حالة رعب قصه قصيره بقلم رشا فوزي

حالة رعب
و فجاءة أصبحت أسير في دربي بمفردي يحتضنني الظلام بوحشية ، و العجيب في الأمر أنني لم أكن خائفة
فقد كنت أنا من تشع عيناه و تنير في الظلام!
———————-
لم تكن أُمنية أبنة عمي يوما طفلة عادية أو طبيعية ،مازلت أذكر عهد طفولتنا معا عندما كانت هي في الخامسة و كنت أنا في السادسة و قد جمعتنا ألعاب الطفولة لتقطع هي اللعب و تنظر إلى الفراغ برهة و كأنها تنصت لشئ أو أحد ما ثم تند عنها ضحكة قصيرة تعقبها بالألتفات إلى قائلة:
– أنهن يردن اللعب معنا!
– من هُن أُْمنية ؟!
– هُن!
و تشير إلى لللاشئ بسبابتها فيرتعد جسدي الصغير و أهرع إلى حضن أمي باكية مرتجفة خوفا.
فُسّرت أفعالها في بداية الأمر على أنها طفلة واسعة الخيال قد أبتكرت لها أصدقاء خيالين و هذا شائع بين الأطفال و أنها ستتخلى عن خيالاتها بمرور الوقت.
لكن هذا لم يحدث على العكس فقد كبرت المشكلة و تفاقمت مع تقدمنا في العمر فمع تخلينا عن ثوب الطفولة و أستقبالنا لمرحلة المراهقة كانت أمنية في أغلب أوقاتها شاردة زائغة البصر و إذا أنتبهت نجدها تنظر إلينا بأعين متوجسة خائفة و قد نجدها فجأة تصرخ واضعة كفيها على أذنيها ثم متوسلةبصوت متشنج غارق في النحيب
– أرجوكن كفى لا أريد أن أعرف لا أريد أن أسمع لا أريد .. لا أريد!
كانت ليالينا معها كوابيس دائمة لا ينقطع فيها صراخها إلا بالمهدئات فقد كانت تلك الطريقة الوحيدة لجعلها تتوقف عن الصراخ و تنام.
أما عمي – والدها- رجل الأعمال الثري و الشهير جدا، فقد أنفطر قلبه حزنا عليها فهي أبنته الوحيدة و التي جاءت بعد أنتظار دام لأعوام طويلة و هو الذي أسماها أُمنية ، كان شديد التعلق بها و كذلك كانت هي فعلى الرغم من معاناتها
كانت تشعر بحبه و تدركه حتى أنها في حالات فزعها و هياجها لم تكن تركن إلا إليه مختبئة بصدره تجهش ببكاء مرير بينما جسدها يرتجف بين يديه.
حتى مات عمي فجأة! مازلت أذكر يوم موته كنا أنا و أمنية في الحديقة، كنت أجلس إلى جوارها أرقبها غارقة في شرودها ذاهلة عما حولها كعادتها إلا أن وجهها كان شاحبا شحوب الموتى و إذ بها بغتةً تقبض على معصمي بعنف بيدين باردتين كالثلج و تشرع في الصراخ بكل ما أٌتيت من قوه صراخ كالعويل متواصل بلا توقف حتى هرع إلينا الجميع يحاولون تهدئتها دون فائدة و فجأة تشنج جسدها أخذا في الأرتجاف بشدة و كأنما دخلت في إحدى نوبات الصرع مما جعلنا نحقنها بالمهدئ و نسارع في إبلاغ طبيبها الذي يباشرها ليأتي إليها ،و في هذه الأثناء لاحظنا عدم ظهور عمي رغم حالة الهرج و المرج التي سادت الفيلا و صوت صراخها الذي أهتزت له الأرجاء و قد كان هو أول من يهرع إلى أُمنية في مثل هذه النوبات كما أنه لم يكن بالخارج ، فذهبنا نبحث عنه حتى وجدته زوجة عمي مغشيا عليه في مكتبه ثم تبين فيما بعد أنه قد فارق الحياة و قد قيل لنا وقتها أن سبب و فاته أزمة قلبية مباغتة و هو سبب لم أستسيغه فهو لم يشكو يوما من أي شئ !
بعدها أزدادت حالة أُمنية تعقيدا وعوضا عن طبيب واحد أصبح لديها جيش من الأطباء في مختلف التخصصات و بالذات النفسي ولكن هذا كان دونما فائدة تذكر!
ثم فوجئنا بقرار أبي و زوجة عمي بالزواج و هل أخبرتكم أن أمي توفيت و أنا في سن العاشرة مما جعلني أعيش مع عمي و زوجة عمي بينما أبي كان يعيش مرتحلا بين البلدان و الدول!
و قد بررا قرارهما برغبتهما في لم شتات عائلتنا و الحفاظ على ثروتها من شركات و أعمال تجارية.
تقبلت القرار على مضض بينما أمنية لحظتها كانت واجمة ذاهلة و كأنها لم تسمع ما قيل إلا و فجأة تنتفض من على مقعدها و قد أتسعت عيناها هولا و رعبا صارخة في وجوهنا بينما تمزق ثوبها بكلتا يديها
– ثعبان ! ثعبان أسود تسلل داخل ثيابي أنقذوني ! أنه يزحف على جسدي أغيثوني!
و بينما هي في حالة الهياج تلك قد
مزقت ثيابها مكررة بصوت متهدج أن ثعبان أسود يزحف على جسدها متوسلة إلينا نجدتها إذ بها تنقض على والدي ممسكة بذراعيه بكل قوتها لتتخلى عن هياجها فجأة ، تنظر له بأعين شاخصةو تقول بصوت رفيع حاد غريب عليها :
– ثعبان أسود !
فتسقط بعدها فاقدة للوعي عند أقدام والدي.
بعد هذه الحادثة أتخذ أبي قرارا حاسما بنقل أمنية إلى إحدى المصحات النفسية الخاصة مقنعا زوجة عمي بأن هذا هو الأفضل و الأصلح لها و العجيب أنها أقتنعت دون مجهود.
بعد أمنية شعرت بالوحدة القاتلة خاصة و قد بدى أن جميع أهل المنزل أتخذوا قرارهم بإلقاء حملها عن كاهلهم في بئر النسيان، بالأضافة إلى تلك الهوة التي كانت بيني و بين والدي و شعور البرود المتبادل بيننا ، كل ذلك دفعني يوما أن أعلن رغبتي بالعيش مع أخوالي بأمريكا
و لم أستغرب سرعة موافقة أبي بل و ترحيبه بذلك،
التي حزنت و توسلت بقائي هي زوجة عمي لكنني كنت قد حسمت أمري و سافرت….
و ها قد مرت عشر سنوات أصبحت فيها طبيبة نفسية ناجحة وقد ألقيت بالماضي خلف ظهري ظنا مني أنه مات
إلا إن مكالمة تليفونيةوردت لي من زوجة عمي -و التي أصبحت زوجة أبي – منذ يومين أكدت بأن الماضي مازال حي يرزق وقد يتحول إلى حاضر كئيب نتخبط بين جدرانه.
كانت المكالمة مفادها أن الكيل قد طفح بعد أن حاولت أمنية الأنتحار عدة مرات و قد تخلت عنها المصحة تخوفا من المسؤولية معلنة أن حالتها ميئوس منها .
كما أنها تشكل خطرا على نفسها و على باقي الحالات المتواجدة بالمصحة
مما أرغم والدي على أستقبالها مرة أخري في منزله على مضض فعادت و عادت معها حالة الرعب الدائمة التي كان يعيشها كل المحيطين بها مما دفع بزوجة أبي الأتصال بي مستنجدة.
و ها أنا ذا أضع قدمي في أول طائرة عائدة إلى بلدي ، عائدة إلى أمنية رفيقة الطفولة و المعاناة.
—————
أستقبلتني زوجة أبي بلهفه حقيقية ، أحتضنتني بقوة و أنهالت علي بالقبلات و عيناها تلمعان بفرحة غامرة غير مصدقة أن الطفلة التي كانت ترتع بين أحضانها صارت فتاة ناضجة بارعة الجمال من وجهة نظرها أما أبي فقد أستقبلني بفتوره المعتاد ثم أستأذن لأنشغاله بالعمل :و قد أدركت أن أستدعائي لم يكن على هواه لكن أنا و زوجة أبي تجاهلنا موقفه و أمام حرارة أستقبالها لي ذابت جبال أبي الجليدية غير مبقية لها على أثر في نفسي.
و بعد الغذاء جلست أنا و هي في الحديقة جلسة حميمية متوجهه لي بحديث أصطبغ بصدق العاطفة:
– انت لا تعلمين مقدار فرحتي بكِ صغيرتي و قدصرتِ عروسا رائعة.
