انتخابات مجلس الشورى العُماني للفترة التاسعة 2019

مسقط، تقرير كتبه: أحمد تركي ….. الإعلامي والخبير في الشأن العُماني

انطلق في سلطنة عُمان اليوم الأحد 27 أكتوبر، العرس الديمقراطي، وهو انتخابات أعضاء مجلس الشورى للفترة التاسعة ( 2019 ـ 2023) بعد إعلان أسماء المترشحين والناخبين، حيث بلغ عدد الناخبين 713335 ناخبا وناخبة، بينهم 375801 ناخب، و337534 ناخبة، وذلك لانتخاب 86 عضوا يمثلون كافة الولايات بالسلطنة، موزعين ما بين عضو واحد للولايات التي يقل عدد سكانها عن 30 ألف نسمة، وعضوين التي يزيد عدد سكانها عن 30 ألف نسمة، وقد بلغ عدد المرشحين 717 مرشحا ومرشحة بينهم 675 مرشحا، و42 مرشحة.

إذ تعد هذه الدورة تطوراً مفصلياً مهماً في تجربة الشورى العمانية لأنها تجسد مسيرة ثلاثون عاماً من استراتيجية “التدرج وفقاً للخصوصية” التي تنتهجها سلطنة عمان منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي في سياق بناء نموذجها الحضاري في الشورى والديمقراطية، مرتكزة في ذلك على مبدأ الجمع بين الأصالة والمعاصرة بأسلوب عصري، وبعبارة أخرى أكثر تعبيراً، الجمع المتوازن بين مفهوم أصالة الأمة العمانية في الحفاظ على هويتها الحضارية وتقاليدها الأصيلة، وبين مفهوم المعاصرة التي تعني الانفتاح على تجارب الاخرين واستيعاب مقومات الحضارة الحديثة والاستفادة من معطياتها في بناء الدولة العصرية الحديثة وهي دولة المؤسسات والقانون.

تكتسب هذه الانتخابات أهمية خاصة، إذ إنها الثانية بعد الصلاحيات التشريعية والرقابية التي مُنحت للمجلس عام 2011. كما أن الانتخابات تستند في الممارسة العملية على نصوص قانون الانتخابات الذي صدر بموجب المرسوم السلطاني رقم (58/2013) إذ تمثل هذه الخطوة قراءة واضحة لانتقال المجلس مـن مرحلة تقديـم الرأي والمشورة إلى مجال التشريـع والرقابـة والممارسة الحقيقية.

تجربة متجذرة ومتدرجة تاريخياً

الواقع أن تجربة الشورى والديمقراطية في سلطنة عُمان قديمة ومتجذرة في المجتمع العُماني، فقد تجسدت ممارسة الشورى من خلال “السبلة العمانية” التي لا تخلو منها قرية من القرى، ولا مدينة من المدن، والتي تعتبر نموذجا أصيلاً  في تطبيق الشورى، ففيها يلتقي أهل الرأي والاختصاص لبحث المسائل والتشاور في قضايا المجتمع، والنظر في المصالح العامة، بإعمال الفكر فيها والأخذ بالرأي الأصوب والأصلح.

وقد تطورت الشورى العمانية على امتداد العقود الماضية، ليس فقط على الصعيد المؤسسي والتنظيمي، ولكن ايضاَ على صعيد الممارسة والدور الذي تقوم به مؤسسات  الشورى وتهيئة المناخ لمشاركة أوسع وأعمق من جانب المواطنين العمانيين في صياغة وتوجيه التنمية الوطنية.

  ولعل ما أسهم في تحقيق ذلك أن التجربة العمانية في ميدان العمل الديمقراطي ارتكزت على تراث عماني خصب ومتواصل في هذا المجال من ناحية، وعلى رؤية واضحة ومبكرة للسلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان استطاعت ان تمزج بنجاح بين خبرة الماضي، ومعطيات الحاضر، ومتطلبات التطور الاجتماعي والسياسي والتفاعل الايجابي معه بخطى متدرجة ومستمرة من ناحية ثانية.

وفي الإطار الكلي الموجه للبناء والتنمية، تدرجت سلطنة عمان في ممارسة الشورى، وقد تمثل هذا التدرج في آليات تطبيق منهاج الشورى العمانية من خلال تأسيس المجلس الاستشاري للدولة، الذي استمر من عام 1981 إلى عام 1991م، وكان رئيسه وأعضاؤه يرشحون بالتعيين من خلال المراسيم السلطانية، ثم الإعلان عن مجلس الشورى في عام 1991م. ومنحه الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، كخطوة جديدة في مواصلة التقدم في التجربة الديمقراطية في السلطنة، ثم الانتقال في عام 1997 إلى إنشاء مجلس الدولة ومجلس عمان، ويضم مجلس عمان مجلسي الدولة والشورى، حيث رافق ذلك أيضاً التدرج في عملية الانتقال من التعيين إلى الانتخاب، وزيادة في عدد الأعضاء، ونسبة التمثيل ومشاركة المرأة، وفي الصلاحيات، وفي شكل الممارسة، وذلك لإثراء مسيرة التطور والبناء، وإفساح المجال للأفكار والآراء التي تخدم الصالح العام، وتسهم في توفير الحياة الكريمة للمواطنين، وتحقيق الأهداف العليا للوطن، وتم فتح الباب أمام المواطنين العمانيين لخوض انتخابات عامة يتساوى فيها الرجل والمرأة على قدم المساواة للترشح في المجلس، بحيث تمارس فيها المرأة العمانية حق الترشح والانتخاب. فكانت لها الريادة على صعيد دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بمشاركتها في عضوية الشورى منذ عام 1994م، ولا تزال تشارك في عضوية المجلس.

