة
تميز الفيلم برمزية بصرية ودرامية رفيعة، خصوصًا في شخصية “فاطمة”، التي مثّلت مصر المجروحة بعد الهزيمة، والمتعافية بعد النصر.
فقد ظهرت في بداية الفيلم بثوب أخضر، رمزًا للأمل وسط الألم، ثم بثوب أبيض بعد التحرير، رمزًا للنقاء والعودة.
حتى “القناية” التي تسقط فيها فاطمة، صممت وحُفرت خصيصًا من قبل فريق إيطالي من أجل مشهد رمزي بالغ التأثير، يجسّد عبور مصر من مستنقع الهزيمة إلى ضفة النصر. ولاحقًا، استفاد أهالي البلدة من هذه القناية التي أصبحت مصدرًا للمياه.
الموسيقى: البطل الصامت في مشهد العبور
ربما لا يمكن تخيّل مشهد عبور القناة بدون موسيقى عمر خورشيد التي استخدم فيها الساكسفون لتقديم لحن يشبه المارش العسكري، مع إعادة توزيعه في مشاهد الحب والحلم، وصولاً إلى لحن “الصعود” أثناء لحظة النصر، وكأن الصوت يرافق الروح في طريقها من الانكسار إلى الانتصار.
رسالة الفيلم التي لا تزال حيّة
“الرصاصة لا تزال في جيبي”، لم يكن مجرد عنوان، بل فلسفة كاملة عبّر بها الجندي عن جاهزيته المستمرة، وفكرته أن العدو لا يموت حتى وإن هُزم اليوم، لذلك لا بد من البقاء متيقظًا ومسلحًا بالوعي قبل السلاح.
في أحد المشاهد الرمزية، يقول أحد الشخصيات: “لازم يطلع نفايات على السطح بعد الهزيمة”، في إشارة إلى صعود الانتهازيين وتجار الشعارات بعد كل سقوط. جملة لخصت زمنًا بأكمله، وفهمها الجمهور وقتها، ويفهمها جيدًا من عاشوا بعدهم.
في ذكرى تحرير سيناء، لا يمكن فصل الأحداث عن رموزها، ولا الحرب عن تجلياتها الثقافية والفنية.
و”الرصاصة لا تزال في جيبي” ليس مجرد فيلم، بل شاهد على مرحلة، وصوت يهمس في الأذن كل عام: لا تنسَ الرصاصة… ولا تنسَ سيناء.