ثم وهي تنظر إلى الأرض:
– على الأقل إحداكن وصلت إلى بر الأمان!
ألتزمت الصمت و أنا أرقبها بتمعن فنظرت هي إلى عيناي برهة و كأنما تحاول سبر أغواري فأذ بعينيها تلمع بالدموع و هي تقول:
– لك الحق في أن تشكِ في حبي لأمنية
فأي أم تلك التي تترك أبنتها المريضة و تتزوج ، ثم تلقي بها في مصحة لترتاح من عناء مرضها لكن يعلم الله أنِ أحببتها أيما حب و كيف لا وهي فلذة كبدي و أمنية من أمنيات حياتي التي تحققت!
قالتها و قد تهدج صوتها بينما تساقطت قطرات الدموع ساخنة من عينيها جعلتني أشعر بالشفقة عليها فلم يسعني إلا أحتضانها مواساة لها و قد أحبت هذا مني فنظرت لي بود و دفء بينما أبتسامة هزيلة بزغت بأستحياء على وجهها الباكي و هي تقول :
– عندما أتيت للعيش معنا بعد وفاة والدتك أعتبرتك تعويضا إلاهيا لي عن معاناتي مع أمنية و قد كنت و لازلت تشبهين والدك في كثير من ملامحه.
و هناشعرت ببرودة تهبط على قلبي جعلتني أعتدل في جلستي مبتعدة عنها حيث عاودني الشعور بالجفاء تجاهها مرة أخرى.
سألتها بغتة متجاهلة حديثها:
– حدثيني عن طفولة أمنية!
نظرت إلي متفاجئة ثم قالت بأرتباك:
– لقد كنت رفيقة طفولتها فلا يوجد ما أحدثك عنه.
– ماذا حدث لأمنية عندما كانت بعمر العام؟!
– بعمر العام !هل تقصدين عندما أصيبت بالنزلة الشعبية .
– نعم
– كانت قد تجاوزت العام ببضعة أشهر و قد أصيبت بنزلة شعبية حادة أرتفعت معها درجة حرارتها فوق الأربعين ، فشل الأطباء و الأدوية في خفض درجة تلك الحرارة بل و كانت تزداد حتى أنهم أضطروا لوضعها عارية في حوض مملوء بالثلج و قد كانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة ، و لكن بعد بضع دقائق وجدنا إحدى الممرضات تهرول إلى الطبيب المسؤول مبلغة إياه بأن نبض الطفلة قد توقف فهرولنا جميعا إليها لنجدها قد أصطبغت باللون الأزرق مطبقة العينين في سكون تام فشرعت في النحيب و العويل بينما الطبيب يمسك بأمنية و هو يأمر الممرضات بأخراجي من الغرفة ، خرجت بينما ظل عمك معهم رافضا الخروج ، أتذكر جيدا جلوسي بجانب باب الغرفة ذاهلة غير مصدقة أني فقدتها و دموعي تغرق وجهي و ملابسي و إذ بي أسمع صوت بكاءها يتردد في الأرجاء عاليا حادا معلنا عن عودتها إلى الحياة من جديد مصحوبا بتهليل عمك بصوت متهدج :
– الله أكبر الله أكبر لقد عادت للحياة بفضل الله.
لقد أخبرنا الطبيب وقتها بأنها معجزة و …
قاطعتها قائلة:
– إذن هي فارقت الحياة ثم عادت إليها!
– ما قاله لنا الطبيب أن قلبها توقف و كذلك تنفسها لبضع ثوان فقط و ان الامر لم يتعدى الدقيقتين بحد أقصى لكنه أستخدم جهاز الصدمات الكهربائية لأنعاش قلبها و إعادتها للحياة كمحاولة يائسة منه إلا أنها فاجئت الجميع بإستجابتها .
-و أين أُمنية الآن؟!
-في غرفتها !
-سأصعد إليها ، بمفردي!
أردفت حينما وجدتها تهم بالصعود معي.
دلفت إلى غرفة أمنية لأجدها مسجاة على فراشها كتمثال خالي من الحياة ببشرتها الشاحبة و أعينها الشاخصة في السقف لا تند عن مقلتيهما أي حركة و كأنهما متجمدتين و يدين متصلبتين راقدتين على جانبيها بلا حراك، أقتربت منها أتسمع نبضات قلبها و أستشعر تنفسها فجاءا إليّ بوهن و ضعف يخبراني على أستحياء بأنها مازالت على قيد الحياة ، طافت عيناي بملامحها التي كانت تؤكد لي العكس ،
تؤكد بأن تلك المخلوقة التعسة أضحت جسدا بلا روح.
