بيت الغناء يستعيد سحر “أحمد منيب” في صالون “مقامات”
في قلب القاهرة الفاطمية، حيث يتنفس التاريخ عبق الماضي، و تتهادى حكايات التراث في أزقة شارع المعز، تحتضن جدران قصر الأمير بشتاك لقاء ثقافيا استثنائيا يستعيد سحر واحد من أبرز رواد الأغنية النوبية. إنه صالون “مقامات” الذي يضيء شمعة جديدة على تراث الموسيقار الراحل أحمد منيب (1926-1990)، في أمسية تحمل عنوان “أحمد منيب.. سحر المعنى”، تستضيف نجله الفنان خالد منيب لاستراجع ملامح تجربة فنية وإنسانية غنية.
صالون مقامات.. حيث يحلو الحوار الجمالي
تنظم هذه الأمسية قطاع صندوق التنمية الثقافية بالتعاون مع البرنامج الثقافي بالإذاعة المصرية، في تمام الساعة الثامنة من مساء الخميس 13 نوفمبر ببيت الغناء العربي في قصر الأمير بشتاك، وذلك في إطار رؤية تستهدف إعادة تقديم رموز الموسيقى المصرية والعربية للأجيال الجديدة، وتعريف الجمهور بتجاربهم المؤثرة في المشهد الثقافي.
كما تأتي فكرة الصالون من إبداع الفنان الراحل محسن فاروق، الذي أسس لمشروع “مقامات” بوصفه مساحة للحوار الجمالي والتوثيق الفني عبر لقاءات تجمع رموز الغناء والموسيقى والنقد. و ستدير الأمسية وتقدمها الإذاعية الدكتورة إيناس جلال الدين، مدير عام الموسيقى والغناء في الإذاعة المصرية.
أحمد منيب.. النوبة التي غزت القلوب
يعد أحمد منيب أحد أهم رواد الفن النوبي في مصر، حيث بدأ ظهوره عام 1954 في إذاعة وادي النيل، وكون مع الشاعر عبدالرحيم منصور ثنائيا فنيا متميزا. كما تعاون مع الفنانين الكبيرين هاني شنودة ويحيى خليل، وتبنى صوت المطرب محمد منير الذي جسد الخلود لأعمال هؤلاء الفنانين الكبار.
من النوبة إلى كل بيت مصري
كانت رحلة أحمد منيب الفنية مسيرة كفاح وإصرار، ولد عام 1926 في النوبة القديمة، وعاش فيها لمدة 15 سنة، وكان أول نوبي يعزف على العود حيث علم نفسه بنفسه. وبعد تنفيذ مشروع تعلية الخزان، انتقل للإسكندرية مع أسرته، حيث كان يرافق محمد البحر درويش (نجل الموسيقار سيد درويش) و يغنيان سويا في لياليهما و سهراتهما.
كما واجه منيب معارضة شديدة من والده لممارسة الفن، الذي كان يكسر له العود مرارا، ما دفعه للتوجه للقاهرة في بداية الخمسينيات والعمل في مصنع الحديد والصلب بعد زواجه عام 1948. بعد ذلك عمل مع فرقة زكريا الحجاوي الذي كان يجمع التراث الثقافي المصري، فجابا كافة أنحاء مصر.
النقلة الفنية.. من الهامش إلى المركز
في عام 1964، مع بناء السد العالي وتهجير النوبيين، تشتت الجميع بين أسوان والأقصر، وشكل منيب ثنائيا مع الشاعر الراحل محيي الدين شريف من قرية أبو سمبل بأسوان، وكان يكتب الأغاني بصيغة جديدة عن المذهب الغنائي النوبي. و أرسلا معا خطابا للرئيس جمال عبدالناصر يطلبان فيه عرض أغانيهما في الراديو، فاستجاب ناصر على الفور، وتم عمل برنامج “من وحى الجنوب” الذي كان يذاع بالإذاعة وبدأ معه صيت منيب يذيع في كل مكان.
في السبعينيات، حدثت النقلة الكبرى في حياته الفنية، حيث عمل في المؤسسة الهندسية بعد مصنع الحديد والصلب، ثم نقل الى شركة “تلي مصر”. سافر إلى السعودية عام 1972 وعاد بعد عامين حبا في الفن بعد حرب 73، وعمل في البنك الأفريقي حتى عام 1976.
الإرث الفني.. عندما تلتقي الأصالة بالمعاصرة
يعتبر أحمد منيب الأب الروحي للأغنية الشبابية في الثمانينيات والتسعينيات. حيث قدم ألحانا للعديد من النجوم الصاعدين في ذلك الوقت مثل علاء عبدالغني وصادق وحسن عبدالمجيد وإسلام وفارس وغيرهم. لكن تعاونه مع محمد منير كان الأكثر تأثيرا. حيث لحن له أكثر من 45 أغنية جسدت الخلود لأعماله.
من أبرز هذه الأغاني: “حدوتة مصرية” التي يعتبر توزيعها الموسيقي الأول من عمل يحيى خليل. ثم جمال سلامة. قبل أن يقترح منيب الاكتفاء بالبيانو و الدف مع صوت منير. وكذلك “الليلة ياسمرا” التي أصبحت أغنية عالمية. و”اتكلمي” التي لحنها في يوم واحد وسجلت في اليوم التالي. و”هيلا هيلا” و”تعالى نكتب اسامينا”.
تكريم متأخر وإرث إنساني
تم تكريم أحمد منيب من قبل جامعة الدول العربية كأفضل ملحن أثر في المجتمع خلال الـ30 سنة الماضية. وفي 2014 منحته الدولة وسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى. وكان منزله في منطقة السيدة زينب مقصدا للفنانين من كل مكان دون سابق ميعاد. حيث كان يستقبل الجميع في بلكونة المنزل التي كانت تضم أكثر من 15 شخصا. فكان الجميع يزوره للمحبة وليس للعمل فقط.
استمرارية الإرث.. منيب باند وبيت منيب للثقافة
كما أسس نجله خالد منيب “منيب باند” بعد 20 عاما من وفاة والده. بهدف الحفاظ على موسيقى والده ونقلها للأجيال الجديدة. و اصطحب للفرقة ثلاثة أعضاء هم: عبدالله عادل، وبدر مصطفى، وحسام فتحي. الذين يتمتعون بأصوات مميزة وقدرة على تقديم موسيقى منيب بشكل معاصر.
كما تم تحويل منزل العائلة في قرية “توماس وعافية” بمدينة إسنا التابعة لمحافظة الأقصر إلى “بيت منيب للثقافة والفنون”. الذي افتتح في ديسمبر 2020 ليكون مزارا و متحفا للفنان. الراحل ومركزا للإبداع يفتح أبوابه للموهوبين لممارسة الأنشطة الفنية بمختلف أنواعها في الجنوب و صعيد مصر.
ختاما
تظل أمسية صالون “مقامات” عن أحمد منيب أكثر من مجرد فعالية ثقافية عابرة. إنها إضاءة على إرث فني ثري جمع بين الأصالة النوبية الأصيلة وروح التجديد المعاصر. وإحياء لذكرى فنان لم يكن مجرد ملحن أو موسيقار. بل كان أبا روحيا لأجيال من المطربين. و معلما في مسيرة الأغنية المصرية التي تتسع لكل ألوان الطيف الثقافي في وادي النيل.




