رمضان كما عاشه الصحابة.. دروس تاريخية في الإيمان والطاعة
بأخلاقهم اهتدينا: الجزء الرابع بقلم: ريهام طارق
تبقى أخلاق الصحابة تجسيد حي لتعاليم الإسلام في أنقى صورها، ونموذج خالد يقتدي به كل من يسعى إلى الكمال الإيماني والسمو الأخلاقي.
بقلم: ريهام طارق
في هذا الجزء الرابع من سلسلة “بأخلاقهم اهتدينا”، نغوص في صفحات التاريخ نستلهم من مواقفهم دروسا خالدة في الصدق، الإيثار، الحلم، والوفاء، حيث كانت سلوكياتهم مدرسة حية تعلم الأجيال معنى الإيمان المترجم إلى أفعال.
لم يكن الصحابة مجرد حملة رسالة، بل كانوا تجسيدا عمليًا لمبادئ الإسلام في أسمى معانيها، صبروا في مواجهة الابتلاء، وبذلوا أموالهم حبا لله، و عفوا عمن ظلمهم امتثالا لقوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور: 22).
لم يكونوا دعاة بالكلام فقط، بل جسدوا أعظم رسالة دعوية بأسلوب تعاملهم وسماحة قلوبهم، فكانوا سببًا في انتشار الإسلام وتأثيره العميق في النفوس.
اقرأ أيضاً: بأخلاقهم اهتدينا الجزء الثاني أمسك عليك لسانك .. بقلم ريهام طارق
رمضان.. مدرسة للطاعات لا تتكرر إلا مرة في العام:
كان شهر رمضان عند الصحابة موسم يزهر فيه الإيمان و تتعاظم فيه الطاعات، فكانوا يستقبلون رمضان بقلوب معلقة بالسماء وأرواح مشتاقة لمرضاة الله، يحيون لياليه بالقيام يملأون نهاره بالصيام والذكر والصدقات، مدركين أنه فرصة لا تتكرر لتعزيز علاقتهم بالله، كان يدعون الله دائما أن يبلغهم رمضان ، ثم يتقبل أعمالهم فيه، فليكن لنا فيهم أسوة حسنة، ونجعل من رمضان محطة للتغيير ونقطة انطلاق نحو مزيد من الصفاء الروحي والعزيمة الصادقة على طاعة الله.
اقرأ أيضاً: ريهام طارق تكتب: الصحافة في قبضة السلطه استقلال مفقود أم احتضار محتوم؟
رمضان فرصة للعتق من النيران:
رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، ميزة الله بالجود والإحسان والتوبة والمغفرة والعتق من النيران، فيه تفتح أبواب الجنة و تغلق أبواب النار و تصفد الشياطين كما أن ليلة القدر فيه خير من ألف شهر فقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة).
رمضان ميدان السباق إلى الخيرات:
يقول ابن القيم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضاعف اجتهاده في العبادات خلال شهر رمضان فكان جبريل عليه السلام يدارسه القرآن في هذا الشهر وكان النبي حين يلقاه أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان حيث يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر و الاعتكاف وكان يخص رمضان بأعمال لا يخص بها غيره من الشهور ولذلك كان السلف الصالح ينتظرون هذا الشهر بشوق ولهفة و يجعلون منه ميدان للتنافس في الطاعات والخيرات و الحسنات وكانت لهم أحوال فريدة تعكس عظمة ارتباطهم بهذا الشهر المبارك.
رمضان والقرآن:
كان الصحابة يحرصون على الإكثار من تلاوته خلال هذا الشهر الفضيل.
يذكر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يختم القرآن يوميًا ، بينما كان الأسود بن يزيد يختم القرآن كل ليلتين، وكان سعيد بن جبير كذلك أما محمد بن إسماعيل البخاري فكان يختمه كل يوم في النهار خلال رمضان وكان الإمام الشافعي يحرص على ستين ختمة خارج الصلاة كما كان قتادة يختم القرآن كل سبعة أيام في غير رمضان وكل ثلاثة أيام في رمضان ثم كل ليلة خلال العشر الأواخر أما الزهري فكان يترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ليتفرغ لتلاوة القرآن من المصحف وقد أشار ابن رجب الحنبلي إلى أن النهي عن ختم القرآن في أقل من ثلاث كان يقصد به المداومة على ذلك أما في المواسم الفضيلة كشهر رمضان والأماكن المقدسة كالمسجد الحرام فقد استحب الأئمة ومنهم أحمد وإسحاق الإكثار من التلاوة اغتنامًا لعظمة الزمان والمكان.
قيام الليل في رمضان.. دروس من الصحابة في العبادة:
قيام الليل هو سر من أسرار القرب من الله، وقد عُرف عن الصحابة حرصهم الشديد على قيام الليل، لا سيما في شهر رمضان.
قال الحسن البصري إنه لم يجد عبادة أشد من الصلاة في جوف الليل، و نُقل عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب أمر أبي بن كعب و تميمًا الداري أن يؤما الناس بإحدى عشرة ركعة، فكانوا يطيلون القراءة حتى كانوا يعتمدون على العصي من شدة الوقوف، ولا ينصرفون إلا عند الفجر.
وروي عن عبد الله بن أبي بكر أن الصحابة كانوا يبادرون بالسحور فور انتهائهم من القيام خشية أن يدركهم الفجر، وقد وصف الفضيل بن عياض من لا يستطيع قيام الليل وصيام النهار بأنه محروم مكبل بالخطايا التي أثقلته ومنعته من الطاعات.
كيف جسّد النبي والصحابة أسمى معاني الجود؟
كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أكثر ما يكون جودًا في رمضان حين يلقاه جبريل كل ليلة فيدارسه القرآن، فكان حينها أسرع بالخير من الريح المرسلة، وقد اقتدى به الصحابة والتابعون، فكان الشافعي يرى أن زيادة الجود في رمضان أمر مستحب لحاجة الناس وانشغالهم عن كسب الرزق بالصيام والعبادة.
وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع المساكين، فإن لم يجدهم امتنع عن العشاء تلك الليلة، وكان إذا سأله فقير وهو على طعامه تناول نصيبه وقدمه له.
أما حماد بن أبي سليمان فكان يفطر خمسين شخصًا كل ليلة، وفي ليلة العيد يكسوهم ويمنح كل واحد منهم مائة درهم، وروي عن رجال من بني عدي أنهم لم يفطروا قط بمفردهم، فإن لم يجدوا من يشاركهم الطعام حملوه إلى المسجد ليأكلوا مع الناس.
كتب الصحابة تاريخ من الطاعات والعطاء في رمضان:
كان رمضان عند الصحابة شهراً يزهر فيه الإيمان و تسمو فيه الأرواح فتجلّت فيه أسمى صور العبادة والقيام والصدقة والإحسان عاشوه بقلوب متعلقة بالله وأرواح تلهج بالدعاء أن يبلغهم إياه ويتقبله منهم فليكن لنا فيهم أسوة و نغتنم هذا الشهر محطةً نجدد فيها علاقتنا مع الله فنخرج منه بقلوب أكثر نقاءً وأرواح أشد صفاءً وعزيمة تمضي بنا بثبات على درب الطاعة.