جثوت بجانب فراشها هامسة في أذنيها بينما أناملي تداعب وجنتها الباردة :
-طالما كنا معا في هذا الطريق الطويل المظلم و قد جئت اليوم لأبلغك أنه قد شارف على النهاية!
لم يند عنها أي حركة تدل على شعورها بوجودي أو سماعها لحديثي لكني أكملت هامسة لها على الرغم من ذلك:
-أنا أعلم من أين جاءن أْمنية!!
هنا فقط سرت في عينيها الحياة و حانت منها إلتفاتة متوجسة ناحيتي بينما أنظر لها بثبات و أنا أتابع:
– هل تذكرين تلك القصة التي أعتاد عمي أن يحكيها لنا في صغرنا عنك و معجزة رجوعك من عالم الاموات عندما كنت رضيعة.يبدو عزيزتي انكِ لم تعودي منه وحدك! انتفضت أمنية في فراشهاو قد دبت فيها الروح تتعلق بيدي كما يتعلق الغريق بقشةبينما أغرورقت عيناها بالدموع .
أبتسمت لهافي حنان و أنا أقول لها بنبرة يكسوها العطف:
– حبيبتي الغالية، كل ما علينا فعله معرفة ما يبغين منكِ!
هنا غزت وجههاعلامات الذعر و الخوف من جديد
إلا أنني عدت إلى نبرتي الحازمة المطمئنة:
– لا تخشي شيئا عزيزتي ،نعم أخبرهن بأني مستعدة للمواجهة معكِ و أنك لم تعودي بمفردك في هذا الدرب المظلم!
——————
حفل زفاف بألوان زاعقة تثير الكآبة أكثر مما تثير الفرح و بثوب الزفاف أقف إلى جواره يكتتنفني وجوم مختلطا بحزن أتأمل شامته الراقدة بجانب سالفه الأيسر ثم أجول بعيني باحثة عن شئ ما حتى أجد ضالتي ، أنه أبي يقف بالقرب من مخرج بلا باب يخلفه ظلام ، مُشيرا إليّ أن أقبل و العجيب أنني كنت فرحة جدا لرؤيته ، هرولت إليه لأجد ذلك المخرج في أستقبالي..
بخطوات مترددة أجتزته لأغرق في ظلام لا يمنعني من رؤية ما يحيط بي فقد أبصرت بوضوح سلما رخاميا ممتددا أمامي إلى مالا نهاية و قد كساه ماء أسن و أبي يحاول نزح الماء و هو يدعوني للهبوط ، أذعن له لكني ما إن أهبط حتى يصبح الماء الأسن مخضبا بدماء ليدنس ذيل فستاني الأبيض تماما فتذوب زهوة بياضه بين لون العطن و الدماء بينما أبي على حاله منهمكا في النزح يحثني على الأستمرار في الهبوط غير مبالي بما يصيب ذيل ثوبي الأبيض و كلما هبطت درجة أجد أبي أمامي ينزح الماء الأسن المخضب بالدماء بلا كلل و يزداد ذيل ثوبي تلطخا ،و قد بدا الأمر أنني سأظل أهبط إلى الأبد إلا أن أبي فجأة أمسك بيدي و جذبني بيدين مصبوغتين بالدماء من على الدرج و هو ينظر لي نظرة أرعبتني ثم أفلتني ليبتلعه الظلام و لأجد نفسي أمام مخرج أخر تدخل منه أشعة الشمس جليةوقبل أن أخرج حانت مني ألتفاته إلى شئ لامع و كبيربجوار ذلك المخرج.. إنها مرآة تلك التي كنت أنظر إليها بتمعن لكنها لم تكن تعكس صورتي بثوب الزفاف المخضب ذيله بالدماء بل تعكس صورة…..
– زوجة أبي!!
– أميرة حبيبتي نعم إنها انا ماذا أصابك و لم كنت تصرخين؟!
بسرعة أدركت ما حدث و أزدرت ريقي مع أضطرابي و أنا أتدارك الموقف
– مجرد كابوس !
