القاهرة(١٧٩٨).. بقلم/ مصطفى حسن محمد سليم.
“هناك ثورة في أعماقي، توشك على الانفجار، وأحداث كثيرة تتسارع بداخلي، ربما تعبر عن كل ما يجول في خاطري مما يحدث الآن، وأنا أراقب بهموم العاشق لتراب الوطن، ما يحدث على أرضك يا قاهرة”
نامت عيون القاهرة تتنظر بزوغ فجر يوم جديد على خوف من تكرار أحداث الأمس مرة أخرى وأغلقت الأبواب في كل دار على جريح أو قتيل في حين تصاعدت الأدخنة من خلال مآذن الأزهر المتناثرة وبدأت القلوب وجلة مع أرسال الشمس أول أشعتها تداعب أزقة المحروسة وهي تنتظر أمل جديد في النصر في تلك المعركة الغير متكافئة…..
القاهرة 21 اكتوبر 1798 جامع الأزهر تجمع عدد كبير من المجاورين داخل أروقة الأزهر، وهم يحملون كل ما وصلت إليه أيديهم من أسلحة وعصي مختلفة، والحماسة تسيطر عليهم تكاد أن تقفز قلوبهم من خلال أفئدتهم، مع تعالي أصواتهم بالدعاء، وقراءة القرآن، في حين صعد البعض منهم مآذن الأزهر، ليستطلع أمر الفرنسيس كما إعتاد أن يطلق عليهم سكان القاهرة هذا اللقب، في حين وقف أحد شيوخ جامع الأزهر المشهود له بالصلاح يتوسط رواق المسجد محمساً طلاب الأزهر، قائلا لهم في صوت جهوري يصل إلى قلوبهم قبل أفئدتهم، نحن اليوم على موعد مع الكفار الذين استباحوا أرض المسجد بخيولهم، هم يريدون كسر شوكتنا، ونحن نريد دحرهم إلى الأبد من ديارنا، لا يجب أن نستسلم لهم مهما حدث، ربما فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، نحن أصحاب قضية وهم أصحاب الشيطان، لقد عاثوا في ديارنا الفساد، نهبوا، وقتلوا، وسلبوا كل ما وصلت إليه أيديهم، لقد أحرقوا مسجد الأزهر اليوم، ويجب أن نرد عليهم بكل قوة، وأن يكون هدفنا النصر، أو الشهادة، أو…
قاطعه تقدم أحد الطلاب نحوه وهو يقول له في اضطراب: لقد وصلت الآن حامية فرنسية عند الباب الشرقي لمسجد الأزهر.
ولم يكمل الرجل جملته إلا وقد اندفع ذلك الحشد من الطلاب نحو المكان الذي حدده الرجل، وتجمع طلاب الأزهر خلف المتاريس، والأخشاب، التي وضعوها لحمايتهم من هجوم الفرنسين كان بعضهم يحمل بعض الأسلحة التي اغتصبوها من الفرنسيين في معركة سابقة، وأغلبهم لا يفقه استخدامها جيداً، في حين بدأ الجانب الفرنسي في أطلاق النار، وسقط عدد كبير من الطلاب، وبدأ بعض الطلاب الذين يحملون أسلحة في تبادل أطلاق النار معهم، واشتعلت أجواء المعركة دون سابق انذار.
سقط الآلاف من القتلة، وأمتلئت الأزقة والحارات بجثث المصريين، وقد نصب نابليون بونابرت المدافع على مداخل الحارات، وفوق هضبة المقطم، واتجهت حامية فرنسية من “الأزبكية” مقر القيادة العامة، لتطويق حواري القاهرة، بعد أن هدمت أبواب الحارات التي تحمي القاهرة من صد الهجمات واللصوص، وشاعت الفوضى في كل اتجاه، ولم يستطع أحد أمتصاص ثورة الثوار، التي أشتعلت في كل أرجاء المحروسة، حتي النساء شاركت أيضا في أشعال الثورة، عندما قاموا بإلقاء الحجارة والمياه المغلية على الجنود الفرنسيين، الذين يعيثون فساداً، من نهب، وقتل، وتدمير في أرجاء القاهرة؛ محاولةً منهم لبث الرعب في قلوب المصريين، في حين تقدم الجنرال ديبوي من منزله في بركة الفيل، إلى الموسكي، ومنه إلى شارع الغورية، وأراد أن يذهب إلى بيت القاضي في بين القصرين، ولكنه فوجئ بالجموع الثائرة تسد عليه الطريق الذي لم يتمالكوا أنفسهم عندما شاهدوه، حين بدأوا القاء الحجارة عليه، وعندما غادر بين القصرين حاول استخدام العنف لمواجهة الحشود الغاضبة، ولكن لضيق الطريق فشل الفرسان في تفريق الحشود، وأطبق الناس من كل جانب عليهم، واستخدموا كل ما وصلت إليه أيديهم من أسلحة مختلفة، من عصي، وحجارة، وسيوف، ورماح، وأسهم، وقد أصيب ديبوي في يسار صدره، وتفجرت الدماء منه، ومات متأثراً بجراحه، وأشعل موت ديبوي غضب نابليون بعد أن زاد عدد الثوار، وقد استولوا على بوابات القاهرة، مثل باب الفتوح، وباب النصر، وباب زويلة، وباب الشعرية، وأقاموا المتاريس خلفها، ونصبوا أسلحتهم، وجاءت جموع كثيرة من القرى، وقد تحصنوا في قلب جامع الأزهر أكثر من 15 ألف من الثوار، فأعلن نابليون التعبئة لمواجهة غضب الثوار، وكبح جماح الثورة بأي ثمن….
