ثقافة المقاتل

ثقافة المقاتل

 

بقلم/ د. عبد الولي الشميري

هذه الدوافع الحقيقية لقيام الحرب العالمية الأولى التاريخ يعيد نفسه زمانا، ومكانا، وأسبابا.

لقد شغلت الأمة العربية نصف القرن الماضي وأفنت جيلا كاملا من عمرها في مقاومة الاستعمار الأوروبي، وبحثا عن الحرية والاستقلال. وقد قامت ثورات عربية عدة في عدد من الأقطار العربية بعضها لاستعادة الحرية من الإنكليز البريطانيين وبعضها من الفرنسيين، وبعضها من الإيطاليين في وقت كانت الشعوب العربية ترسف تحت خط المجاعة والفقر، وأنواع الأمراض الوخيمة، وكانت هناك شعوب عربية أخرى لا تقع تحت وطأة الاستعمار الأوروبي لكنها تعيش حالة مشابهة من حيث الظلم والاستبداد والتسلط، ولم تكن تلك الأنظمة العربية غير المستعمرة على قدر من الوعي أو الإدراك السياسي الذي يمكنها من التمييز بين العدو الأخطر، والأقل خطرا. وكانت وسائل ذلك الجيل الذي هو جيل آبائنا الأقربين وسائل بدائية وعتيقة ولكنها أيضا صعبة وشاقة وكثيرا ما تكون بعيدة المنال، لكن العزيمة الصادقة والعقيدة الصحيحة والفكر المتين، جعل الصعب مذللا، والمشقة ميسرة.

وقد لعبت الدول الاستعمارية لعبا كيدية في التضليل، وإيقاع العداوات بين الشعوب، واستعداء بعض الأنظمة العربية الأسرية والقبلية على الدول العثمانية التي كانت ما تزال في بداية القرن تمثل رمزا كيانيا لدولة إسلامية واحدة تعيد للأذهان وجوب الترابط الإسلامي والأخوة الإسلامية، ووجوب السمع والطاعة لدولة إسلامية تمثل الخلافة التي وجدها المسلمون في كل أقطار الأرض جزءا من فكرهم العقائدي، وأساسا لانتمائهم الديني بمقتضى الوجوب الفرضي الديني، وليس لما تقتضيه الحاجة للنظام الاجتماعي والسياسي.

وعلى سبيل المثال لقد قامت الدولة التركية – الخلافة العثمانية في العقود الأخيرة من عمرها بالتحالف مع كل المؤمنين بوجوب مقاومة الاحتلال الأوروبي في الأقطار المحتلة قبل نهاية القرن التاسع عشر، وعملت على دعمهم ومساعدتهم في تنظيم صفوفهم وإمدادهم بالأسلحة والأموال، وأطلقت لنصرتهم إعلاميا عددا من الصحف البيروتية، والاسطانبولية، واشترت بعض صحف الهند، كل ذلك خدمة لإسماع الناس تقارير الكفاح المسلح، وأخبار الانتفاضات والمقاومة ضد الاحتلال في الأقطار العربية والإسلامية.

وعلى سبيل المثال مساندتها لموجات المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي التي كانت تطفو حينا وتخبو حينا آخر، رغم أنها كانت غير منتظمة وتفقد التنسيق الكامل بين المجاهدين في الحضر وبين المجاهدين في البادية. وكانت تدعم كذلك المقاومة السلطانية الضعيفة في جنوب اليمن لو سياسيا وإعلاميا، رغم أن بعض السلاطين العرب وقادة أتباعهم كانوا يصدرون بين حين وآخر نفيا أو تكذيبا بأنهم في حالة انتفاضة أو مقاومة.

ولكن المملكة البريطانية التي كانت تحتل ثلث العالم كانت ترصد تلك الحركات التحررية، والانتفاضات المدعومة من عرش السلطنة العثمانية وآخر خلفائها بشكل دقيق وبحجم كبير من القلق.

ولكنها كانت ترى أنها حركات ضعيفة، لا تستند إلى تأييد شعبي قوي، وقد تشارك بإرهاق، وإنهاك الاقتصاد التركي المنهار الذي كان قد أشرف على الهاوية، وكانت الديون على عرش الخلافة العثمانية تستأثر بكل تعبئتها وطاقاتها المادية وبنفس ما أطيح بالاتحاد السوفيتي الشيوعي من عوز وتدهور في الاقتصاد، وكذلك كان قد سبقت التجربة على الدولة العثمانية التركية، إلا أن الاتحاد السوفيتي سقط بمجرد الفشل الاقتصادي، والدولة العثمانية تم إسقاطها بالحرب العالمية الأولى عسكريا. ولأن الدعم للثورات والانتفاضات الداخلية يعتبر قديما وحديثا من أقوى المزعجات للمستعمر المسيطر عسكريا فإن ردود الفعل ضد مصادر الدعم تكون عنيفة وقوية، ولذلك فقد بحثت المملكة البريطانية قبيل الحرب العالمية الأولى عن رافد عربية، تقف معها ضد الدولة العثمانية التركية التي كانت ما تزال قوية القبضة على شمال الجزيرة العربية، والعراق، والشام، وقد لقيت بغيتها المنشودة في التيار الهاشمي المتطلع للتوسع في الحكم، وبسط النفوذ على الأقطار العربية على خلفية عقدية بأن الأسرة الهاشمية تتمتع بحق إلهي في الحكم لأنها سلالة قرشية عدنانية. وكانت ترى عدم الحق لأي سلطان ليس من السلالة ذاتها ولو كان عربيا فكيف لو كان تركيا أو كرديا. وفوق هذا وذاك فإن حب السلطة، والتسلط صفة بشرية لازمة يستوي فيها الأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، ولذلك فقد انطلقت ما يسمى بالثورة العربية الكبرى ضد تركيا بزعامة الشريف حسين الذي وعد من بريطانيا وحلفائها بالدعم، وتولى السلطة في الشعوب التي ستتحرر من تركيا. ولم تكن يومئذ لألمانيا سيطرة مائية على الممرات الآمنة، وكانت بريطانيا المسيطر الأول على المضايق والممرات البحرية الآمنة، وبالتالي فهي تحتكر السلامة، والأمن للملاحة الخاصة بها دون الآخرين، وكانت هذه القشة التي قسمت ظهر البعير واكتسبت الدولة التركية الموقف الألماني حيث سمحت تركيا لألمانيا بحق التمتع الأمني والملاحي عبر كافة الممرات الدولية التي تسيطر عليها تركيا، وكانت هذه الخطوة أولى المؤشرات لتكوين دول المحور.

وفعلا قامت الانتفاضات الشعبية ضد تركيا في الأقطار العربية التي كانت ما تزال خاضعة لها، وبدعم بريطاني قوي، وكان الشريف حسين طاووس الحلفاء، ورمز الثورة العربية الكبرى التي كانت في حقيقتها شبيهة بحركة أحمد الحلبي المعارض للنظام العراقي المرافق للحملة الأمريكية خلال الغزو الأمريكي، وشبيهة بحركة البشمرجة الكردية في شمال العراق، ولم يكن لها دور حقيقي عسكري سوى جذب أنظار الشعب العربي إليها ليقتنع بأن ما يجري من حرب ضد تركيا إنما هو تحرير لها تحت شعار الثورة العربية الكبرى…

وما أشبه الليلة بالبارحة، مع فارق كبير في آلية السيطرة والإعلام والهدف إلا أن الإرادة الاستعمارية واحدة..

واندلعت الحرب العالمية…

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.