دثرتني بالأغطية بعد عناق دافئ حاولت أن تبث من خلاله الطمأنينة إلى قلبي
و قبل أن تغادر غرفتي وجدتني أسألها سؤالا قفز إلى ذهني بغتة :
– هل كان لعمي شامة بجانب سالفه الأيسر.
توقفت ناظرة إليّ بتعجب من سؤالي ثم قالت
– نعم حبيبتي، هل نسيتِ!
ثم أردفت:
– لكن لم تسألين عن شيء كهذا الآن؟!
أجبتها و قد أشحت بوجهي حتى لا تلمح كذبتي في عيناي:
– يبدو أنه أستوحشنا و يرغب في أن نزوره في قبره.
وجمت زوجة أبي لجملتي برهة ثم أسرعت تقول بصوت خفيض تتخلله غِصة :
– فيكِ الخير أميرتي ، سنفعل إن شاء الله.
————
– لا تنسي نحن في هذا الطريق معا!
أبتدرتها بصوت مشجع و أنا أنظر في عينيها لأبث الثقة في نفسها بينما نمشي بهدوء خارج غرفتها و قد تعلقت هي بيدي كطفلة في حين عينيها تمسحان المكان متوجسة شيء بعينه و قد حدث ما كانت تخشاه إذ أقبلت زوجة أبي مهللة و قد أنفرجت أساريرها عن أبتسامة أشرق لها وجهها لرؤية أمنية تخرج من غرفتهاإلا أن الأخيرة لم تكد تراها حتى أرتعش جسدها و كأنما أحتاجه زلزال و قد تصلبت عيناها على والدتها و أطبقت شفاها و هي تزوم بصوت ترتعد له القلوب في حين زوجة أبي تجمدت في مكانها من هول المفاجأة و قد غرقت ملامحها في الرعب و الذهول
و قبل أن يتفاقم الموقف كنت قد صرخت على زوجة أبي بأعلى صوتي آمرة إياها بالأبتعاد عن المكان و بالفعل أسرعت في الأختفاء لتهدئ أُمنية رويدا رويدا ثم تلتفت لي ببقايا رعشة تخالج صوتها و جسدها قائلة:
– كلما رأينّها ألتففن حولها و هن يزومن بأصوات كالحيوانات الحبيسة بينما عيونهن تبكي دما!
أحتضنتها أربط على كتفها لأهدئ من روعها
و ما ان أستقررنا على إحدى كراسي الحديقة حتى سألتها
– كم عددهن؟
-خمس
– ماذا يردن منك؟
تطلعت إلى وجهي بخوف دون أن تتفوه ببنت شفه إلا إنني أعدت سؤالي بإصرار
– ماذا يردن منكِ أمنية؟
-أن أذهب معهن!
قالتها بصوت باك مرتعش بينما تمتمت أنا:
– كما توقعت!
غرقت مع أفكاري داخل نفسي إلا أني سرعان ما أنتبهت على صوت أصتكاك قدمي أمنية بالأرض و قد تعلقت عيناها بشيء ما خلفي ، لم أكلف نفسي عناء الألتفات بل سألتها بفتور:
– أبي؟!
– بل أبي!
أجابتني و هي تبتسم ليرتعد جسدي رعدة خفيفة و أنا ألتفت بسرعة إلى حيث تنظر بينما تجتاح أطرافي و قلبي برودة و أنا أحملق في الفراغ برهة أقول بعدها بحزم مخاطبة أمنية:
– علينا العودة لغرفتك !
—————–
في حجرة مكتب عمي جلست أتأمل صور العائلة المعلقة على الحائط بشموخ بينما أناملي تداعب ألبوم صور أسود صغير راقد بوداعة على قدمي كنت قد انتهيت لتوي من تصفحه …
أَخْوان هما أساس تلك العائلة و أساس مجدها و نجاحها و ثروتها عملا معا منذ البداية بانسجام و توافق تام حتى جاء وقت تسليم الراية و القيادة للجيل التالي و قد أنجب أكبرهما ولدين بينما الأصغر لم ينجب سوى فتاة واحدة لكنها آية من آيات الحُسن و الجمال و من الطبيعي أن يتجه التفكير إلى تزويجها من أحد أبناء عمها و تحديدا الأكبر هذا بديهي….
يقطع تأملاتي صوت طرقات على الباب:
-من؟!
– أنا!
