“ولاد الشمس” تفوق في الماراثون الرمضاني بفنه الحقيقي بدون لجان أو التطبيل
ولاد الشمس" تجربة درامية راقية تتناول قضية حساسة دون السقوط في فخ الابتذال والمبالغة.
نجح مسلسل “ولاد الشمس” في أن يلفت الأنظار بقوة خلال الموسم الدرامي الرمضاني الماضي، وسط زخم من الأعمال التلفزيونية المتنوعة، حيث تميز بطرحه الجريء لقضية إنسانية بالغة الحساسية، مقدّمًا معالجة درامية لافتة نالت استحسان الجمهور والنقاد على حد سواء.
كتبت: ريهام طارق
“ولاد الشمس” يفضح ما يحدث داخل جدران دور الأيتام
جاء مسلسل ولاد الشمس بقصة كُتبت باحترافية ووعي عميق بقلم الكاتب الكبير مهاب طارق وأخرجه ببراعة مدهشة المخرج شادي عبد السلام ليطرح واحدة من أكثر القضايا الإنسانية حساسية وتعقيدًا وهي واقع دور رعاية الأيتام في مصر من زاوية نادرة التناول في الدراما العربية حيث لم يقع العمل في فخ التعميم بل قدّم نموذجًا واقعيًا مؤلمًا لوجه خفي نتجاهل رؤيته عمدًا وجه تلك الدور التي تتحول أحيانًا من بيئة رعاية إلى بيئة قمع تُنتزع فيها الطفولة من الأرواح الغضة وتُزرع مكانها بذور الغضب والانكسار وأكثر ما أثار إعجابي ولفت نظري في العمل هو المشهد الختامي الذي قدّم نماذج حقيقية من خريجي دور الأيتام شباب وشابات رووا قصصهم بكل شجاعة وصدق كاشفين عن حجم الانتهاكات التي تعرضوا لها من قسوة وسوء معاملة وفي الوقت نفسه سلّطوا الضوء على نماذج إنسانية مثالية استطاعت أن تعوّض هذا اليتيم عن غياب الأب والأم وطرحت تساؤلًا مهمًا حول كيفية تعامل المجتمع مع هؤلاء حين يخرجون إليه شبابًا يفتشون عن الأمان والقبول والكرامة.
ولاد الشمس” صرخة ألم تؤكد أن ليس كل يتيم “مجرم”.. وليس كل لقيط “قليل تربية”
أضاء المسلسل بجوانب واقعية على فكرة عميقة مفادها أن نشأة الطفل في دار أيتام لا تعني بالضرورة أنه يحمل في داخله ملامح الغضب أو الكراهية أو العجز عن الحب بل على العكس أظهر العمل أن من حُرم من الحنان قد يكون الأكثر قدرة على منحه وكأن الحزن صقله ليصبح مصدرًا للحب والدعم لكل من حوله وتجلى تميز النص والإخراج في الابتعاد عن التنميط الأخلاقي أو تصنيف الشخصيات في ثنائية الخير والشر بل قُدّمت الشخصيات كمرآة لتجاربها وظروفها الإنسانية بعيدًا عن أي أحكام جاهزة.
ولاد الشمس” يكسر صمت المجتمع ويعيد لليتيم كرامته في وثيقة درامية مذهلة:
تناول مسلسل “ولاد الشمس” قضية اجتماعية إنسانية عميقة، حيث يسلط الضوء على نشأة الأطفال في بيئات تفتقر أحيانًا إلى التوجيه والتربية السليمة، ورغم هذا الواقع القاسي، جاء الحوار في العمل نقيًا وراقيًا، خاليًا من الألفاظ الجارحة أو المشاهد المخلّة، ما يعكس الوعي الكبير للكاتب المتميز مهاب طارق، الذي أثبت أن الفن الحقيقي لا يحتاج إلى لغة سوقية ليكون صادقا أو واقعيا.
أعاد المسلسل أيضًا رسم صورة “البطل الشعبي” بطريقة جديدة، حيث لم يربط بين الخلفية الاجتماعية والسلوك المنحرف بل قدم شخصيات نشأت في دور الرعاية بأسلوب إنساني راقٍ، يؤمن بأن قيمة الإنسان تُستمد من ذاته، لا من خلفيته الاجتماعية.
“ولاد الشمس” ليس مجرد عمل درامي تقليدي بل هو وثيقة إنسانية جريئة، تطرح قضية إهمال اليتامى في مجتمعاتنا من منظور جديد من خلاله، يتم التركيز على نظرتنا القاصرة لليتيم وما يترتب عليها من تهميش اجتماعي، متجاوزًا فكرة المأساة الفردية ليطرحها كاختبار أخلاقي للمجتمع، ودعوه إلى إعادة صياغة وعينا الجماعي تجاه اليتامى، ليس كحالات تستدعي الشفقة بل كأفراد لهم الحق في حياة كريمة بعيدًا عن التمييز.
شادي عبد السلام يُبدع في رسم الصورة بعدسته وخالد الجابري حوّل الألم إلى نغم
جاء توقيع المخرج شادي عبد السلام على العمل بأنامل فنان تشكيلي يرسم بعناية لوحة تنبض بالحياة، حيث انعكست رؤيته البصرية المتكاملة في كل مشهد بأسلوب يأسر العين ويشد انتباه المشاهد دون لحظة ملل وقد انسجمت عناصر الموسيقى التصويرية والإضاءة والديكور والأزياء بتناغم تام مع النص لتقدم عملاً احترافيًا متكامل التفاصيل وظّف شادي عبد السلام لغة بصرية بارعة تتأرجح بين القسوة والشاعرية لتعكس ببراعة الانكسارات النفسية العميقة التي يعيشها الأطفال والشباب فكانت اللقطات الطويلة ولحظات الصمت والإضاءة الخافتة أدوات درامية دقيقة تكشف هشاشة عوالم الأبطال الداخلية.

“بيلبورد” تشيد بخالد الجابري وتصفه بالموهبة الاستثنائية في “ولاد الشمس”
أما الموسيقى التصويرية التي أبدع في تأليفها الموسيقار خالد الجابري فقد جاءت كنغمة داخلية نابضة بالألم المكبوت لا كوسيلة مباشرة لاستدرار الحزن مانحة المشاهد مساحة للتماهي مع وجع الشخصيات دون حاجة إلى تصريح وقد حظيت موسيقاه بإشادة من “بيلبورد” التي وصفته بالموهبة الاستثنائية في عمله بمسلسل ولاد الشمس.
محمود حميدة يتألق وأحمد مالك مفاجأة وطه الدسوقي استثنائي في أداء جماعي يدرس:
لا يمكن إغفال الأداء التمثيلي الاحترافي و الاستثنائي الذي اعاد تعريف معني فن الأداء التمثيلي الذي قدمه جميع أبطال العمل دون استثناء من البطل الأول وحتى أصغر الأدوار فقد شكل هذا الأداء أحد الأعمدة الرئيسية التي استند إليها نجاح العمل بكل جدارة تألق النجم الكبير محمود حميدة بحضور طاغٍ وأداء متقن اتسم بالهدوء والرقي بينما قدّم أحمد مالك مفاجأة فنية تمثلت في نضجه اللافت وقدرته على الإمساك بتفاصيل الشخصية ببراعة أما طه الدسوقي فنجح في كسر الصورة النمطية للممثل الكوميدي مقدما شخصية مركبة بعمق واحترافية أظهرت موهبة تمثيلية حقيقية ومبشّرة كما برزت باقي الشخصيات بأداء منضبط ودقيق حول التمثيل إلى مقطوعة موسيقية متناغمة عزف فيها كل ممثل نغمة صادقة خلقت في مجموعها سيمفونية درامية مبهرة تلامس الوجدان وتبعث الدهشة.
في النهاية لا يسعنا إلا أن نشيد، بـ صناع هذا العمل الذين قدموا دراما تلفزيونية راقية وهادفة، تكشف بعمق عن قسوة تجربة الأيتام وتعيد رسم القيم الإنسانية الأصيلة، كما يعد من أبرز الأعمال الرائدة في الإنتاج الدرامي الرمضاني لهذا العام، متفوقا بجدارة على غيره دون الحاجة إلى “اللجان الإلكترونية”.
انتظروني في مقالي المقبل، نفتح ملف عمل درامي آخر نجح في الطرح والرسالة، ليحافظ على نفس المستوى من الصدق و الاحترافية..بقلم ريهام طارق