الفنان التشكيلي والناقد دكتور سيد هويدي يكتب عن رحلة الذات…
عشت علي مدار سنوات طويلة في تعايش غير هانئ مع كوني أثنان، بين أنا الأول الذي أخذ الرسم بشغاف قلبه، وأنا الثاني الذي ارتبط عمله بالكتابة والبحث في الفن التشكيلي. ظل الأثنان في صراع محتدم بين مناورات عنيفة و حوارات صاخبة، و لا أذكر لهما هدنة صريحة لا .. يدفنان فأس الحرب أبدا إلا للمناورة .. فلم أهدأ ولم أسلو ولم أسكن، تقاطعت مساراتي و تباينت والتقت وتفارقت، بين مأزق التردد الذي أفرزه معدن الكتابة عن الفن، و بين هوس البحث عن التفرد كلما أقتربت من ممارسة الرسم: كيف تكون فنانا و ناقدا في نفس الوقت خصما و حكما في هذا الاقتراف الذي ندعوه بأحلى أساميه و أعذبها ؟ الفن؟ نعم، كلنا اقترفنا أشياء كثيرة عذبة ولكن هل سعدنا ؟ هل تحققنا ؟
كان حلم التحقق هو جبهة المعركة و دارت رحى المعركة للكلمة على حساب اللون والظل و الأشكال حتى كتبت كتاب (هويتنا البصرية) و (ثورة الشكل) و فهمت ان الكلمة هي الوعي ولكن الموضوع هو اللاوعي اي الفن كآلة للسفر الى أدغال ذواتنا .. ان كان موضوع الأزدواجية التحقق سواء عبر اللون أو الكلمة فأنا اليوم اخترت، فلن اسجن بعد اليوم أفقي في أقدار الحالات المشابهة، التي نُكّل فيها بالفنان الكاتب بوصفه «نصف فنان أو نصف كاتب»، ندمت عن سجني ذلك و أدعي التحدي و أصر عليه دون أن أعنيه.
بحثت في طريقي عودتي على آلة الفرص الأخرى، آلة للسفر في الزمان، و آلة للبحث عن القدر الاجمل، و اخترعت آلة أركبها لرحلتي، رحلة الاستدراك و التصحيح جهزت كل هذا العالم للسفر في الفرصة الجديدة ، للفرصة الجميلة ، كان لا بد ان انقذ كل هذا العالم من هذا الزمان المحتوم.
توقفت سنينا عن الرسم و كان ذلك أسوأ ما يحدث لعاشق، اذ رمَيتُني جسدا و روحا في تيار الكلمة التي تحلم بالجمال وتشهد أن لا شيء يستحق العيش هنا الا الجمال. أصدرت محاولاتي في كتبي واجتهدت في مقالاتي في أغلب الصحف المصرية والعربية بهوس سؤال: كيف نمكّن الجمال؟
واليوم أين طاقتي بل طاقتنا التي توهمت تغيير العالم ونحن في البدايات؟ ألا تتلخص اليوم في دفاعنا عن البقاء ؟ ولكن قانون العمر يقول عكس ذلك، فقانون الزمان هو الموت! ولكن اليوم و قد تخلت الفيزياء عن مفهوم الزمان لصالح مفهوم الزمكان أي المكان في زمن ما ، ألسنا معنيين بفيزياء الكون حتى لا نواصل تمجيد الزمان وقد ألغته الفيزياء و ما هو الا طريد المعادلة ؟ نحن لا نحتاج نظرية النسبية حتى نرى أنه «يذهب الزمان و يبقي المكان» ، فلماذا اذا لا نتحدى الزمان بالمكان؟ و المكان هو مصر، التاريخ و كل قادم الايام مصر …و هل حدث كل ما ادعاه المؤرخون فعلا والذي انجر عنه كل ما حدث اليوم ؟ لماذا لا نتحدى التأريخ بالتاريخ في رحلة البحث عن الفرصة الاخرى؟ مصر تستحق فرصة أخرى، كلنا نستحق فرصة أخرى، سنزكي المكان وندفع عنه الارواح الشريرة و نرفع هاماتنا للمستقبل … نبعث من جديد في عالم آخر في فضاء آخر ليس في قطع مع الجدود الذين كانو يحفظون الخلايا للفرص الاخرى .. لحياة أجمل .
فطفقت آلتي تبكسل المكان و تشد الرحال العضوي وتحوله الى طاقة و نور ليسافر الى قدر جديد و يعيش نبوآته أو ليحن و يحيي حنينه أو ليتحقق من التاريخ ثم أنقلبت آلة للسفر تقعر الفضاء و تمططه حتى يلين و ينحني طريقا جديدا للفرص الجديدة
اليوم أنا ثالث الاثنين سافرت من جبهة لجبهة و عدت من كل ذلك، أقف بكل سلم على نفس المستوى من ذلك التوق و اللهفة للكتابة و الرسم معا، بعد أن شهدت كل تلك المعارك و أبليت أفقي سنينا في سجن التحقق و عدت كما يعود المسافر متخففا بحكمة السفر، جائعا الى الأساسي .عدت من منفايا و قايضت احتياج التحقق باحتياج الاشباع و اخماد جوعي الى الأساسي؛ الى اللون و الظل، الى الحلم بتلك الأرض الشقراء التي عجنت بالتبر و بالدهشة، الفن سيداتي، سادتي هو آلتي للسفر في الزمكان. قصة رحلتي اليوم بين أيديكم اني قادم من بعيد، و أهديكم آلتي و عصارة الرحلة .
سيد هويدي

رئيس القسم الادبى ونائب رئيس تحرير جريدة المشاهير واليوم الدولى
المقال السابق
المقال التالى
قد يعجبك ايضآ