راهبة وجدت في صمتها عزاء وفي وحدتها حرية
راهبه.. تركت الماضي خلفها بلا رجعة وحررت نفسها من أوهام الحب
بقلم: ريهام طارق
في ليلة باردة، جلست وحدها في ركن من مظلم في
غرفتها المظلمة، كأنها داخل صندوق أسود مغلق.
الصمت يلفها كوشاح ثقيل، لا يترك مجالا إلا لأنفاسها، تلك الأنفاس التي تكاد تسمع نبض حزنها فيها.
أمامها شاشة تلفاز خافتة، ضوءها الهزيل ينساب برفق كأنه يحاول أن يكون رفيق صمتها.
لكن حتى هذا الضوء، رغم رقته، عجز عن اختراق جدران الظلام الساكن بروحها.. كل شعاع منه، حين يقترب، ينكسر عند حدود الحزن الذي يسكن أعماقها.
اقرأ أيضاً: ليلة من النغم والفرح.. محمدي والمالكي يحتفلان بنجاح “خلصتني”
صمتها كان موجة هادئة، احتضنتها برفق لكنها لم تطفئ نار قلبها.. بل أحاطتها بذكريات غائرة، كأنها جمر تحت الرماد، يشتعل كلما لمسته أنفاسها.
حدقت في الشاشة، نظرة شاردة وعينان تائهتان، كأنهما تبحثان في الأفق عن ملاذ لأفكارها المتزاحمة.
وفي تلك اللحظة، انساب شريط حياتها أمامها كفيلم سينمائي،
لقطات متداخلة من أحلام ضاعت، وذكريات تركت أثراً،
وعود.. بقيت عالقة بين الشفاه، وحديث.. لم يكتمل بعد.
لحظات قاسية، مازالت تشعر ألمها، كأنه نقش في قلبها، ندوباً لم تمحها الأيام.
توقف الزمن عندها، ولم يبق إلا الألم، صديقها الوفي، ينبض في أعماقها كـ دقات قلب لا تعرف الهدوء.
احتضنها الليل كـ معطف قديم، فقد دفء حضنه لكنه ظل يواسيها برائحته العتيقة.. كان يكاد يغلف جسدها المنهك، كأنما يحاول عبثاً أن يمنحها طمأنينة افتقدتها.. أغمضت عينيها، و غاصت في بحر ذكرياتها، تبحث عن ومضة سعادة تشق ظلام روحها، لكن كل ذكرى برزت أمامها، كانت كصورة باهتة بلا ألوان
تحمل بين طياتها شبح ألم صامت، كأن السعادة لم تكن سوى زائر عابر.. طائر جميل، حلق في سماء أيامها، لكنه لم يترك سوى أثر جناحيه في الأفق، دليلاً على مرور لم يدم، وعلى فرح لم يكتب له البقاء.
كانت ترتجف كـ شمعة في مهب الريح.. همست بصوت بالكاد تسمعه روحها:
“هكذا تمضي حياتي؟ دون أن أذق طعم الفرح؟”
كانت الكلمات تنبض داخلها كـ جرح قديم
تحاول حل لغز أيامها التي تاهت في متاهة بلا مخرج.
كل حرف نطقت به حمل عبء سنوات من الانتظار،
وكل سؤال أثقل صدرها كـ صخرة لا تحتمل.
لم يسمع صداه أحد، سوى روحها المتعبة،
وكان الجواب كـ طعنة باردة في قلبها:” السعادة لم تكن سوى حلم بعيد، سراب يتلألأ بخداع في صحراء حياتها القاحلة، كلما اقتربت منه، تلاشى بين يديها، يتركها وحيدة أمام حقيقة الألم، وهما لن يتحقق”.
تذكرت تلك الأيام…
ايام قيل إنها اجمل فصول الحياة،
ايام انتظرها الجميع بلهفة،
لكنها كانت مرآة الحزن المقيم بداخلها، وغطاء واهناً يخفي جرحاً لا يندمل.
همست بصوت يملاءه الألم: “كيف للفرح أن يلبس ثوب الحزن؟
كيف يكون الاجمل هو القبح بعينه؟”..كان سؤالها سيف يشق روحها، ليترك ندبة أبدية، تتردد صداها بين أركان صمتها.
