الهولوكوست.. بقلم/ مصطفى حسن محمد سليم.

رغم تحذيرات الأرصاد الجوية الشديدة، عن سوء الأحوال الجوية، وعن احتمال كبير لوجود عاصفة ثلجية، قد تحدث في أي وقت من الأوقات، وبعد أن ظهر عمدة نيويورك في التلفاز، وقد قام بتحذير المقيمين في المدينة من الذهاب إلى مسافات بعيدة، ولكني مع كل ذلك لم أستطيع المكوث في المنزل، رغم كل هذه التحذيرات السابقة، ولكن للضرورة أحكام كما يقولون، لقد اتصل بي مدير البنك منذ ساعة، لقد وافقوا أخيراً على منحي القرض، وهو في انتظاري لتنفيذ الإجراءات اللازمة لذلك، وبعد أن أنهيت المكالمة معه، شعرت بالندم الشديد وأنا أشاهد سقوط قطع صغيرة من الثلج، تغمر زجاج نافذة غرفتي بلونها الأبيض، ارتديت ملابسي الثقيلة للخروج، وأخذت مفاتيح السيارة، وعندما هبطت من البناية كان الثلج يغمر السيارة، وتزداد كثافته من حولي، وتحركت بالسيارة في صعوبة، وأثناء ذلك حاولت الاتصال بمدير البنك للأعتذار، ولكن هاتفه مغلق للأسف. وقفت أتامل سقوط الثلج مرة أخرى وقد توقف عقلي عن التفكير، لاتوجد حركة في شوارع مدينة نيويورك الآن، وقد غمر الثلج معظم البنايات بلونه الأبيض، ولم أجد مفر من التخلي عن الموعد، ولم تمر دقائق على تقدمي بالسيارة، إلا وبدأت بوادر العاصفة الثلجية في الحدوث، وتوقفت بسيارتي أمام إحدى الحانات، وشد انتباهي دخول عدد من الأفراد إليها، ولم أجد مفر من المكوث في ذلك المكان حتى تنتهي هذه العاصفة الثلجية، وأغلقت باب السيارة جيداً، وتقدمت بصعوبة شديدة، في قلب سوء الأحوال الجوية التي تحاوطني من كل جانب…
وعندما دلفت من الباب كانت الحانة شبه مظلمة، وقد وجدت مجموعة من رواد الحانة، وقد تناثروا بداخلها في عدم نظام، تقدمت بخطوات بطيئة نحو أحد الأركان المظلمة، كانت هناك طاولة فارغة، جلست عليها وأنا اتحاشي النظر في وجه أحد خشية من الإصطدام معه، فهذه أول مرة أرتاد فيها هذه الأماكن الغريبة بالنسبة لي، إقترب مني النادل وهو يسألني هل تطلب شيئاً؟، قلت له نعم أي عصير طازج، نظر الرجل إلي وجهي في بلاهة، ثم تركني وهو يهز رأسه في أسف، في حين تقدم مني أحد رواد الحانة، رجل طويل يرتدي ملابس قديمة جداً، وفي يده كأس نصف فارغ، وجلس علي نفس الطاولة دون أن يأخذ مني الإذن لذلك، كان يبدو عليه السكر الشديد، وتحدث معي قائلا لي هل تظن أني على قيد الحياة، أنا روحي مازالت قابعة هناك معها، هكذا بدأ الرجل حديثه وهو يغمغم بتلك الكلمات غير المفهومة، في حين التزمت أنا الصمت، وأنا أتامل وجه الرجل بهدوء، وقد عاد يسترسل في حديثه بدون توقف، لقد كان الأمر بشعاً أكثر مما تتصور، أنهم يضعوننا في أفران ونحن أحياء، يبيدون كل ماهو يهودي بدون رحمة، “ليا” ثم ابتسم الرجل مرة واحدة بعد أن كان الحزن يحتل جميع قسمات وجهه، ربما حين نطق هذا الأسم “ليا الجميلة”.. لقد قتلوها، لقد كنت سعيد الحظ أني لم أذهب معهم في تلك المذبحة، ثم توقف عن الحديث وهو يتجرع رشفات قليلة من الكأس، الذي أمامه وقد صمت لعدة لحظات أخرى، ثم عاد مرة أخرى يستطرد في الحديث، لقد كانت هناك رغبة بداخلي لأن يتحدث الرجل، وكانت بي رغبة أيضا لسماع شهادة ذلك الرجل الوهمية، ربما للتسلية، أو لتضييع الوقت الممل الذي أمر به الآن، ولمح الرجل في عيني علامة على عدم تصديق حديثه، ولوح بيديه في عنف، وهو يحاول اصباغ مزيد من الصدق على حديثه، كان اليوم شديد البرودة عندما كبلونا بالآلاف ثم قادونا إلى المعسكر النازي، كانت ليا قد سبقتني إلى ذلك المعسكر بعدة ساعات، ثم نهض فجأة وهو يقول لي في عصبية يبدو أنك لاتصدقني أيها العربي، أنتم هكذا أيها العرب لاتصدقون، أي يهودي، ما الفائدة من الجلوس معك، والتحدث في موضوع لاتأخذه بمنطق الجدية، ولم أقوم بأي رد فعل نحوه، وأنا أستمع إليه فالأمر كله لايعنيني في أي شيء، وقد كان صمتي هذا دعوة للرجل على أن يستكمل حواره مرة أخرى، وموافقة مني على سماع بقية حديثه، كان عددنا كبير جداً، الكل مصاب بالخوف والهلع، لا أعلم لماذا نجوت أنا منهم لكي أتعذب بقية حياتي دون وجود ليا، ثم أفرغ الكأس الذي بيديه على الأرض، ووقف يطئ عليه بقدميه في نشوة المنتصر، قائلا لي هل تعرف لقد شاهدت ليا مرة أخرى في الحلم هذه الليلة، وهي تتجه إلى المحرقة في شجاعة نادرة، وأستيقظت وأنا أتذكر دموعها تسيل مثل ذلك الكأس على الأرض، ثم جلس على طاولة أخرى وهو يدير ظهره نحو البار، وهو يغني بالألمانية بكلمات غير مفهومة لي، حيث أني لا أجيد الألمانية، ولكني أميز كلماتها جيداً، ثم وقف وقد جذب بيديه في عنف الفتاة التي مرت بجانبه ليدفعها لكي ترقص معه علي النغمات التي يصدرها من فمه، وهو يقول لها هيا أرقصي معي، كوني لحظة واحدة مثل ليا، أنت تشبينها كثيراً، وقفت وأنا أندفع نحو الباب لكي أنصرف تاركاً له المكان كله، وقد أصابه هذا بالضيق الشديد، وأندفع نحوي ليشد ياقة معطفي في عنف، ونظر في عيني بغضب شديد قائلا لي بكراهية شديدة، يبدو أنك من النازيين الجدد، ولكن لتعلم أننا سنعود أقوى من أي عهد مضى، أنزلت يديه في بطء، وأنا أنظر له بعدم اكتراث، وقد ابتعدت عنه في خطوات سريعة نحو باب الخروج، وقبل أن أغادر المكان، إلتفت إليه قائلا له صدقني يارجل.. أنت تستحق الشفقة أكثر من العطف، وأنا اغمغم بصوت خافت حتى لايسمعني هذا الرجل ثم القيت عليه نظرة ازدراء سريعة، كان يجب أن تذهب أنت أيضا مع ليا إلى الجحيم، وتلقى نفس مصيرها.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.