الصبر والحلم دروس نبوية تضيء القلوب وتبني المجتمعات
يعد الصبر و الحلم من أعظم القيم الإنسانية التي دعا إليها الإسلام، إذ جعلهما من أسس الأخلاق الرفيعة التي تسمو بـ المجتمعاتِ وتعزز روح التعايش السلمي بين البشر.
بقلم: ريهام طارق
وفي هذا السياق، تبقى سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خير تجسيد لهذه القيم، حيث كان نموذجا فريدا في الصبر على الأذى، والحلم في مواجهة الغضب.
لقد واجه رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في دعوته أصناف شتى من الأذى الجسدي والمعنوي، لكنه كان يقابل ذلك بقلب رحيم و عقل حكيم، يواجه الإساءة بالعفو، والغلظة بالرفق، و العداوة بالمحبة. قال تعالى: “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم: 4)، شهادة إلهية تخلد عظمة أخلاق النبي التي بلغت قمة الإنسانية.
من أبرز المواقف التي تظهر حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره، ما حدث يوم الطائف، حين رفضَ أهلها دعوته وأغروا به سفهاءَهم فرموهُ بالحجارةِ حتى أدموا قدميهِ الشريفتين. وبرغمِ هذا الظلمِ البالغِ، رفع رسولُ اللهِ أكفَّ الضراعةِ إلى ربه، لا ليهلكَهم، بل ليهديَهم، قائلًا: “اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون”. هذه الكلمات الخالدة تلخص جوهر الرحمة النبوية.
كما كان الحلمُ في مواجهةِ الجهلِ والعدوانِ سمةً ملازمةً لحياته. فعندما جاءه أعرابيٌّ يجذبهُ بردائهِ بعنفٍ ويطلبُ منه العطاءَ، لم يزد الرسولُ الكريمُ عن الابتسامِ قائلًا: “أعطوه”. إنه درسٌ بليغٌ في كظمِ الغيظِ والعفوِ عن الناس.
هناك موقف آخر يُروى أن يهوديًا يُدعى زيد بن سعنة جاء إلى النبي محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، فدخل عليه بغلظة وقال: “يا محمد، أوفِ الدين الذي عليك، فإنكم – بني عبد المطلب – قوم مُطل، أي تماطلون في أداء الديون”. وكان هذا الاتهام موجَّهًا ليس إلى النبي وحده، بل إلى قبيلته بأكملها، مع أن موعد سداد الدين لم يكن قد حان بعد.
فغضب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقال: “يا رسول الله، ائذن لي فأضرب عنقه!”، فردَّ النبي، عليه أفضل الصلاة والسلام، قائلاً: “يا عمر، كنا أحوج إلى غير هذا، كان الأولى بك أن تأمره بحسن الطلب، وتأمرني بحسن الأداء”.
عندها قال اليهودي: “لقد قرأت في التوراة عن النبي المنتظَر، وعرفت جميع صفاته، فرأيتها فيك كلها، إلا صفة واحدة جئت أختبرك فيها، وهي الحلم، فلا يزيدك جهل الجاهل إلا حلمًا، وقد وجدتها فيك. أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله”. ثم قال: “أما الدين الذي لك عليّ، فقد جعلته صدقة لفقراء المسلمين”.
لقد علَّمنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن الصبرَ ليس ضعفًا، بل قوةٌ داخليةٌ تُعينُ الإنسانَ على مواجهةِ تحدياتِ الحياةِ دون أن يفقدَ اتزانه النفسي. كما أن الحلمَ ليس تنازلًا عن الحق، بل ارتقاءٌ بالنفسِ فوق النزاعاتِ الصغيرة، وترسيخٌ لمبدأ “ادفعْ بالتي هي أحسن”.
وفي عصرنا الحالي، الذي يضجُّ بالصراعاتِ المتلاحقة وسرعة الانفعال والغضب لأبسط الاشياء، نحن بأمسِّ الحاجة إلى استلهامِ النموذجِ النبويِّ في تعاملاتِنا اليومية، فالصبرُ على المشاقِ في ميادين العمل، والحلم أمام إساءة الأقارب والأصدقاء، قيمٌ سامية تضفي على الحياة سكينةً، وتجعلها أكثر جمالا وسلاما.
في النهايه، لنجعلْ من سيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، مصباح نهتدي بنوره في دروب الحياة، ولنجعلِ الصبرَ والحلمَ زادنا في مسيرتِنا، فبهما نرتقي في الدنيا، ونفوزُ في الآخرةِ بجنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ، أُعدَّتْ للمتقين.