لشهر رمضان خصوصية فريدة في كافة النواحي، حيث يختلف روتين الحياة تمامًا. إنه ليس مجرد تغيير في مواعيد الطعام والشراب، بل هو رحلة روحانية عميقة، يتوقف فيها الإنسان عن الانشغال بتفاصيل الآخرين وسلوكياتهم، ليتجه بكل صدق وتأمل نحو ذاته.
في هذا الشهر الفضيل، يصبح الإنسان الذي يصدق نيته في الصيام كالأم التي تتابع خطوات طفلها الأولى بحذر وترقب، تخشى عليه من السقوط وتراقب كل حركة يصنعها. كذلك الصائم المخلص لله، يراقب نفسه خشية أن تزل قدمه أو يخطئ لسانه بكلمة أو همسة أو لمسة قد تُسقطه من مقام الصائمين. إنه شهر تهذيب النفس وكبح الشهوات، حيث يخشى المؤمن النظرة المحرمة، والتبرج، والتهاون بالحجاب، والغيبة، والنميمة، وأي أذى للآخرين سواء بالقول أو الفعل.
رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام والشراب؛ إنه حالة من السمو الروحي تعيد الإنسان إلى فطرته النقية. أجواء الشهر الكريم تملأ القلوب بالسكينة وتربطها أكثر بالله. ترى الناس بين مصلٍ خاشع وقارئ للقرآن ومزكٍ يسعى لإعانة المحتاجين، وآخر يبتهل بالدعاء والتضرع إلى الله. وكأن الجميع في سباق شريف للوصول إلى رضا الله والفوز بجائزة الصائمين العظيمة.
المزيد من المشاركات
لكن الشيطان لا يهدأ؛ فقد وعد أن يملأ النار من بني البشر أجمعين، لذلك يجند جنوده لإفساد هذا الشهر العظيم على المؤمنين. يبذل قصارى جهده ليصرفهم عن روحانية رمضان ويبعدهم عن الفوز بأجره الكبير. وللأسف، نجد أن كثيرًا من أوقاتنا التي كانت مخصصة للعبادة أصبحت تضيع في لهوٍ وعبث؛ فأوقات ما بعد الإفطار التي كان ينبغي أن تكون للابتهال والدعاء وزيارة المرضى وقضاء حوائج الناس وقراءة القرآن أصبحت تُستهلك في ألعاب مثل المحيبس والطاولي والدومينو. أما وقت السحور، فقد أصبح موعدًا لبرامج سطحية ومقالب هزلية ومسابقات خاوية من المعنى. وبين هذا وذاك، تتسابق القنوات لعرض أكبر عدد ممكن من المسلسلات التي لا نراها بهذا الزخم إلا في رمضان، وكأنها خطة مدروسة لتشتيت القلوب والعقول عن العبادة والتقرب إلى الله.
لقد أسس الشيطان شبكة كاملة تبث السموم لتبعد الإنسان عن ربه بأي وسيلة كانت، فتمنعه من الفوز بأجر الشهر العظيم الذي كرّمه الله عن باقي الأشهر وجعله شهر زكاة للبدن والروح معًا. إنه شهر التوبة والاستغفار والتسبيح والإنابة لله العلي العظيم.
رمضان هو شهر محاكاة الروح؛ حيث يتوقف الإنسان مع نفسه ليحاسبها وينظر إلى أخطائها بعين الناقد المحب الذي يريد لها الخير والإصلاح. إنه فرصة للتطهير الداخلي والعودة إلى الله بقلب نقي وروح متجددة. ومع ذلك، هناك من يفوز في هذا السباق الروحي ويخرج من رمضان وقد حمل معه خيره وبركاته وحسناته المضاعفة، وهناك من يخرج منه وقد صام عن الأكل والشرب فقط دون أن يملأ صحيفته بالحسنات التي تتضاعف في هذا الشهر الكريم.
رمضان ليس مجرد صيام عن الأكل والشرب… إنه صيام عن كل ما يُبعد الروح عن خالقها!

قد يعجبك ايضآ