الغُربة جوا البيت.. حينما يتحول الدفء إلى صمت
كتب: هاني سليم
لم تكن البيوت يومًا مجرد جدران وأثاث، لكنها كانت حضنًا آمنًا وملاذًا أخيرًا. كانت الأم كلمة طيبة، والأب سندًا صلبًا، والأبناء أنسًا وضحكة. لكن في زمنٍ قريب منّا، بدأنا نكتشف أن بيوتنا صارت أكثر برودة من شوارع مزدحمة. أصبحنا نعيش معًا، نتقابل كل يوم، لكننا غرباء لا نعرف عن بعض إلا القليل.
الغُربة لم تعد رحلة سفر، ولا اغترابًا عن الوطن، بل أصبحت اغترابًا داخل البيت الواحد.
لماذا أصبحنا غرباء تحت سقف واحد؟
1. التكنولوجيا… القاتل الصامت
الموبايل سرق منّا لغة العيون. شاشة صغيرة صارت أقوى من أجمل حوار، وأبردت دفء العلاقات. مصطلح “Phubbing” (تجاهل من أمامك بسبب الهاتف) لم يعد غريبًا؛ ملايين يعيشونه يوميًا. كم من زوجة حاولت أن تحكي لزوجها، لكنه كان غارقًا في هاتفه؟ كم من أب نادى ابنه، فوجد أذنه غارقة في سماعاته؟
2. ضغوط الحياة… شريك غير مرغوب فيه
الشغل، الفواتير، الزحام، الركض المستمر. كل ده جعلنا نعود إلى البيت مرهقين، خاليين من الطاقة للحوار أو الضحك أو حتى سؤال بسيط من القلب.
3. غياب الحوار العائلي
زمان كان الغداء أو العشاء مناسبة للحوار. اليوم تحوّلت المائدة إلى شاشة تلفزيون، وغرف النوم إلى سجون صغيرة خلف أبواب مغلقة. انقطع الخيط الذي كان يجمع القلوب.
4. استقلالية بلا توازن
من حق كل فرد أن يعيش مساحته الخاصة، لكن الإفراط في العزلة خلق جزرًا متباعدة داخل البيت. الابن في عالمه، البنت في عالمها، الأب والأم في عوالم موازية.
المزيد: رنا رئيس بين أضواء النجومية ومحنة المرض.. عملية جراحية تثير قلق جمهورها
آثار الغُربة أخطر مما نتصوّر
• أسرة بلا روابط: بيت يجمع الناس بالأجساد، ويفرّقهم بالقلوب.
• بحث عن بدائل: المراهق يفتش عن أذن تسمعه خارج البيت، الزوج يهرب لأصدقائه أو عمله، والزوجة تعيش وحدتها وسط الزحام.
• أمراض نفسية متصاعدة: الاكتئاب، القلق، العزلة الاجتماعية. الدراسات الحديثة تؤكد أن الانعزال الأسري يرفع معدلات الأمراض النفسية مثلما يرفع التدخين نسب الإصابة بالسرطان.
• جيل بلا جذور: أطفال ينشأون بلا ذكريات أسرية، بلا جلسات دفء، بلا حكايات قبل النوم.
ومضة من الواقع
• أب يحكي: “أنا مش فاكر آخر مرة اتعشيت مع أولادي من غير ما يكونوا ماسكين موبايلاتهم”.
• أم تقول: “ولادي عايشين معايا في نفس البيت، لكن لو غبت يوم محدش هيسأل فيا غير علشان الأكل”.
• شاب يصرخ: “أنا مش غريب عنهم، لكن أحس نفسي ضيف في بيتي!”.
هل في أمل؟
نعم، لكن محتاج قرار شجاع.
1. عودة الطقوس العائلية
وجبة جماعية يومية، بلا هواتف، بلا شاشات. فقط وجوه وأصوات وضحك.
2. الحوار الصادق
سؤال من القلب: “إيه اللي مضايقك النهارده؟” أقوى من ألف محاضرة.
3. إغلاق الأبواب المفتوحة على العالم
نخصص وقتًا بلا تكنولوجيا. نعود نتأمل وجوه بعض بدل صور الآخرين.
4. زرع الحنان
لمسة يد، حضن صادق، كلمة طيبة… تفاصيل صغيرة تُعيد الروح للبيت.
البيت الذي فقد روحه
الغُربة جوا البيت أخطر من الغُربة عن الوطن. لأنك تستطيع أن تعيش بعيدًا عن بلدك، لكنك لا تستطيع أن تحتمل أن تكون غريبًا وسط من تحب.
فلنسأل أنفسنا اليوم: هل بيوتنا فنادق للنوم فقط؟ أم ما زالت مأوى للروح؟
إذا اخترنا أن نستعيد الحوار، الدفء، والحنان، سنكتشف أن الغُربة مجرد سحابة عابرة.
أما إذا استسلمنا، فسنعيش عمرنا غرباء، حتى ونحن معًا.