بقلم حاتم إبراهيم سلامة ” و رحلت ملاك الرحمة “

كل الناس ترحل، وكل الناس راحلون.. وكلهم يندثرون، وفي عالم النسيان يغطون.. ولكن.. قليل منهم من يبقى في الدنيا بأثره وخلقه وذكره وبره وعمله العظيم، وشخصه الخالد، وحبه للناس، ورعايته للإنسانية.
رحلت عن عالمنا ومنذ ساعات، إثر أزمة قلبية مفاجئة، الدكتورة (هبة خفاجي) الطبيبة في قسم الأورام، ورئيسة جمعية روح الخيرية لعلاج مرضى السرطان، وأنا واحد من مئات وآلاف حزنوا عليها وتأثروا بما قيل عنها، لم أسمع بها أو أعرفها إلا بعد رحيلها، حينما انزعج وجداني من صراخ هذه القلوب الملتاعة بفقدها.. وأنين هذه الأعين التي ما كف عن أذني صوت دموعها وهي تنحدر حزنًا عليها.
أكتب اليوم لأرثيها ولم يكن لي بها علم ولا معرفة، لكنني أجد قلمي تواقًا لهذا الرثاء، والكلمات في أعماقي تأرز للخروج، لأن الإنسانية فقدت جزءاً منها، وفارسة نجيبة من فرسانها، وملاكًا صمم أن يعيش بيننا على الأرض، حتي يكون رحمة وبرًا على المرضى والفقراء والتعساء، ليخفف عنهم زئير الألم، ووطأة الحزن في هذه الحياة، ويُحيي فيهم شرايين الأمل، لتضخ في قلوبهم السعادة من جديد، وتبعث في محياهم البسمة والتفاؤل والاشراق.
في هذا الزمان الذي يُمكن لك أن تطلق عليه زمن الجحود والنكران، وزمان القسوة والكفران، زمان البطش بمعنى الإنسان.. كانت الدكتورة (هبة خفاجي) صاحبة رسالة، وصاحبة رحمة، وصاحبة بسمة، تقابل بها أولئك التعساء الحزانى من مرضى السرطان.
لم أكن أتمنى من الدنيا إلا أن أكون صاحب مهنة تخدم الناس، وصاحب قدرة أعين المحتاجين، تمامًا كما كانت الفقيدة التي أفنت حياتها ووقتها وطاقتها وقدراتها في هموم المعذبين..

 

