عروسة وحصان ..للاديب الكبير العميد أ/ح رءوف جنيدى

عروسة وحصان : _

على وقع اقدام حصانى التى لم أسمع نقرها حتى الآن . ومن فوق صهوته التى لم أمتطيها يوما . وعلى دقات قلب عروس ما رأيتها يوما تجلس الى جوار عريسها . كانت تحملنا أقدام غضة عفيفة . طاهرة المقصد والمسعى . لنطوف دروب بلدتنا وأزقتها خلف ( عم عبده ) بائع حلوى المولد . كان عم عبده يدفع أمامه عربة خشبية متهالكة . تدب قدماه على الأرض من خلفها دبيباً رتيباً هادئأً وتصدر عجلاتها على لحن خطاه . صريراً متقطعاً من أروع سيمفونيات الزمن الجميل . وقت أن كان يتراقص عليها حصانى . وتتمايل عليها العروس التى كانت تضمها شقيقتى الصغرى بين أحضانها .

وحيناً فحيناً كان عم عبده يتوقف بعربته قليلاً . ثم يرفع كفيه الى خلف أذنيه وينادى بصوت عالٍ شجى طويل ( حلاوة زمان ) .. ملوحاً بوجهه . موزعاً نداءه على الخلائق يمينأً ويساراً . لنلتف نحن من حوله بنين وبنات . مرددين من خلفه فى كورال طفولى برئ . وبألسنة مازالت على فطرة الله ( عروسة . حصان ) . عندها يرفع الولد منا حصانه والبنت عروستها إلى أعلى . ليؤكد كل منا لرفاقه أن الأغنية ما كتبت إلا لحصانه الذى يمتطيه فارس مغوار . أو لعروستها التى تزينت وتجملت وكأنها إحدى حوريات الجنة . وكنا مع كل وقفة من وقفات عم عبده . يسرع منا من أنفق كل نقوده إلى بيته ليعود بقرش أو قرشين أخريين ليشترى واحداً من تلك الطراطير زاهية الألوان . وقد رصها عم عبده هى الأخرى رصات مغريات . يداعب النسيم قصاصات ورقية مزخرفة تتدلى منها فتصدر شخللات تشاغل عيوننا البريئة . وتراقص قلوبناً خضراً بين جوانحنا . .فمنا من كان يعود والفرح يتقافز فى عينيه . ومنا من كان يعود بدموع ضارعة إلى الله أن يرزق أهليهم …

كبر الولد منا وصار رجلاً . تزوج عروساً غير التى كانت فى يد أخته أو التى ما زالت فوق عربة عم عبده . تلك العروس التى كنا نراها ملء السمع والبصر . كنا نراها أجمل ما وقع عليه اختيارنا وقتها. ولم لا : وهى الأولى التى ليس قبلها والأخيرة التى ليس بعدها فى الجمال . الذى كنا نبصره بعيون قانعة غير طامعة . ولم لا : وهى التى كلما سمحت لى أختى بتذوقها وجدتها حلوة المذاق .
وكبرت البنت أيضا وصارت زوجة . وما حظيت بفارس أحلامها الذى كان يمتطى حصان أخيها . مرتدياً زى فارس مقدام . ممسكاً بزمام حصانه فى إباءٍ وشمم . ذلك الفارس الذى تفتحت أنوثتها على طيفه . وراحت تتأمله وتأمله . وقت ان كان يوقفه أخوها على الأرض ويهزه أمامها . وكأنه يكر ويفر فى ميدان قلبها . وفى ساحة وجدانها …..

صار الولد أباً . ماعاد المذاق الحلو يرطب فمه . بعد أن جف حلقه جفاف أيام جدبى . لا تعرف اللين . دارت فوق جسده طاحونة الحياة لتهرس عظامه بين فكيها . وقد أخفت الهموم من ذاكرته تلك العروس التى كان يظن أنها ستبقى جميلة حلوة المذاق مدى الحياة …. وصارت البنت أماً بكل أعباء الكلمة وأحمالها . ذهب عنها فارس الأحلام الذى رسمته براءة الطفولة يوماً فى عينيها . حل مكانه أب كادح مكافح . يسعى على قوت عياله ليل نهار . فقد أبلاه الزمن وأذرى به الدهر . و ما عاد ممشوق القوام كما كان . بعد أن انخلع عنه زى الفرسان . وألبسته الدنيا ثوب الشقاء والمعاناة . فبالكاد كان الرجل يحسن هندامه ……

بقى فى صدرى طفل .. كبرت أنا وهذا الطفل لم يكبر . كبرت أختى وطفلتها لم تكبر . بقى الطفل فى صدرى يعادينى . يقاضينى . يسائلنى فى غضب ودهشة : لماذا أخرجته من موكب عم عبده وجئت به إلى هنا . رفض الطفل أن يرافقنى . سحب يده من يدى واستدار عائدا للخلف . ما راقه من الدنيا ضجيجها ولا صراع أهلها . فهذا يقاتل كى يمتلك مساحات أوسع من الأرض .وهذا يحارب ليكمل بناء عماراته الشاهقة . وهذا يلهث خلف الزمن ليزيد من مدخراته البنكية . عاد الطفل يطوى بساقيه أرضاً واسعة . يتسلل من بين عمارات شاهقة . عاد وكل أمله أن يكون والده قد رزقه الله بقرش أو قرشين يشترى بها طرطورا مزينا أسوة برفاقه . عاد باكياً وقد اهتزت الدنيا امام دموعه وتضاءلت .

يتلفت الطفل يميناً ويساراً . يبحث عن الطفلة التى سمعها تناديه من صدر أخته . وجدها . أمسك بيدها . سألته فى براءة . أخى : أين حصانك وأين عروستى .. قال : سنبحث عنهما حيث تركناهم . فى حارتنا . فى بيتنا . حيث كان يقف عم عبده بعربته . عدت أنا وأختى الى الماضى مسرعين . لأنظر الى الدنيا بعين الفارس الأحمر . ولتنظر اختى اليها بعين العروس الجميلة . ولنلحق من جديد بموكب عم عبده بائع الحلوى لنطوف معه دروب البلدة وأزقتها . مصفقين بكفوف رقيقة كأوراق الشجر . مرددين على رجع صوته وبألسنة بريئة . أنشودة الأمل ….. وأغنية الزمن الجميل لحلوى المولد النبوى الشريف ..
حلاوة زمان …… عروسة حصان
وآن الأوان …….. تدوق يا ولد …

رءوف جنيدى..

 

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.