*سيرة عطرة مع ذكرى طيبة
*سيرة عطرة مع ذكرى طيبة
بقلم د. رحاب أبو العزم*
*الفراق الصادم*
مرت سبعة وثلاثون عامًا على فراق الأب الوالد، وكأن بلحظة الفراق تقلبني بين الذهول لمرور ذاك العمر الطويل، وبين الشوق لقسمات وجهه الطيب، ورعايته لنا الثقافية ومذاكرته لنا، وبين صوته الهادئ الحكيم الذي طالما غمرنا بحنان عجيب؛ بل امتد الحنان وصفاء القلب ليغمر الأقارب، وليجود بكرمه على كل قريب وغريب، صغير وكبير. وكأني بلحظة الفراق تصدمني كل لحظة احتياج إليه؛ يُصلح ما اعوج من ظلم البشر وسوء التدبير والتخطيط. هو الفراق الصادم في التقلبات الحياتية التي حدثت من بعده، وفي التغيرات الجذرية المخيفة التي حدثت لنا؛ مرت السنوات وكل ذهب إلى طريقه؛ تارة يستقيم بنا الطريق، وتارة نتوه بين جنباته، وتارة نفرح ونسعد، وتارة نُصدَم من جديد فنعود إلى سيرته الطيبة لتنبض القلوب بجميل العرفان والمعروف.
*الأب القدوة والطبيب الإنسان*
وفي خضم الحياة وتطوراتها الحزينة نتذكره بتضحياته كأب وبرعايته وأخلاق رجولته التي حُفِرت في أذهان كثير ممن عرفوه وعاشروه؛ بداية من عامل النظافة لبيته إلى سائقه الخاص إلى أصدقائه أساتذة الطب بجامعة الإسكندرية. وما سمعتُ عن رجل يمتدحه هؤلاء جميعًا بعد مرور سنوات طوال على مماته، هو الأب القدوة الذي علمنا منذ طفولتنا حب الخير للناس، وتقديم المساعدة للضعيف، هو الذي علمنا أن الحقد لا نهاية له إلا الخراب، وأن السعادة في إسعاد الناس البسيطة. إنه الطبيب الذي ضرب المثال الطيب لمهنته فترك في قلوب المرضى الدعاء له بالخير في الدنيا والآخرة. وبعد كل المفاجآت الصادمة في حياتنا منذ وفاته وحتى الآن يحتار العقل ممن يأخذ المشورة وقد غابت الحكمة عن الكثير، ويحتار القلب إلى من يلجأ لتهدأ بين أحضانه فواجع الحياة.
*ذكريات لا تُنسى*
أتذكر حينما كان يأتي إلى المدرسة فنتشرف به أبًا على قدر عال من الثقافة ليحترمنا المعلمون بعد مقابلتهم له، أتذكر حينما كان يتقلب معنا بين العتاب لأننا نقصنا درجة أو درجتين وبين روحه الفكاهية، أتذكر حينما كان يعلمني القراءة في مجلات العربي والمصور، وجريدة الأهرام والأخبار والجمهورية؛ وذلك للثقافة العامة، وأتذكر تلك الوجوه الطيبة والأجساد المريضة في كفر كلا الباب بمركز السنطة بمدينة طنطا التي أحاطت بوالدي تأمل العلاج بين يديه فيقدم لها الدواء بلا أي مقابل تقديرًا منه لضعف حالهم المالي، وتكريمًا منه لأهل قريته الغالية. أتذكر تلك الدعوات الصادقة التي خرجت له من قلوبهم قبل أن تنطق بها أفواهم وأراها قد أستجيبت في سيرته الطيبة التي مازالت رغم مرور أكثر من خمسة وثلاثين عام على وفاته.
*لا بديل عن رجولة الأب وحكمته*
لقد مر كل فرد منا بعديد من المواقف المفجعة والمفرحة، وصافحت أيادينا كثيرًا من البشر؛ أساتذة وزملاء وأزواج وأعمام وأخوال وما ارتدينا معطف الأمان إلا في حياة الأب، وما أرشدنا العقل الحكيم إلى الصواب إلا عقل الأب، وما سمعنا عن قامة عالية في الخلق والكرم إلا قامة والدي وأبي الذي منحنا على قدر عمره كل ما يملك، وما زلنا ننعم حتى الآن في خيره، ومازال تعبه يغمرنا بين جدران بيته الذي ظننتُ خطًأ حلاوة الحياة في بديل عنه حتى أيقنتُ أنه لا بديل عن حوائط وسقف وجدران قدمها لنا الأب، ولا بديل عن بيت بناه لنا الأب، ولا بديل عن رقي أوصلنا إليه الأب؛ ذاك الأب الذي لا فخر لنا في الحياة إلا الفخر والشرف أن اقترنت أسماؤنا باسمه. هو الزوج الذي أعلى من شأن زوجته في حياته ومماته، هو الأخ الذي راعى إخوته وأبناء إخوته، هو الصديق الذي ساند صديقه في أزماته، هو الابن البار حتى يوم مماته، هو الأب الذي وضع مصلحة أبنائه فوق كل اعتبار شخصي، الأب الذي يناشد كل أب ألا يرتكب الخطأ الذي يسقط قامته في قلوب أبنائه، هو الأب الذي سيظل حبي له وافتقادي لوجوده مُترجَم في دعاء لله بالرحمة والمغفرة.