تذكرت تلك الأيام التي كان من المفترض أن تكون أجمل فترات حياتها، تلك التي ينتظرها الجميع بشغف، لكنها أدركت أنها نفس الأيام التي غرقت فيها الحزن، كأن القدر نسج لها
فصولاً من الألم تحت قناع الفرح.
اقرأ أيضاً:إيرادات قياسية بوقت قصير فيلم “الهوى سلطان” يحقق 30 مليون جنيه
شعرت بمرارة تعتصرُ حنجرتها.. همست إلي ظلها المكسور: “كيف للحزن أن يسكن أجمل لحظات العمر؟ كيف للفرح أن يصير وهماً عابراً؟” كان سؤال كـ جرح مفتوح، يخترق جدران الروح بلا رحمة.
في تلك اللحظة، رأت السعادة نجماً بعيداً، هرب من سمائها إلى الأبد، ترك خلفه فراغاً يشبه الصمت، كأن الحياة أغلقت أبوابها في وجهها، وتركتها بين ذكريات متفرقة، كأوراق خريف سقطت، ولم تجد ريحاً تحملها نحو الأفق.
أغمضت عينيها للحظة، محاولة الهروب من الأفكار السامة التي أحاطت بها كـ ضباب كثيف، من الذكريات المؤلمة التي استوطنت روحها يأبى الرحيل، يحوم حولها بلا انقطاع، تذكرت كل حلم قتل قبل أن يولد، وكل فرحة ذبلت قبل أن تتفتح.
شعرت بدوار يجتاح رأسها وثقل يعيق خطواتها، وكأنها تسير في طريق طويل مظلم لا نهاية له، مليء بـ الخيبات، وعلى جانبيه أزهار ذابلة تحمل على أوراقها آثار الانكسار.
رفعت عينيها، لترى القدر وقد كتب عند مدخل أيامها: “السعادة محطة ممنوع النزول فيها” كلمات كـ السيف تخترق روحها، لانها كانت مؤمنه بالقدر، اقتنعت أن السعادة لن تكون يوماً من نصيبها.
ابتسمت، و همست لنفسها: ما هي السعادة؟ هل هي لحظات عابرة كتبت لي؟ أم هي قرار اتخذه؟ أم أن السعادة هي لقلوب المحظوظين فقط؟
غاصت في بحر من الأسئلة التي لا نهاية لها، وكلما اقتربت من إجابة، سحبتها دوامة من الحيرة، كأن أسئلتها قد تحولت إلى ألغاز مكتوبة بلغة لا تجيد قراءتها، مغلقة، بـ أقفال محكمة استعصت على فك رموزها.
فجأة، شعرت أنها أصبحت أسيرة أحزانها، وكل خيبة مرت بها كانت حجراً إضافياً في جدران سجنها العالي الذي أحاط بها، صمتت لوهلة، وأخذت نفساً عميقاً، ثم اتخذت قراراً لا رجوع فيه:” أن تكمل حياتها وحيدة، بعيدة..منعزلة”.
أغلقت باب قلبها بإحكام، كما يغلق الناجون من الجحيم أبواب رغباتهم، ولم يعد مسموحاً لأي أحد بدخول عالمها.. اكتفت من الخذلان، تجرعت ما يكفي من كؤوس الألم.. أيقنت أن الاعتماد على الآخرين لا يجلب إلا الخيبة.
تركت الماضي خلفها بلا رجعة، وحررت نفسها من أوهام الحب، وحولته إلى مخطوطة قديمة وضعتها على رف عالٍ، لا تنوي الرجوع إليه.
مضت في حياة خالية من الألم، واختارت أن تعيش راهبة زاهده، تتأمل في صمت، مستمتعة بالسكينة التي تحيط بها.
كان قرارها هذا خلاصاً لها، مخرجها الوحيد من دوامة الخيبات المرهقة، بعيداً عن ضجيج العالم.
أخيراً، ابتسمت بطمأنينة، وشعرت بالراحة، فوجدت في صمتها عزاء، وفي وحدتها حرية.