جميل راتب.. رحلة فنان عالمي من خشبة المسرح الفرنسي إلى قلوب المصريين

كتب: هاني سليم

يحل اليوم الجمعة ذكرى وفاة الفنان الكبير جميل راتب، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم من عام 2018، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا وإنسانيًا جعل منه واحدًا من أهم الأسماء في تاريخ الفن المصري والعربي. لم يكن مجرد ممثل بارع يجسّد الشخصيات، بل كان مدرسة قائمة بذاتها، جمعت بين الثقافة الأوروبية والروح الشرقية، فقدم نموذجًا للفنان المثقف الواعي الذي يعي قيمة الفن ودوره في المجتمع.

الميلاد والبدايات.. ملامح مختلفة منذ الطفولة

وُلد جميل راتب في القاهرة عام 1926 لأسرة مصرية ميسورة الحال. منذ طفولته، ظهرت عليه علامات التمرد على التقليدية وحبّه للفنون، إذ انجذب إلى المسرح والسينما باكرًا، وبدأ حلمه يكبر معه حتى صار هدفًا يسعى لتحقيقه. كان يتمتع بملامح أوروبية الطابع وصوت جهوري مميز، ما جعله مختلفًا عن أقرانه منذ الصغر، وكأن ملامحه كانت تهيئه ليلعب أدوارًا مركبة في المستقبل.


الدراسة في فرنسا.. والاحتكاك بالمسرح الأوروبي

لم يكتف راتب بالدراسة التقليدية، بل سافر إلى فرنسا ليخوض تجربة فنية حقيقية هناك. التحق بعدد من الفرق المسرحية وشارك في عروض نالت إعجاب النقاد والجمهور. هذه الفترة لم تكن مجرد محطة دراسية، بل كانت بمثابة التأسيس الحقيقي لثقافة مسرحية عميقة. احتك بتيارات فنية وفكرية متعددة، واطلع على مدارس التمثيل الأوروبية، فصقل أدواته وأصبح ممثلًا عالمي الثقافة.

العودة إلى مصر.. البداية الصعبة والانطلاقة الحقيقية

عقب عودته إلى مصر في خمسينيات القرن الماضي، حاول جميل راتب أن يجد لنفسه مكانًا في الساحة الفنية، لكنه واجه صعوبات في البداية، ربما بسبب ملامحه المختلفة ولهجته المتأثرة بسنوات الغربة. إلا أن إصراره لم ينكسر، حتى جاءت السبعينيات لتفتح له أبواب النجاح.

“الصعود إلى الهاوية”.. محطة تألق مفصلية

كان فيلم الصعود إلى الهاوية (1978) بمثابة الانطلاقة الحقيقية له، إذ قدّم فيه شخصية ضابط المخابرات الإسرائيلي بمهارة أبهرت الجمهور والنقاد على حد سواء. قدرته على تجسيد شخصية مركبة بهذا العمق جعلته من الأسماء البارزة التي لا تُنسى. ومن هنا بدأت مسيرة النجومية الحقيقية لراتب، الذي صار الخيار الأمثل لأدوار الشر والسلطة والدهاء.


بصمة خاصة في أدوار الشر

لم يكن جميل راتب شريرًا تقليديًا على الشاشة، بل أضاف بعدًا إنسانيًا للشخصية الشريرة، فكان المشاهد يتعاطف معها أحيانًا رغم قسوتها. امتلك حضورًا طاغيًا وصوتًا عميقًا يترك أثرًا في الذاكرة، فظل المشاهد يتذكره حتى بعد انتهاء العمل. ومن أبرز أدواره في هذا الإطار: الكيف، الكيت كات، شفيقة ومتولي، والبركان.


أعماله في السينما والتليفزيون

شارك جميل راتب في عشرات الأفلام والمسلسلات، وتنوّعت أدواره بين الدراما التاريخية والاجتماعية والسياسية. ومن أبرز أفلامه:
• الكيف (1985): حيث جسد شخصية تاجر المخدرات المثقف.
• الكيت كات (1991): مع محمود عبدالعزيز، وقدم شخصية الحاج هريدي.
• شفيقة ومتولي (1978): إلى جانب سعاد حسني وأحمد زكي.
• جحيم تحت الماء (1989).
وفي الدراما التليفزيونية، لا ينسى الجمهور أدواره في مسلسلات مثل: الراية البيضا، أين قلبي، أرابيسك، وزمن عماد الدين.
جميل راتب والمسرح.. عشق لم ينطفئ
رغم انشغاله بالسينما والتليفزيون، ظل المسرح بالنسبة له عشقًا خالدًا. شارك في العديد من العروض المسرحية، مؤكدًا أن المسرح هو “أب الفنون” والقاعدة التي ينطلق منها أي ممثل حقيقي.

الجوائز والتكريمات

نال جميل راتب خلال مسيرته العديد من الجوائز والتكريمات داخل مصر وخارجها، تقديرًا لعطائه الكبير. وقد اعتبر أن التكريم الحقيقي هو محبة الجمهور التي ظل يشعر بها حتى آخر أيامه.

الجانب الإنساني في حياته

بعيدًا عن الأضواء، كان جميل راتب إنسانًا شديد التواضع، لا يتعامل مع شهرته كامتياز، بل كان يرى أن الفنان خادم للجمهور. اشتهر بثقافته الواسعة وآرائه الصريحة، وكان حاضرًا في القضايا الإنسانية والاجتماعية، معتبرًا أن الفن رسالة لا مجرد مهنة.

المرض والرحيل

في سنواته الأخيرة، عانى جميل راتب من متاعب صحية أفقدته صوته جزئيًا، لكنه ظل محتفظًا بابتسامته وهدوئه. وفي 19 سبتمبر 2018، أسدل الستار على حياته عن عمر ناهز 92 عامًا، تاركًا خلفه فراغًا كبيرًا في الساحة الفنية.

إرث خالد

رحيل جميل راتب لم يكن نهاية لمسيرته، بل بداية لتخليد ذكراه. فما تركه من أعمال عظيمة يظل شاهدًا على موهبة فذة وثقافة رفيعة. وفي كل ذكرى لوفاته، يستعيد جمهوره حضوره الطاغي وصوته المميز، وكأن الزمن لم يمضِ.

المزيد: لبلبة تشعل افتتاح ملتقى «أولادنا» التاسع: ليلة الفن والإنسانية في دار الأوبرا

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.