تجاعيده قصة حياة
تجاعيده قصة حياة
قويدرى سميره
والدي، أول حب نبض به خافقي
إلى الرجل الذي علمني كيف أكون امرأة بألف رجل علمني أن أغلق بعد الله و بعده باب الرجاء فما كانت لي حاجة عند بشر مادام الله ربي، و والدي على قيد الحياة، إلى الرجل الذي أوصاني بمناداته حتى في غربتي عنه فقال : كلما ذاق بك وسع الحياة قولي أين أنت يا أبي ؟ سأكون حينها إلى جانبك قلبا و قالبا…. أنا أحبك
المزيد من المشاركات
أكثر ما يجلب الطمأنينة لقلبي في فوضى الحياة أن والدي حي أشعر حينها بقوة ألف رجل تغمرني من أخمص قدمي إلى قمة رأسي لقد ظل والدي كل جيشي ، لطالما تسلحت بوجوده إلى جانبي ضد كل الصعاب
حين بدأت مشواري الكتابي، شاركت في عدة مسابقات فحالفني الحظ ، هنا بدأت موهبتي تخرج إلى النور و تغادر حيز روحي لتتوسط الملأ، كان أبي يعلم شيئا ما حول موهبتي و بغض النظر عن درايته بها، كنت دائما مميزة في عينيه، حتى أنا نفسي لم أكن لأراني بالطريقة التي يراني بها هو ، مجرد نظري في عينيه لي قوة، وجدت فيهما دائما صورة جميلة لي تعزز ثقتي بنفسي … . عينا والدي هما مرآتي الجميلة. بعد أن فازت قصتي ، كانت جائزتي طباعتها و نشرها، كنت في المطبخ أمسية ذلك اليوم ، أحاول ممارسة سعادتي بالفوز في الطبخ كالعادة، إنه يوم سعد أمي حين تغمرني السعادة لتأخذ هي فاصلا من المطبخ الذي يكاد أن يصبح شبحا بالنسبة لها.
وقف والدي بجانبي فجأة ، أخذ إبريق الشاي و راح يسكب في كأسه. لم أشعر بخطواته ، كان هادئا جدا، التفت إليه لأبشره بفوزي، كان محدقا بانسكاب الشاي ثم سبقني القول : فزت! مبارك.. كنت أعلم أنك ستفوزين لم أتفاجأ..انقطع بعدها عن الكلام لثواني ظل خلالها يحرك ملعقة السكر في كأسه ثم رفع رأسه و نظر إلي و أضاف قائلا :اكتبي شيئا عني.. ثم انصرف.. ابتسمت حينها ابتسامة ممزوجة بالشرود، كانت الكثير من الكلمات تتضارب على عتبة شفتاي لكنها لم تتجاوزها ، وددت أن أقول لحظتها.. ” حبيبي يا بابا.. أنت أكبر و أجمل من بلاغة الأسلوب و قدرة الحرف.. كيف قد أكتبك!
محمد قويدري مواليد 1947م، الرجل العظيم الذي يقف إلى جانبي منذ خمس وعشرين سنة كحصن منيع، دون سهو و لا ملل ، إنه والدي و كل عالمي ، عاش يتيما منذ نعومة أظافره ، لم يتجاوز العشر سنوات حين احتضنته بيوت أعمامه بعد وفاة والديه، أبي لم يعرف عن الأبوة الكثير لكنه مارسها معنا على أكمل وجه…، يقال أن فاقد الشيء لا يعطيه… غريب؟!! ترى كيف أعطانا والدي هذا الكم من الحب و العطاء اللذان لم يحظ بهما في حياته؟ يبدو أن فاقد الشيء يعطيه. حين انتقلت لمرحلة الجامعة ، لم تكن اتصالاته تنقطع قط، كان يخبرني في كل اتصال أن أستشعر وجوده في قلبي لأطمئن في تلك الغربة ، جملته الشهيرة ” يا ابنتي كلما لفظتك الحياة خارجا نادي أين أنت يا أبي”؟
التجاعيد المنكمشة على جوانب وجنتيه و أعلى جبينه قصة مكتوبة بحبر السنين تروي كيف أني أصبحت اليوم امرأة، كبرت على حساب شبابه، دفع والدي عمرا لقاء أن نكبر دون أن نجوع أو نعرى. التجاعيد على ظاهر يده تسرد كيف أن تلك اليد كدت و اجتهدت تحت وطأة كل الظروف لأجل أن نعيش …
بين تجاعيده قصة حياتي..
عاش والدي في زمن يختلف تماما عن زمننا الآن، غالبية أقرانه متعصبين و صارمين حتى في علاقاتهم مع أولادهم، ربما لا يعبرون لأبنائهم عن الحب الذي يكنونه بدافع الحفاظ على هيبة الأبوة ، هناك جدار كبير بين الابن و والده يقطع التواصل بينهما بشكل من الأشكال تحت مسمى الاحترام ، إنه المفهوم الخاطئ للاحترام. باستثناء والدي، يحاول دائما معاصرة هذا الوقت يعلم يقينا أن العقلية القبلية في تربية الأبناء لا تتماشى مع ما نحن عليه اليوم ، عاملني دائما كصديق مقرب ، صحيح بيننا الاحترام لكن بيننا أيضا الحب
عند عودته إلى المنزل يناديني بمرح سمرائي… ياااااا سمرائي ،. أين أنت ؟ أنظري ماذا أحضرت لك ، لا تعرفين كم أحبك ، إني أخاف عليك من بعدي ، من يدللك غيري! يقول هذا مازحا كلما عاد إلى المنزل، تغمرني السعادة لحظتها ثم أتوقف عند عبارة ” من يدللك غيري” فتعود سعادتي أدراجها و تختفي ابتسامتي بروية و أشرد.. فعلا من يدلنني غيرك ؟ . . اللهم لا تريني فيه بأسا يبكيني
لم يتعلم أبي في المدارس، قضى طفولته في محاولة أن يكون رجلا صامدا أمام صلابة الحياة التي خرج إلى مواجهتها صغيرا، لكنه رجل مثقف بحكم التجربة يعرف جيدا كيف يحدد أهدافه و يصل إليها، رغم ذلك فإنه علمني ما عجزت عنه المدارس .
أبي المدرسة الأولى التي لها الفضل فيما أنا عليه اليوم، لقد علمني كيف أكون امرأة بألف رجل، أخذت منه القوة، رباطة الجأش و صلابة الشخصية . دفعني إلى الأمام دائما و مازال يدفع بي نحو الأعلى، متفرد والدي عن كل أشباهه الأربعين و جميل كلوحة رسمت بألوان من الحب.
قويدري سميرة