صوت زوجة أبي الخفيض و الهادئ جاءني من خلف الباب لأذن لها بالدخول
فتقول و هي تدلف من باب الحجرة:
– ما الذي يبقيكِ في هذه الحجرة وحدك أميرتي ؟!
اجبتها و نظرة غامضة تطل من عيني
– أجالس الأشباح !
و عندما رأيتها قد أُخِذت بما قلت تداركت موضحة :
– أقصد الذكريات فكم تخبرنا صور الأبيض و الأسودبحقائق قد تُخفى عنا في واقعنا الغارق في الألوان الكاذبة!
أقبلت علي بلهفة حقيقية:
– أميرتي ما خطبك؟
نظرت إليها متفحصة بجفاء متجاهلة نظرات العطف و الأهتمام التي تصبغها علي و بصوت جاف خلا من أي تعاطف باغتُها بسؤالي:
-لماذا قبلتِ بالزواج من عمي على الرغم من حبك لأخيه الأصغر؟!
بُْهتت المرأة و تجمدت في مكانها ثم و بصعوبة بالغه فتحت فمها لتقول بلسان ثقيل متلعثم :
– ما هذا الذي تقولينه أميرة؟
أخرجت صورة كنت أُخبئها في قلب الألبوم و أنا أقول :
– هل تدركين أ ن لهذه الصورة أخت توأم تقبع في منزل قائم في الجهة الأخرى من العالم بالتحديد في أمريكا حيث عشت معها عشر سنوات من عمري أتأمل تفاصيلها و أتسائل يا ترى تلك الفاتنة التي تتوسط باسمة هى و أمي ثلاث شباب يتطلعون إليها، أيهم أستطاع الفوز بقلبها؟!
هل هو الشاب المرشح بقوة لتملك زمام الأمور لما عُرِفَ عنه من ألتزامه و تحمله
المسؤولية
أم الوسيم الجرئ الماجن الضارب بكل التزام او قانون عرض الحائط بينما تضج المدينة من مغامراته و أخبارة و تتابعها بشغف كنجوم السنيما
و أخيرا الخجول المجتهد و المتفوق دراسيا الذي يستطيع أن يلقي محاضرة كاملة عن أحدث تقنيات تلقيح البويضة أمام علماءالعالم من شتى الأجناس بينما يتلعثم أمام عينيها كلما أراد أن يفصح لها عن حبه!
نظرت لي بأعين دامعة تتوسلني الرحمة لكنني أبيت إلا أن أكمل بلا شفقة:
– خالي هل تذكرينه؟!
إبن صديق والدك طبيب النساء الناجح و الذي فطنت منذ الوهلة الأولى لحبه لكِ فأستغللت ذلك إيما أستغلال…
-أصمتي أميرة !
صرخت بصوت قلب تُنكئ جراحه
– أخبرني كيف ساعدك في إجهاض بناتك الخمس
-أصمتي!
– و لماذا الإجهاض زوجة أبي؟!لأنهن حمل سفاح من أبي ،أليس كذلك؟!
-من فضلك كفى!
قالتها بصوت مكسور أمام الحقيقة-حقيقتها البشعة
أمرأه تضاجع أخين في الوقت ذاته الأصغر إرضاءا لشهوة القلب و الأكبر إرضاءا لحسابات العقل
– حساباتهم هي التي أجبرتنا أنا و والدك أن نسلك ذلك الطريق كنا مرغمين …
قاطعتها بقسوة :
-حساباتهم أم أنانيتكما أنتِ و أبي التي أبت إلا الحصول على كل شيء الثروة ،السلطة ، الحب و الشهوة ، أليس كذلك زوجة أبي أم أناديك أمي؟!
جحظت عيناها محملقة بي غير مصدقة لما سمعته مني.
– نعم أخبرني خالي بهذا أيضا عندما أكتشفت بالصدفة أن أمي عقيم و عندما واجهته لم يكن أمامه خيار سوى إخباري بتلك الحقيقة المخزية!
أنا أيضا بنت سفاحك مع أبي !….
أما أمي المسكينة التي لم يكن لها ذنب سوى وقوعها في حب ذلك الماجن الذي لا مكان لها في قلبه الممتلئ بحب ذاته و إمرأة لا تقل عنه مجون و أنانية،
قد زاد أنكسار قلبها بحقيقة عُقمها فتقبلت واقعها المرير تتجرعه في صمت ، زوجة رجل هو كل حياتها و هي لا شيء بالنسبة له متيما بعشق أخرى هي أعز صديقاتها و أم لطفلة ليست طفلتها بل هي نتاج خيانة زوجها لها !