القاهرة 22 أكتوبر 1798، وقف نابليون يتطلع من نافذة غرفته إلى المدفعية، التي تم نصبها على أسوار القلعة المطلة على القاهرة، ثم تنهد في عمق وهو يلقي الرسالة التي في يده على الأرض في غضب، غير مكترث بوجود أعضاء الديوان، الذين لجأوا إليه للتوقف عن قصف القاهرة بالمدافع، والتوصل معه لحل لوقف نزيف الدم، تطلع نابليون إلى الرسالة الملقاة على الأرض في عصبية، وهو يتذكر محواها، لقد كانت الرسالة موجهة إليه من الجنرال بونك، يطالبه فيها بالتدخل السريع لوقف الحشود الغاضبة، التي يتم تجميعها في مسجد الأزهر، حيث أفادت بذلك تقارير الدوريات، وحينما مر على خاطر نابليون فحوى الرسالة ضرب بقبضته على سطح المكتب في عنف، وهو يتطلع إلى أعضاء الديوان في عدم مبالاة، قائلا لهم لقد منحت لكم فرصة أخيرة الأمس، في التواصل مع الثوار وكبح جماحهم، دون التدخل مني لإراقة المزيد من الدماء، وقف أحد أعضاء الديوان وهو يقول له لقد فعلنا بالفعل ذلك يا جنيرال، ولقد رفضوا الانصياع لنا، وعدم السماح لنا بالدخول إلى جامع الأزهر، ورفضوا التفاوض معنا، فقال لهم نابليون في حزم حسناً، أنا لا أملك أي حلول أخرى الآن، لقد فقدت الكثير من جنودي، والعديد من الذخيرة، والأسلحة، لقد تجنبت الوصول للعنف معهم إلى أقصى درجة، ولكن لا فائدة من ذلك، أنتم أيها المصريين تحبون القتل، والدماء، وعليكم أن تدفعوا الثمن، أنكم تحاربون جيش دولة نظامي، بحرب تشبه حرب العصابات، حاول أحد رجال الديوان التحدث معه، ولكن أوقفته اشاره غاضبة من يد نابليون، الذي وقف في عصبية وهو يتجه نحو باب غرفتهً وهو يشير إلى الجندي الواقف على الباب، قائلا له بلغ الجنرال بون هذه الرسالة فوراً، عليه أن يهاجم مواقع الثوار، وأن يضرب الأزهر بالمدافع من أصلح مكان، ليكون أشد أثرا له، بلغوا الجنرال دومارتان أن يفعل ذلك بنفسه، وأن يستولي على مدخل الأزهر، والمنازل الموصلة إليه، عليكم أن تقتحموه بجنودكم تحت حماية المدافع، وأن تقتلوا كل ماتجدونه في الشوارع من المسلحين، وتحرقوا كل المنازل التي تلقي بالحجارة عليكم، وأن تقتلوا كل ما تجدونه في المسجد، وليترك بداخله حرساً من الجنود الأقوياء….
في عصر ذلك اليوم، انهالت قذائف المدفعية على مسجد الأزهر، وعلى الغربة، والفحامين، وأقتحم الجنود الشوارع المحيطة بجامع الأزهر لقطع خط الرجوع على الثوار، وأصبح الثوار محاصرين بين قذائف المدفعية، وحصار الجنود، وأوشك الجامع الأزهر أن يتداعى من شدة الضرب، وصارت الشوارع المؤدية إليه تعج بالخراب، والقتلى، ومات من السكان الآمنين الآلاف، لتتوقف ثورة شعب في مهدها، أمام قوة جيش غاشم، الذي مارس أشد أنواع التنكيل، والقتل بالمدنيين الأبرياء، بعد اقتحامه جامع الأزهر