الهجرة أنواعها وحكمها بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
الهجرة أنواعها وحكمها
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين أفصح عنهما سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله بقوله:
“الهجرة هجرتان :
هجرة الأوطان، وهجرة الإثم والعدوان.
وأفضلهما هجرة الإثم والعدوان؛ لما فيها من إرضاء الرحمن، وإرغام النفس والشيطان”.
ولعلَّ العزَّ رحمه الله قصد أن هذه الهجرة متجددة، بخلاف ترك الوطن فإنه يكون مرة غالباً؛ والمتجدد أكثر أجراً، وإلا فإن الأولى لا يقارن بها شيء، والعلم عند الله تعالى.
?فالهجرة هجرتان: معنوية، وحسية.
?المعنوية :
هي الهجرة من الكفر إلى الإسلام، ومن البدعة إلى السنة، ومن الشرك إلى توحيد الله، ومن المعصية إلى الطاعة.
ثبت في سنن أبي داود أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أي الهجرة أفضل؟
فقال: «من هجر ما حرم الله».
رواه أبو داود.
وفي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ».
?وأما الهجرة الحسية فهي أربعة أنوع:
الأول :
الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.
وهذه خصَّ الله تعالى بها ساداتِ الأولياء من المهاجرين، رضي الله عنهم وأرضاهم.
الهجرة أنواعها وحكمها
وتأمل هذا الحديث لتعرف عظيم قدرهم..
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟
فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ. فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ. فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي؛ بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟
قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ.
فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
«اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» .
رواه مسلم.
الثاني:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام .
إشكال وجوابه : لو قيل:
كيف نوفِّق بين الحديثين:
حديث الشيخين:
«لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
الهجرة أنواعها وحكمها
وحديث:
«لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
الذي رواه أحمد وأبو داود.
فالجواب :
أنَّ الهجرة المنقطعة هي الهجرة من مكة إلى المدينة، أو الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لنصرته والجهاد معه .
وأما الهجرة الباقية فهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
الثالث :
هجرة أرض السوء إلى أرض الصلاح.
ودليلها قصة قاتل المائة نفس .
قال النووي رحمه الله:
“قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب ، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين والورعين ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته”.
وقال الحافظ :
” ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها والاشتغال بغيرها .
الرابع :
الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، وَتَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ».
?حكم الهجرة :
أما الهجرة المعنوية فواجبة على كل أحد.
وأما الهجرة الحسية فالناس فيها أربعة أقسام:
القسم الأول :
من تجب عليهم ويأثمون بتركها.
وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إقامة واجبات دينه في ديار الكفر.
قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا .
(النساء: 97).
ففي سنن أبي داود والترمذي ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، لا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» .
القسم الثاني :
من تجب عليهم، لكنهم معذورون في عدم القيام بها.
قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا .
(النساء: 97-99).
القسم الثالث :
من يتمكن من إظهار دينه ولا يضيق عليهم، وهذا تستحب في حقه، ولا تجب عليه.
القسم الرابع :
من كان بقاؤهم في دار الكفر أولى من هجرتهم.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية –بعد ذكرها للأقسام السابقة :
“وزاد الشّافعيّة قسماً رابعاً :
وهو من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب، ويقدر على الاعتزال في مكان خاص، والامتناع من الكفّار، فهذا تحرم عليه الهجرة ، لأنّ مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه، فيعود بهجرته إلى حوزة الكفّار، وهو أمر لا يجوز ، لأنّ كلّ محلّ قدر أهله على الامتناع من الكفّار صار دار إسلام”.
ومن هؤلاء السفراء، فإن مكثهم فيها متعين؛ للقيام على شؤون رعايا بلادهم من المسلمين.
ومنهم العيون الذي يبعثون بالأخبار إلى الدولة المسلمة.
ومنهم الدعاة، والقائمين على أمر الجاليات المسلمة.
وطالب علمٍ لا يتأتى له أن يتعلمه في بلاد المسلمين .
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .