سعد عبد الوهاب… ابن الضوء الذي سار في الظلال
سعد عبد الوهاب... ابن الضوء الذي سار في الظلال
سعد عبد الوهاب… ابن الضوء الذي سار في الظلال
يحل اليوم تاريخ مولد الفنان المتميز سعد عبد الوهاب ففي السادس عشر من يونيو من عام 1929، وُلد سعد عبد الوهاب في القاهرة، ولم يكن يعلم أنه سيحمل لقبًا أدبيًا خفيًا طوال عمره: الظل النبيل للموسيقار محمد عبد الوهاب.
كتبت ماريان مكاريوس
لم يكن مجرد ابن شقيق عبقري الموسيقى، بل كان امتدادًا مختلفًا، يحمل ذات الموهبة لكن بنكهة شخصية أكثر رقة وأقل صخبًا.
ولد سعد في بيت فني مشبع بالألحان، ترعرع في كنف عمه الذي لم يكن فقط سندًا عائليًا، بل مدرسة موسيقية كاملة. تتلمذ سعد على يد محمد عبد الوهاب، لكنّه لم يكن نسخة طبق الأصل، بل اختار أن يرسم لنفسه ملامح خاصة. في زمن كانت فيه الساحة الفنية مزدحمة بالكبار، اختار سعد ألا ينافسهم في الضجيج، بل أن ينافسهم في النعومة، في الأناقة الصوتية، وفي المزاج الرومانسي الرفيع.
رغم أنه بدأ حياته الأكاديمية بعيدًا عن الفن، حيث تخرج من كلية الزراعة بجامعة القاهرة عام 1949، إلا أن ميوله الفنية جذبت قلبه قبل أن تجذب انتباه الجمهور. فكان صوته الشجي وألحانه المميزة جواز سفره إلى قلوب العشاق في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
فنّه… شجن المودة وسلاسة الذوق
أغاني سعد عبد الوهاب لم تكن صاخبة، ولا ثورية، بل كانت ناعمة كأطراف الريح، ومتماسكة مثل نوتة موسيقية مكتوبة بدقة. حين تستمع إلى “وشك ولا القمر” أو “الدنيا ريشة في هوا”، لا يمكنك إلا أن تبتسم. هذا هو سر سعد البهجة الهادئة، والعذوبة التي تتسلل دون استئذان.
كان يغني للحب، لا ليفرض نفسه على الحب، بل ليمرّ به، كمن يطرق الباب ثم ينسحب بخفة. حتى في أغنية مثل “قلبى القاسي”، والتي قد تبدو للوهلة الأولى شجنية، نجد في طبقاتها صوتًا يحمل الحنان لا القسوة..
امتلك بحة دافئة،تترك بصمة عند كل مستمع وربما كانت تلك البصمة السبب في استمرار صدى صوته حتى اليوم، رغم ابتعاده الطويل عن الأضواء.
الوجه الآخر… في السينما
لم يقف سعد عبد الوهاب عند حدود الطرب فقط، بل خاض تجربة التمثيل، وإن لم تكن طويلة، إلا أنها أثبتت حضورًا لافتًا. شارك في سبعة أفلام منها”العيش و الملح” “علموني الحب”، و”أماني العمر”، و”بلدي وخفة”، وكانت أدواره تعكس شخصيته الحقيقية: الشاب الرقيق، الحالم، الباحث عن حياة بسيطة في عالم مزدحم.
فأداؤه التمثيلي لم يكن مفتعلًا، بل طبيعيًّا كابتسامته، وكان هذا أحد أسباب ارتباط الجمهور به. لم يبالغ، لم يصطنع الدموع، بل اعتمد على الصدق في التعبير، وهو الصدق ذاته الذي تجلى في أغنياته.
ولعل فيلم “علموني الحب” (1957) كان عنوانًا رمزيًا لمسيرته، فهو لم يتعلم الحب من المدارس الفنية، بل من الحياة ذاتها، ومن جلساته مع محمد عبد الوهاب، ومن إحساسه الفطري بالجمال.
تجربة الإذاعة… ما وراء الستار
قد يجهل الكثيرون أن سعد عبد الوهاب عمل مذيعًا في الإذاعة المصرية قبل أن يصبح مطربًا. وربما كانت تلك التجربة سببًا في صقل لغته، وضبط إيقاع حديثه، بل ومساعدته على فهم طبيعة الجمهور. فهو لم يكن مجرد فنان على المسرح، بل كان يعرف كيف يخاطب الأذن والعقل معًا.
ثم، وفي تحول مثير للاهتمام، سافر إلى المملكة العربية السعودية عام 1964، ليعمل في الإذاعة هناك قرابة عشرين عامًا. تجربة جعلته أكثر نضجًا وعزلة فنية، لكنها لم تنزع عنه هويته كمصري الفن والطرب، بل زادت من هالته هدوءًا وعمقًا.
بين عمه والمستقل
أن تكون قريبًا من محمد عبد الوهاب، يعني أن تُقارن به كل يوم. وهذه نعمة ونقمة في آنٍ واحد. سعد لم يُرد أن يكون ظلًا مباشرًا لعمه، رغم أنه تأثر به بعمق. لكنه اختار لنفسه طريقًا مختلفًا في التلحين والغناء. أقل تعقيدًا، أقل تطريبًا، وأكثر حميمية.
كما كلفته دولة الإمارات بتلحين نشيدها الوطني عام ١٩٨٦.
كان لديه مشروعه الخاص، وهو تقديم فن مبسط، غير متكلّف، يدمج بين الرومانسية الشعبية والمقام الكلاسيكي. وهو ما حققه بالفعل، إذ نجد أن ألحانه، مثلًا في أغنية “من خطوة لخطوة”، تسير بسلاسة، دون تعقيد، لكنها تحمل طيفًا من جماليات المدرسة الوهابية.
اللحانه شبابية عصرية يستطيع الجيل الحالي الاستماع إليها و تطربه مثل أي اغنية جديدة فأغانيه عابرة للزمن.
الاعتزال والغياب
مع نهاية السبعينيات، بدأ سعد عبد الوهاب يتوارى تدريجيًّا عن الساحة الفنية. لم تكن أسباب اعتزاله صاخبة، بل صامتة كطبعه. انشغل بأعماله الإذاعية، وفضّل الخصوصية على الوهج الإعلامي. ورحل عن عالمنا بهدوء في 23 نوفمبر 2004، كما عاش، وكما غنّى: بلا ضجيج.
لكن صوته، ذلك الذي يشبه الندى، ما زال يتردد. لا تزال إذاعات الزمن الجميل تحتفظ بأغنياته، ولا تزال نبرته ناعمة تُذكّر المستمعين بجيل من الفنانين لم يكن يهمه اللقب بقدر ما يهمه الأثر.
نغمة لا تنطفئ
سعد عبد الوهاب لم يكن ظاهرة فنية عابرة، بل كان حالة فريدة في المشهد المصري. حالة من الرقي، والرقة، والوعي الموسيقي الناضج. وفي يوم ميلاده، لا نملك سوى أن نغمض أعيننا ونستمع لصوته، كأن الزمن يعود بنا إلى مقهى هادئ في خمسينيات القاهرة، والمذياع يقول:
“وشك ولا القمر، وبحبه من نظر…”
رحم الله سعد عبد الوهاب، الذي غنّى للحب وكأنه يعرف سره، وللحياة وكأنه لم يشأ أن يزعجها.