كانت كما وصفها أحد الراثين، ولم أجد وصفا لها أجمل ولا أعظم ولا أليق بها منه، رغم عفويته وعاميته حينما قال: (كانت إنسانة معجونة بالخير) ورغم رحيلها ومصابها وفنائها، إلا أنني أحسدها علي هذه القلوب التي تجمعت على حبها ورثائها، كما لو كانت ترثي نبيًا أو صديقًا أو وليًا من الأولياء، ومالها لا تكون من الأولياء؟! وقد كانت من أبر الناس بالناس، وأرحمهم بالضعفاء والمرضى المعذبين.
لا أحدثكم اليوم عن عملها، ولا أتلو لكم من إنجازها وجهدها، بل يكفينا فقط أن نقرأ تلك المراثِ التي سطرتها قلوب محبيها والملتاعين لموتها.
وقبل هذا نتعرف الآن على همتها وعزيمتها وإحساسها بالمرضى، حينما نشرت على صفحتها في تويتر تقول:
(مريضة ثلاثينية راجعالي عشان المدير مرضيش يمضيلها على وصل العلاج عشان قرارها مجاش، قمت حمرت عينيا وخدت الوصل ودخلت ومعاه ٣ موظفين قلتله: انت عارف لما بتقول: لا على علاج عيان مين بيتاثر؟ كل عيان وراه أسرة.. دي وراها ٣ عيال.. لو انتكست يبقى ذنبك انت.. مضى من غير ولا حرف.
والله يا جماعة مش بحكي عشان اقول انا كويسة.. انا مبسوطة إني رجعت من الإجازة المرضي.. عشان احط عليه وارجع أقف جنب العيانين لان ده واجب ميستحقش اي شكر.. أطباء كتير بتعمل كده كل يوم.. بتقاتل عشان مرضاهم في ظل مشاكل بيروقراطية ونواقص وو.. وبرضه مبسوطة إني رجعت احط عليه.)
هكذا كانت (هبة خفاجي) وهكذا كانت تنتصر للمريض في بلد لا يشعر أكثر من فيه بما يعانيه المريض.!
أما الراثون لها فما أجمل مشاعرهم وهم يعبرون عما في قلوبهم من الحزن على رحيلها فكان مما قالوه:
* ساعدتني ف عز ما كنا مش لاقيين الدوا ف البلد كلها وفرتهولي ربنا يرحمها يارب
*  قضت حياتها في مساعدة مرضى الأورام من الفقراء والمساكين والمحتاجين وتوفير العلاج والدواء لهم
*  اللهم اجعلها في ميزان حسناتها وتغمدها بواسع رحمتك.
*رحمها الله لو كان في المجتمع عينات كثيره نفس عينة الدكتورة هبه رحمها الله لكانت الدنيا بخير.
*  لمن لا يعرف هبة كانت من أكثر من ساعدوا الجريح والمصاب في يناير وكانت تجمع التبرعات وتوصلها للمستحقين للثقة الكبيرة فيها من كل الأطراف، أنا بكلمكم عن بني أدمه غير عادية في إحساسها بالمجتمع وبالوطن.
* تعلمنا منها كيف على مدى ثلاثة أعوام من هو مريض السرطان ليس فقط كيف نساعده بل كيف نسعده.
*  ساعدتني الدكتورة هبة في توفير حقن شهرية لمريضة سرطان بأقل ٤٠٪ من تمنها في السوق واللي كان ٧ الاف جنيه كل شهر.
*  بفتكر كلامي مع والدتك وأد إيه هى مرتبطة بيكِ وقلتلها: هتعملي إيه لما هبة تتجوز؟ فالتلى تفتكري فيه حد يستاهل هبة؟
*  الناس كانت بتستنى الإجازات بتاعت العيد عشان تسافر وتشوف أهلها او حتى تنام في البيت.. هبة كانت بتقعد ترتب ازاي العيد ده هتفرح فيه أطفال مرضى في المستشفى. بتقعد ترتب وتحسب.. كل ده عشان تدخل السرور على قلبهم. كانت دايما ماشية في خير او بتساعد.
*  كنت عندي شاب وأخته مش بيمشو ومحتاجين كرسي واحد هو واخته بس كهربا، ملاك الرحمة الدكتورة هبة بعتت ليهم اتنين كرسي بالكهرباء.. وفي يوم كلمتها كان شاب محتاج جهاز يوصل الأكسجين لجسمه الجهاز معدي ال٤٠الف وفرته ليه ف يومين

 

* مش مركز الأورام والطب النووي بس.. ده الحروق والكسور وعنابر قصر عيني القديم تشهد على إفطار رمضان للمرضي والمرافقين يا باب الخير الواسع.
* أول ما عرفت إني عندي ورم وكتبت كلمتني هي بنفسها وهدتني جدا وقالتلي ماتخافيش الموضوع بسيط وساعدتني جدا نفسيا انا مش عارفة أوصفها وخائفة أقول حاجة أقل من وصفها
المريضة دي مكنش ليها حيله غير ربنا في الدنيا حتى معندهاش ولاد، الدكتورة هبه يومها لما كلمتها عن الحالة حسستني انها بنتها ‘ الله يعزك يا دكتورة ويجعل مثواك الجنة.
ثم أختم الآن بهذه التغريدة التي تبكي القلوب وتشعرك بأي مدى كانت الخسارة في عالم الإنسانية
تقول إحدى شقيقاتها من الطبيبات:
“أكلم مين ي هبة دلوقت أما اتزنق ف حالة أورام، طب لو احتجت دوا لحد؟ اعمل إيه وانت مش موجودة؟ هو انت فيه حد ينفع يحل محلك؟”
رحم الله الإنسانة النبيلة، التي عاشت للإنسان وخدمت الإنسانية.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.