عبدالسلام النابلسي “الكونت” الذي لم يمت: إفيهات خالدة وقصة إنسانية ترويها الأجيال

رحلة الكونت: عبد السلام النابلسي.. من الأزهر إلى عرش الكوميديا

الجذور: بين القضاء والفن

ولد عبد السلام عبد الغني النابلسي في 23 أغسطس 1899 بطرابلس بلبنان، لأسرة فلسطينية عريقة. كان جده ووالده قاضيين في نابلس، فنشأ في بيئة محافظة توارثت العلم والدين. أرسله والده إلى الأزهر الشريف في القاهرة لدراسة الفقه واللغة العربية، فحفظ القرآن وأتقن الفرنسية والإنجليزية بجانب العربية. لكن شرارة الفن اشتعلت في داخله أثناء ثورة 1919، التي شهد فيها أداء نجوم مثل يوسف وهبي ونجيب الريحاني، فانحرف عن مسار الأزهر نحو أضواء المسرح .

التحول من الصحافة إلى السينما

البداية الصعبة

بدأ النابلسي حياته العملية صحفيا في مجلات “مصر الجديدة” و”اللطائف المصورة” و”الصباح“، وكتب أول نقد سينمائي في جريدة “الأهرام“. في مقابلة تلفزيونية،

قال: “لو لم أكن ممثلا لوددت أن أكون صحفيا، فالصحافة علمتني فن الحوار” .

التحق بفرقة “رمسيس” المسرحية ليوسف وهبي، لكنه طرد بعد شهرين لأنه تجاوز النص خلال الأداء! انتقل بعدها لفرقة جورج أبيض، حيث تحول من التراجيديا إلى الكوميديا مصادفة: أثناء أدائه دورا تراجيديا في مسرحية “يوليوس قيصر“، ضحك الجمهور هيستيريا على حركاته، فنصحه أبيض بالتركيز على الكوميديا .

الطريق إلى النجومية:

من دور الشرير إلى “الكونت”

– الانطلاقة:

دخل السينما عام 1929 بدور ثانوي في فيلم “غادة الصحراء” مع المخرجة آسيا، لكن فيلم “وخز الضمير” (1931) كان البوابة الحقيقية، حيث لعب دور الشرير .

– التخصص في الكوميديا:

بدأ بأدوار “الشاب الأرستقراطي” في أفلام مثل “العزيمة” (1939) و”ليلى بنت الريف” (1941)، لكن التحول الأكبر جاء عام 1947 عندما تفرغ للتمثيل الكوميدي بعد نجاحه في “القناع الأحمر” .

– لقب “الكونت”:

منحه إياه يوسف بك وهبي لقدرته على تجسيد شخصية الأرستقراطي الظريف بلمسة شامية، رغم أنه كان ابن القضاة الفقراء .

 

ثنائيات أسطورية:

إسماعيل يس وفريد وحليم

تميز النابلسي ببناء شراكات فنية استثنائية: 

– مع إسماعيل يس:

مثلا معا في 36 فيلما، منها “حلاق السيدات” (1960) حيث انقلبت الأدوار؛ فكان النابلسي البطل وإسماعيل المساعد .

– مع فريد الأطرش:

شاركه 16 فيلما، من أول أفلام فريد “انتصار الشباب” (1941) إلى “الحب الكبير” (1968) الذي عرض بعد وفاته .

– مع عبد الحليم حافظ:

قدّم معه 5 أفلام أبرزها “ليالي الحب” (1955) و”يوم من عمري” (1961)، حيث لعب دور المصور الصحفي، مستعيدا خبرته في الصحافة .

 

الحياة الخاصة:

أشهر عازب تزوج في الستين!  

– العزوبة الطويلة:

لقب بـ”أشهر عازب في الوسط الفني“، وكان يسخر من المتزوجين بقوله: “لسه متزوجين؟ تفرقوا“. أحب الفنانة زينات علوي أثناء تصوير “إسماعيل يس بوليس سري”، لكنها رفضت الزواج منه .

– الزواج المثير :

في الستين من عمره، تزوج من معجبته اللبنانية جورجيت سبات (تصغره بعشرات السنين) في سريه بفيلا صديقه فيلمون وهبي. رفضت أسرتها الزواج، ورفعت دعوى تطليق، لكن المحكمة أقرت صحته.

تقول جورجيت: “لقد طاردته حتى وافق” .  

الأزمات المالية:

من الشهرة إلى الإفلاس

– مشكلة الضرائب:

في أوائل الستينيات، تراكمت عليه ديون ضريبية قدرها 13 ألف جنيه مصري (مبلغ ضخم آنذاك). حاول تخفيضها إلى 9 آلاف، وأرسل 20 جنيها شهريا، لكن السلطات اعتبرت ذلك “تهربا” .

– الهروب إلى لبنان:

عام 1962، سافر للتصوير في بيروت، ونصحه المخرج محمد سلمان بعدم العودة لمصر تجنبا للسجن. هناك، أدار “الشركة المتحدة للأفلام“، و أنتج أفلاما مثل “فاتنة الجماهير” مع صباح .

– الإفلاس الأخير:

خسر أمواله بعد إفلاس بنك “أنترا” في بيروت، وأخفى مرضه القلبي كي لا يتوقف عن العمل .

السياسة: بصمة خفية

– تأثر بثورة 1919 التي غيرت مساره نحو الفن، كما شارك عام 1957 في فيلم “أرض السلام” مع فاتن حمامة وعمر الشريف، مجسدا دور فلسطيني يضحي بحياته لمساعدة الفدائيين ضد الاحتلال الإسرائيلي .

 

المرض والوفاة: نهاية تراجيدية

توفي في 5 يوليو 1968 بأزمة قلبية حادة بعد 15 يوما من تصوير فيلم في تونس مع صباح وفريد شوقي. أخفى معاناته الصحية عن الجميع، حتى أقرب أصدقائه مثل عبد الحليم حافظ. تكفل فريد الأطرش بتكاليف جنازته المتواضعة في بيروت .

 

إرث فني لا يموت

ترك النابلسي أكثر من 200 فيلم، وأصبحت “إفيهاته” جزءا من الذاكرة الشعبية، مثل:

“يا أيتها السماء صبي غضبك على الأغبياء!” .

نال لقب “ملك الإفيهات” لقدرته على المزج بين الفصحى واللهجة في حواراته. ورغم رحيله، بقي نموذجا للفنان الذي حول تناقضات حياته (عزوبته، إفلاسه، جذوره المحافظة) إلى وقود للإبداع .

الكونت

الذي خرج من حلقات الأزهر إلى ستوديوهات السينما، لم يكن مجرد ممثل كوميدي، بل كان ساردا بارعا لتناقضات الإنسان بين المظهر والجوهر، بين الأرستقراطية و الإفلاس، بين العزوبة والحب المتأخر. رحل جسده، لكن ضحكته باقية في كل لقطة من زمن الفن الجميل.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.