دلال عبد العزيز… صاحبة القلب الذهبي و الضوء الذي لا ينخفت
كتبت/ ماريان مكاريوس
لم تكن الفنانة الراحلة دلال عبد العزيز مجرد ممثلة تؤدي أدوارًا على خشبة المسرح أو أمام عدسات الكاميرا، بل كانت حالة إنسانية خاصة، تفيض دفئًا، وتمنح الفن وجهًا أموميًا حقيقيًا لم تفقده حتى في أوج الكوميديا أو قسوة الدراما. امرأة حاملة للمحبة في نظراتها، وللصدق في أدائها، وللتواضع في سلوكها، فاستحقت أن تحيا في قلوب جمهورها لا كممثلة فحسب، بل كرمز للأصالة والوفاء والحنان.
النشأة والتعليم
ولدت دلال عبد العزيز محمد في 17 يناير عام 1960 بقرية فرغان التابعة لمركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية، وتخرجت في كلية الزراعة بجامعة الزقازيق. لم يكن الفن هو الوجهة الأولى في مسيرتها؛ فقد كانت امرأة شغوفة بالعلم والثقافة، جمعت بين تخصصات متفرقة من العلوم الإنسانية، فنالت إلى جانب بكالوريوس الزراعة، بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة، وليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ثم دبلوم العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. هذا التعدد في خلفياتها الأكاديمية أضفى على شخصيتها مسحة نادرة من العمق، فكانت قادرة على تذوق الكلمة والقراءة خلف النص، وهي تُطوّع أدوارها بما يجعلها أقرب إلى نبض الحياة منها إلى سطح الحكاية.
بدايتها الفنية
دخلت المجال الفني في أواخر السبعينيات، وبدأت بأدوار صغيرة، لكن الخطوة الحاسمة كانت عندما قدّمها المخرج الكبير نور الدمرداش إلى المسرح، لتطل على الجمهور من خلال عملها الشهير مع ثلاثي أضواء المسرح في مسرحية “أهلًا يا دكتور”، التي شكلت انطلاقتها الحقيقية، وجعلت منها وجهًا محببًا، يحمل ملامح مصرية خالصة.
تمتعت دلال عبد العزيز بموهبة فطرية لا تفتعل الأداء، بل تحيا داخله. كانت تنتمي إلى المدرسة الواقعية في التمثيل، تلك التي لا تنفصل فيها الشخصية عن الإنسانة. وفي كل ما قدمته، من كوميديا راقية إلى دراما حزينة، كانت تضع روحها في كل مشهد، حتى غدت جزءًا لا يُمحى من وجدان المشاهد العربي. من منا لم يضحك من قلبه وهو يشاهدها في “يارب ولد” ذات الحضور الطاغي، أو من لم يتأثر بأدائها المرعب و الهادئ بنفس الوقت ض في “الناس في كفر عسكر” الذي كشف عن قدراتها التراجيدية العميقة؟
ومع مرور السنوات، استطاعت أن تترك بصمة فنية في أكثر من جيل. تنوعت أدوارها، وظهرت في أفلام مهمة مثل “بئر الخيانة”، “سمير وشهير وبهير”، “قلب أمه”، “آسف على الإزعاج”. لم تقيّد نفسها بقالب فني واحد، بل كانت دائمًا في تجدد مستمر، كأنها تدرك أن الفن شجرة لا تزهر إلا بالتنوع.
حياتها الشخصية امتداد لمسيرتها الفنية
غير أن ما يميز دلال عبد العزيز حقًا، يتجاوز حدود الشاشة، فحياتها الشخصية كانت امتدادًا نقيًا لمسيرتها الفنية. في عام 1984، تزوجت من الفنان سمير غانم، في علاقة فنية وعاطفية تعد من الأجمل في الوسط الفني، حيث شكّلا معًا ثنائيًا قائمًا على الحب والاحترام والتفاهم. أنجبا ابنتيهما دنيا وإيمي سمير غانم، اللتين واصلتا المسيرة الفنية، وكلتاهما تحمل الكثير من صفات والدتهما، خاصة في البساطة وخفة الظل.
في لقاءات نادرة، كانت دلال تتحدث بتواضع شديد عن كونها “محظوظة بالحب”، فالحب في حياتها لم يكن رفاهية، بل عقيدة إنسانية. فقد كانت أمًا لأسرتها، وزوجة وفية، وفنانة ملتزمة، وزميلة محبوبة من كل من تعامل معها، لم يُسمع عنها يومًا أنها دخلت صراعًا أو افتعلت خلافًا. كانت تقدم الدعم دون ضجيج، وتبتسم في عز التعب، وتمتلك رصيدًا من الطيبة يجعل حضورها على الشاشة امتدادًا طبيعيًا لشخصيتها في الحياة.
تحديات في حياة دلال عبد العزيز
ولعلّ أكثر لحظاتها قسوةً تمثّلت في تلك المأساة التي لم ترَها بعينها، حين رحل زوجها سمير غانم في مايو 2021 إثر إصابته بفيروس كورونا، بينما كانت هي ترقد في المستشفى تُصارع ذات المرض. لم تعرف دلال بوفاته، وقد أخفى الأطباء الخبر عنها خشية تدهور حالتها النفسية، حتى لحقت به بعد أقل من ثلاثة أشهر، في 7 أغسطس 2021، لتغلق حياتهما قصة وفاء نادرة، لم تفرقهما فيها الحياة ولا حتى الموت.
كان رحيل دلال عبد العزيز صدمة للوسط الفني والجمهور على السواء، لأن غيابها لم يكن مجرد فقدان فنانة، بل افتقاد لقيمة إنسانية كبيرة. بكاها زملاؤها بحرقة، وتدفقت كلمات الرثاء في الصحف والمواقع كأن مصر فقدت أمًّا من أمهاتها. أما الجمهور، فودعها بالدعاء والدموع والحنين، لأنها – ببساطة – كانت واحدة منّا.
بطلة في قلوب محبيها
إن دلال عبد العزيز تمثل نموذجًا لفنانة لم تسعَ للبطولة المطلقة، لكنها أصبحت بطلة حقيقية في قلوب الناس. لم تكن صاخبة، بل هادئة الحضور. لم تكن متكلفة، بل صادقة في بساطتها. اختارت أن تكون الإنسان قبل الفنان، فصارت فنانة لا تُنسى.
و لعل دورها في مسلسل “سابع جار” و تجسيد ها لدور الام كان، طبيعيا لدرجة لا تستطيع معها تمييز هل انت امام يوميات دلال الام ام بطلة العمل!
في زمنٍ يفيض بالضجيج والتمثيل المبالغ فيه، تظل دلال عبد العزيز أيقونة للأداء الصادق والوجه الطيب الذي يترك أثره بعد انتهاء المشهد. هي ذاكرة دفء نادرة، لا تغيب حتى بعد أن طُويت صفحتها الجسدية.
رحلت دلال عبد العزيز، لكن صوتها وضحكتها ودمعتها ستبقى على الشاشة، تسكن ذاكرة المصريين والعرب، كإحدى أجمل الهدايا التي منحها الفن للحياة.
كتبت الاستاذة/ماريان مكاريوس