ديكتاتورية الأمومة في قصة العذراء والشعر الأبيض … بقلم/ عبده حسين إمام
ديكتاتورية الأمومة
في قصة العذراء والشعر الأبيض
بقلم/ عبده حسين إمام
تبلورت خلال العقد الأخير من عمره رؤاه الاجتماعية في أدبه الروائي منتقلا من منظوره المتعمق للرواية الرومانسية وجرأته في الإبحار داخل عالم الأنثى ومشاعرها وأدق تفاصيل هذا العالم، وتشريحه الكاشف لظواهر وسلبيات اجتماعية؛ إلى أدب رومانسي من نوع خاص تمتزج في حبكته وفكرته رسالةٌ ذات بعد اجتماعي تنبثق من خلالها قيمٌ أخلاقية مُثلى لها أثر تهذيبي وتقويمي يلمحه القارئ بين خبايا السطور، وبدا ذلك جليا في أعماله (لمن أترك كل هذا)، و(يا ابنتي لا تحيريني معكِ) والقصة التي بين أيدينا؛ بعكس ما بدأه من مجموعة روايات كان قوامها الثورة اجتماعيا بل وسياسيا أيضا، واعتلى واجهتها شخصيات ترفع رايات الثورة؛ تواجه بفكرها المتجدد ثوابتا اجتماعية راسخة، بدون النظر الى تلك الثوابت و مدى أحقيتها أن تُتخذ دستورا اجتماعيا يتبعه و يبجله مجتمعنا الشرقي.
الكاتب الروائي إحسان عبد القدوس
ولد عام 1919 لأبوين من أصول تركية فأمه فاطمة اليوسف تركية الأصل ولدت في لبنان ثم انتقلت للعيش في مصر رائدة في الفن والأدب؛ يشهد بيتها اللقاءات الأدبية التي يحضرها كبار الأدباء والفنانين والنقاد لتثمر في وعي الابن بذور الموهبة والإبداع، أما والده محمد عبد القدوس فكان ممثلا ومؤلفا ويعد من ظرفاء عصره.
تخرج عبد القدوس من كلية الحقوق في جامعة القاهرة عام 1942 ومارس المحاماة لفترة قصيرة، كتب احسان عبد القدوس الكثير من الروايات والقصص الطويلة كما كتب عددا من المجموعات القصصية والمسرحية حيث حولت أغلب أعماله إلى أفلام سينمائية وأعمال تلفزيونية ومسرحية، وترجمت بعض أعماله الى الانجليزية والألمانية والفرنسية،
ولاعتباره كاتباً جريئاً وغير تقليدي، قوبل أدبه باستهجان حينما اتهمه النقاد، لا سيما العقاد، بأن كتاباته الروائية هي أدب فراش. فلم يلقَ التكريم المستحق من جانب الدولة التي منحته جائزة الدولة التقديرية قبيل وفاته ولم ينحاز لنوعية كتاباته المجتمع النقدي آنذاك، ليجد الكاتب التكريم والاحتفاء من القارئ كتكريم حقيقي صادق لأدب سبق عصره.
وفي قراءة اختزالية لركن الشخصية في أدبه الروائي والقصصي تلاحظ أن قلمه انصبَّ على تقديم الشخصية المأزومة نفسيا واجتماعيا، لذا يدهشنا أدب احسان عبد القدوس بتحليقه في فضاءات الرواية الاجتماعية بكل مضامينها السياسية والنفسية، فضلا عن أن أدب عبد القدوس يحمل من ثراء الدلالات الحسية التي قد تبدو صادمة ما يلامس ويتقصَّى الكثير من التفاصيل التي تئنُّ منها بيئات وطبقات اجتماعية مصرية متعددة المستويات.
احتلت المرأة بشكل ملموس مساحة مؤثرة في كتاباته، إذ وضعته هذه الكتابات ورسخت له مكانة مميزة كمدافع عن المرأة وحقها في الحب والحلم والحياة،
وفي طرحٍ مغاير لما يلاحق الشخصية في أزمتها من تداعيات وصعاب نرى نموذجا تسامت أزمته واستُنهضت نقطة ضعفه؛ إلى مصدر قوة وديكتاتورية واستبداد اجتماعي كما في شخصية “دولت” في قصة (العذراء والشعر الأيض).
والقصة ضمن مجموعة قصصية تحمل نفس العنوان تتكون من تسع قصص صدرت أول طبعاتها عام 1977.