ثم شهد المجلس تطورات مهمة ونوعية سواء على مستوى الصلاحيات خاصة بعد التعديلات التي أجراها السلطان قابوس بن سعيد في عام 2011 وإعطاء المجلس صلاحيات تشريعية ورقابية، أو سواء على مستوى المشاركة السياسية وتزايد أعداد من لهم حق الانتخاب والذين وصلوا إلى أكثر من 700 ألف ناخب، أو سواء على مستوى دوره في إعداد القوانين والتشريعات والتعاون مع مجلس الدولة ، أو على مستوى تطور البرامج ونظام الانتخابات ، حيث أصبح التصويت الإلكتروني متاحا في الانتخابات عن طريق شاشات اللمس.

آمال وطموحات بعد 30 عاماً تقريبا

فإذا كان من المؤكد أن السنوات الماضية قد سمحت بتراكم الخبرات، على مستوى الآليات والممارسة السياسية على صعيد مجلس الشورى، فإن الفترة الجديدة لمجلس الشورى سوف تشهد آمالاً وطموحات كبيرة من جانب المواطنين، خاصة مع اتساع وتعمق اختصاصاته ودوره ومهامه على الصعيد الوطني.

ومع التطورات العالمية الاقتصادية المتسارعة تبرز أهمية الدورة التاسعة لمجلس الشورى خاصة على مستوى القضايا والموضوعات المطروحة أو المتوقع معالجتها في المستقبل. وهذه القضايا ترتبط بشكل أساسي بعملية التنمية الشاملة والمستدامة التي تشهدها البلاد على كافة الأصعدة من أجل نهضة الإنسان العماني باعتباره أداة وهدف التنمية والمتمثل في استراتيجية (بناء البشر قبل الحجر).

إن أبناء المجتمع العماني يعولون على مجلس الشورى أن تحقق فترته المقبلة آمالهم وتطلعاتهم ويستطيع أعضاؤه أن يحققوا تقدما ملموسا على كافة المستويات التنموية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، وأن يكونوا عند حسن ظن المواطنين الذين منحوهم أصواتهم ليصبحوا حلقة الوصل التي توصل طلباتهم للمسئولين في الحكومة ومؤسسات الدولة المختلفة، وتذلل الصعوبات التي تواجههم في حياتهم مرتكزين في ذلك على الصلاحيات الكبيرة التي يتمتعون بها خاصة في مجال التشريع والرقابة بطريقة إيجابية وبناءة، وإذا كانت العلاقة بين المرشحين تنافسية أثناء فترة الانتخابات فإنها يجب أن تكون تكاملية بعد دخول المجلس بحيث يكمل بعضهم البعض لتحقيق الأهداف الأساسية للسلطنة.

إجمالاً يمكن القول، أولاً، أن تجربة الشورى العُمانية أثبتت مستوى الرقى واستيعاب فلسفة العمل النيابي المتمثلة في مجلس الشورى وربطه بالسياق العام لأهداف وخطط الدولة في تحقيق التنمية الحضارية والسياسية والاجتماعية الشاملة، وثانياً، أن تجربة الشورى والديمقراطية العمانية جاءت في جميع مراحل تطورها استجابة للمجتمع العماني نفسه وليس استجابة لعوامل أو ضغوط خارجية ، الأمر الذي يجعلها تجربة متفردة وذات خصوصية.

وثالثاً، أن انتخابات الشورى للفترة التاسعة، تجسد مخزناً للقيم والخصوصية العُمانية في التشريع والممارسة وفي آليات العمل البرلماني من أجل توسيع عملية المشاركة السياسية لتحقيق قيم التحديث عبر مراحل متتالية، مع الحفاظ على الخصوصية التاريخية والاجتماعية للواقع العماني، والأخذ بأسلوب التطور التدريجي السلمي البعيد عن النظريات والأطروحات الخارجية التي لا تتفق مع الثقافة السياسية العمانية.

وأخيراً جاءت التجربة الديمقراطية العمانية مستندة على الارث المجتمعي للعمانيين، وما يتميز به المجتمع من ميزات حيوية يستطيع أن يضعها في خدمة العمل السياسي، من أجل هدف واحد هو خدمة ورقي وتطور الإنسان العماني، وذلك لاستكمال مسيرة البناء والتنمية في سلطنة عمان والتي تتوج هذا العام نجاحات نصف قرن من العمل المتواصل لبناء الوطن.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.