لا أتعجب كونها رحلت في ريعان شبابها و لم تكن تبث همها إلا لصفحات مذكراتها.
– أرحميني أميرة أُقبّل يديكِ و قدميكِ !
-و من رحمتي انتِ أو أبي
هل رحمتما عمي عندما خطتما معا لقتله
ليخلو لكما الجو في البيت و في الشركات بعد وفاة كبار العائلة رغم علمكما بحاجة أُمنية الماسة له و تعلقها به.
هل رحمتما خمس أرواح زُهقت بلا ذنب جنته،
و أُمنية المسكينة التي قُدِمت حياتها قربانا لشيطانكم الذي سول إليكم سوء أعمالكم و التي لم تحظى يوما بحبك أو عطف حقيقي منكِ لماذا ؟! لأنها الوحيدة التي أنجبتها من عمي ، كنت متأكدة من هذه الحقيقة لذلك لم تقدمي على قتلها مثل الأخريات و أبقيتها لتكن لكِ درءا للشبهات و إلهاء لعمي عنكِ و عن أفعالك و نواياكِ الشيطانية انت و أبي….
هنا تَوجهّت لي بغضب و بأعين تحرقها الدموع قالت:
– بل رحمتك من مصير أخواتك و قد أردتك بشدة.
– أردت ثمرة حب محرم و علاقة آثمة أسميتماها انتِ و أبي في عرفكما عشقا و هوى ، ما كان يجب لكِ الأبقاء عليها.
وهنا أصطدمت بصوت أبي يأتي من خلفي :
– معك حق! ، ما كان يجب الأبقاء عليكِ أخبرتها ذلك لكن تبا لقلوب النساء !
و الآن أعتقد أنه أنسب وقت لتصحيح هذا الخطأ.
قالها و هو يتقدم نحوي و قد تراقص الشر في عينيه و أرتسمت نيته بالتخلص مني جلية على ملامح وجهه إلا أن أمي أنتفضت من مكانها مسرعة لتحول بينه وبيني صارخة:
– هل جننت إنها أبنتنا لا تفكر حتي، لن أسمح لك أفق أرجع لعقلك أرجوك!
فما كان منه إلا أنه دفعها من أمامه بقوة غير آبه لصراخها ثم أقبل علي عاقد العزم بينما أنا أقف كتمثال خالي من الحياة مستسلمة لمصير تمنيته كثيرا و بينما هو يقبض بكل قوته على عنقي كانت أمي تمشي بهدوء عجيب و كأنها مسيرة لتمسك بآنية ورد أثرية و ثقيلة ،في لحظة كانت تضرب بها رأسه ليتهشما معا الآنية و رأس أبي فيسقط أرضا مفارقا الحياة بينما هي تجلس إلى جانبه ذاهلة عما حولها و قد ذهب عقلها معه و أنا أحاول إستعادة أنفاسي ناظرةبأعين دامعة لهما لأكتشف أنه سقط ميتا في نفس المكان الذي وجدنا فيه عمي ميتا!
—————–
و بعد مرور بضعة أشهر على وفاة أبي و إيداع أمي في مصحة للأمراض العقلية
أستقرت أحوال هذا البيت للمرة أولى منذ زمن طويل و أستقرت معها حالة أُمنية النفسية و الصحية و قد أتفقنا أنا و هي على الذهاب في رحلة سياحية طويلة لتقضي فيها فترة نقاهتها بعد ما أنتهت حالة الرعب الدائمة التي كانت تسيطر على حياتنا جميعا و بينما كنا نحزم حقائبنا معا قلت لها مداعبة :
– هل تذكرين عندما أخبرتك أن متاعبك أوشكت على النهاية؟!و أننا في هذا الدرب معا!
أجابت بأعين باسمة
-نعم أذكر.
– هل تثقين بي ؟!
-دوما أميرة!
-و ماذا عن فتياتك الخمس؟!
-رحلن.
قالتها و هي تلتفت لحقيبة سفرها تتأكد من تمام حزمها
هنا كست وجهي ملامح الجدية و أنا أجذبها ناحيتي لتتلاقى عيناي بعينيها المملوءة بالدهشة من تصرفي المفاجئ بينما أقول لها بصرامة:
– كيف ذلك وأنا مازلت أراهُن!

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.