إن الشخصية الرئيسية في قصتنا “دولت” هي استحضار لحقبة زمنية بعيدة، كان الانضواء تحت راية الأنثى أمرا مقبولا وكانت السطوة الغالبة للأمومة واتخاذ الأم مصدرا تُنتسب له جذور العائلات ويرتكز إليه الرجال بلا حفيظة أو استعلاء، بل بفخر ويقين،
وربما لا يعلم البعض أن في بعض العصور البائدة كان مباحا تعدد الأزواج في طفرة وتجلٍّ لمعنى بالغ التعقيد وعميق الجدل لقيمة الأمومة، حتى اقتضى العُرف وشرَّعت الأديان والقوانين مفهوم الأسرة وموضع المرأة في منصب الأم، وكان معروفًا عند بعض الشعوب التاريخية وأكثر الأمم المتوحشة الحاضرة أن الولد عندهم كان ولا يزال يتبع نسب أمه دون أبيه، وأن جميع القبائل كانت متمسكة أيضًا بتعدد الأزواج ،وبالتالي لم تكن تعترف إلَّا بقرابة الأم، وفى تاريخ العرب في الجاهلية أمثلة صريحة، فلا غرو من اصطلاح كلمة بطن عند العرب كمعنى لمفهوم العائلة، وإن تعمَّد كتبةُ التاريخ ومدونوه لاحقا إلى إغفال وتجاهل تلك الصفحة من الماضي الجاهلي.
ولا ريب في أن الأمومة كانت سائدة يوم كان زواج الاشتراك شائعًا عند سائر الأمم، أي قبل ظهور الزواج الفردي، وفي تفقد لآثار العرب في الجاهلية نرى أن زواج الاشتراك كان معروفًا عندهم، ومما ذُكر أن النكاح في الجاهلية كان على عدة وجوه منها نكاح الاستبضاع، نكاح الرهط، نكاح البدل، والتي قد تم النهي عنها بالتشريع الإسلامي الحنيف، وجدير بالذكر أنه لا تزال بعض هذه الأنكحة شائعة إلى اليوم بين قبائل التشوكشي في شمالي سيبيريا وسكان أعالي جزيرة صومترا، مما لا يتسع الموضع لذكر تفاصيله.
وبلغ أوج النفوذ الأنثوي ما ذكره الأصفهاني في كتابه الأغاني ” أن النساء في الجاهلية كن يطلِّقن رجالهن”.
النفوذ السلطوي لشخصية دولت بدأ في علاقتها غير الشرعية مع مدحت كسيدة متزوجة تتربع على عرش الخيانة الزوجية فبدا العشيق على غير العادة ضعيفا في ظلِّها، خاضعا مستسلما لعطائها ودعمها، ويدها ذات الطول في تمكينه في التوسع في عمله؛ حتى تقديم مسوِّغات قبوله بالمجتمع البرجوازي الذي تنتمي إليه دولت،
وأفلح الكاتب في سرد خفايا نفسها وكبريائها في درء الاعتراف بعُقمها، في استشراف لحلم الأمومة من العشيق وإن خُذل هذا الحلم يقينا من الزوج الشرعي، وما إصرارها على تعاطي وسائل منع الحمل إلا تمثيلا لخوفٍ كذوب من افتضاح الخيانة بوليد من رحمها؛ خوف تخيلي يتقعر في خباء نفسها أنها بلا داء ولديها القدرة والاستطاعة،
وتأكيدا لذاك المعنى ما رسمه الكاتب لشخصية مدحت والإشارة إلى أنه يصغرها بأربعة أعوام مما يرسخ لفكرة أمومتها واحتوائها في ظلالها المستبدة،
وبعيدا عن الإطار الشرعي والاجتماعي لهذا الكيان الاجتماعي المعقد التي صنعته وتعالى بناؤه، فالدهشة كلُّها في صنيعها ومراقبتها في صمتٍ لتهور الفتاة، بل ومباركة هذا التهور المراهق وتهيئة كل السبل لتنال ما تشتهيه نفسها كفتاة مراهقة يحدوها التطلع إلى العلاقة العاطفية ومذاق الجنس حتى وأن كان بين أحضان أبيها بالتبني؛ ذي الشعر الأبيض!،
لم تبخل دولت عليهما بإقامة تلك العلاقة المشوهة الممقوتة، بل باركت ثمرة تلك العلاقة؛ بإصرارها واستحبابها إلى انتساب ذلك الوليد القادم من أحشاء ابنتها المتبناه ومن صلب زوجها؛ أن ينتسب أيضا إليها في مثال صارخ على ديكتاتورية لا تستقيم مع ما ترفعه من رايات الحنان والأمومة،
ولعل العمل السينمائي قد راعى تلك الإشكالية فلم يستسغ صناع العمل تقديم الفكرة على عواهنها بل تم اقتطاف ما يليق وما يمكن قبوله في إطار ثوابت اجتماعية لا يمكن المساس بها وتم اختصار الفيلم في قضية التبني وتبييض وجه دولت بالقدر الذي يمكن من خلاله صناعة فيلم سينمائي.
ويرحل إحسان عبد القدوس عام 1991 بعد رحلة ثرية من الأدب والإبداع مناضلا بفكره التقدمي تاركا أعمالا ذات قيمة أدبية متجددة ما زالت تثري المكتبة العربية ولا ينضب معينها لكل محب ومتذوق وباحث في الأدب.
مراجع
الأمومة عند العرب جورج أليكسندر ويلكن
أزمة الجنس في القصة العربية دكتور غالي شكري
رسائل ودراسات الأكاديمية
التعليقات مغلقة.