بائع اليأس ..بقلم الاديب عميد أ/ح رءوف جنيدى

بائع اليأس : _

عذراً يا صغيرى : حملت .. فتجولت .. فتعبت .. فنمت يا غلام … بعد أن قابلت من البشر من هو مختلف مذاقه . فهذا فراته عذب . وذاك ملحه أجج .. ولكن شتان ما بين نومك هذا ونوم عمر رضى الله عنه . فما إنكببت على وجهك الا كداً و إرهاقاً . بينما إنكفأ مكباً على وجهه مجتمع غافل أو متغافل عنك . فوالله كم تمنيت أن تضرب بعصاك الفقر لينفلق . وليكن كل فرق فيه كالطود العظيم . ليشق الله لك طريقا فى النعيم يبساً لا تخاف بعده دركاً منه ولا عوذاً ..

ألم يأن للذين يرتعون بجوارك بسياراتهم الفارهة أن تخضع قلوبهم لذكر الله الذى جعل لك فى أموالهم حق معلوم . أم على قلوب أقفالها ؟ … تقتات من بيع بعض أكياس مختلف ألوانها وكأنها جدد بيض وحمر فاقع لونها . تسرالناظرين من الأطفال الذين هم فى مثل سنك . ولكنها على قلبك الصغير غرابيب سود . تلك التى ناء بحملها كاهلك الضعيف . فلا هى بيعت ولا هى أراحتك من عناء حملها على أكتافك . فألقيت يا صغيرى برأسك فوق سندان اليأس . عسى أن ترفق بك مطرقة الحياة التى حملها نيابة عنها أناس ما تركوك قائماً على حالك . بل أزعجوك بنعيق سياراتهم وهى تمرق كالسهام من حولك . وكأنك جئت شيئاً إداً . تكاد أعصابهم تتفطرن منه . وتنشق الأرض وتبتلعك بلعاً. أن ارتميت أنت وأكياسك فى طريقهم .

فأتبع سبباً . حتى اذا ضرب النوم على أذانك فى نهر الطريق ساعات عددا . ثم بعثك الله لتعلم أى الأكياس بيعت . أم حسبت أنك أنت وأكياسك كنتم من آيات الله لعباده عجباً . أم أن ما جنيته من حصاد يومك لا يسمن ولا يغني من جوع اسرتك التى يعلم الله وحده كم هى فى حاجة إلى قوامتك على طعامها ليل نهار . فكان هذا قدرك أن تكون عائلاً قبل أن تقوى سيقانك على حملك أصلاً . بل قد يمر عليك من هم فى مثل سنك مع أسرهم فى سياراتهم . ينظرون إليك نظر الشاخصة أبصارهم من الدهشة . وكأنهم يمرون بمحمية طبيعية عليهم أن يجتازوها سريعاً . ليتولوا عنك وهم معرضون . عسى أن تفيض أعينهم ً بالدمع حزناً . على أنهم ما قدموا بين يدى الله صدقة . فكبر مقتاً عند الله ما فعلوا .

ثم اتبع سبباً . حتى إذا غفوت لتسرح بذهنك بعيداً وترى نفسك وقد أيقظتك والدتك فى الصباح . واعدت لك فطوراً مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين . وكذا حقيبة كتبك المدرسية . وجلستم معاً فى انتظار اوتوبيس المدرسة الذى صاح بسارينته المعهودة ليخبرك أنه فى انتظارك امام باب العمارة التى تقطنها فى أحد الأحياء الراقية . ولتودعك أمك من شرفة المنزل .. وما أن أفقت من غفوتك إلا لتعلم أنها سارينة لسيارة فارهة يقودها شاب أرعن أراد أن يداعب فتاته التى تجلس الى جواره بأن يضحكها على فزعك من صوت سارينته . فما كان إلا سراباً بقيعة حسبته من ظمئك ماءاً . حتى إذا جئته لم تجده شيئاً . ووجدت الله عنده عسى أن يوفيك حسابك الذى لم يوفك به أحد فى الدنيا …….. عساك يا بنى أن تبقى غنياً من التعفف . لا تسأل الناس الحافاً . وليعلم الذين آمنوا أنهم إن يبدوا الصدقات فنعما هى وإن يخفوها ويؤتوها من هم مثلك . فهو خير لهم . وليعلموا أن لو شاء الله لآتاك خيراً مما آتاهم . ولكنها حكمة الله التى جعلنا عليها .. ليعلم سبحانه وتعالى كم أنفق وكلاؤه من الأغنياء على عياله من الفقراء .

ثم اتبع سبباً : حتى إذا بلغ الغلام مغرب شمسه فوجدها تغرب فى عينه الحمئة . التى قرحها عناء السعى والطواف . وأقدامه المنهكة التى بليت نعالهاٍ بعد أنٍ أكلها حفيف الأرض .. وعلمنا إن مثل هذا الغلام ومن على شاكلته هم فقراء أحصروا فى دنياهم . لا يستطيعون ضرباً فى الأرض . وأن كثيراً من هؤلاء من يؤمن بالولاء على حرف . فإن أصابه خير اطمأن به . وإن أصابه الجوع انقلب على وجهه …. وما رأيت خيراً أصابه . وكأن الفقر قد قميص الغلام من دبر بعد محاولاته الفرار منه . إلا أن الفقر الذى يفر منه فإنه ملاقيه وكأنه الموت …

يا سادة : أقسم بالله العظيم : ليست هذة دعوة لليأس أو التخاذل . فلم يلفت انتباهى فى الانتخابات الرئاسية من ترشح ضد من ؟ … ولم يشغلنى لماذا ترشح الفريق شفيق ثم تراجع ؟ … ولا لماذا ترشح الفريق عنان ثم أحيل للتحقيق .. فهذا أمر مقضى به .. بقدر ما استوقفتنى صورة هذا الغلام الذى قد يتعاقب عليه الرؤساء وهو لا يزال على حاله .. فليتقدم الجميع للإدلاء بأصواتهم ويختار كل منا من يرى فيه الصلاح وعلى يديه الإصلاح . تضامناً مع هذا الغلام وكل غلمان مصر الذين هم على شاكلته …….. وأعلم أنهم كثر .

ولكن أدعوكم دعوة تأمل : أن الدولة التى ينتمى اليها هذا الغلام هى نفسها الدولة التى قضت الهيئة العليا للانتخابات الرئاسية فيها بألا يتجاوز الحد الأقصى لمصاريف الدعاية الانتخابية لأى مرشح عن ( عشرين مليون جنيه ) . ناهيكم عما ستتكلفه العملية الإنتخابية برمتها .. وان هذا الغلام سيأتى عليه يوم يكون فيه مطالباً بضرورة الإدلاء بصوته فى انتخابات رئاسية صرفت فيها الملايين وإلا تعرض لغرامة مالية …. فإن يأت رئيس سابح فوق هذه الملايين ليجلس على سدة الحكم والغلام على حاله …. فتلك إذن قسمة ضيزى ……. ولا تعليق …

وفى النهاية . أدعو الله الا نكون من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ……

فاصبر يا صغيرى .. فحسبك قول الله : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) …. صدق الله العظيم …

رفعت الأقلام وجفت الصحف …..

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.