عزت أبو عوف في ذكراه .. أخو البنات الذي سكن قلب الجمهور

 

 

عزت أبو عوف .. في زمنٍ لا ينصف بالضرورة المواهب المركبة، برز عزت أبو عوف كحالة فنية استثنائية، مزجت بين نبل العلم وجمال الفن، بين دقة الطبيب ورهافة الفنان. لم يكن مجرد عازف أورج أو ممثل قدير، بل كان شخصية تحمل في ملامحها ذاكرة جيل، وفي أدائها نكهة مختلفة، لا تشبه أحدًا سواه.

كتبت: ماريان مكاريوس

من الطب إلى الموسيقى… أولى خطوات الاختيار الصعب

ولد عزت حسن أبو عوف في مدينة القاهرة عام 1948، وسط أسرة متذوقة للفن، وشبّ في بيئة سمحت له بأن يصقل شغفه المبكر بالموسيقى، رغم التحاقه بكلية الطب البشري، والتي تخرج فيها طبيبًا متخصصًا. إلا أن الروح الفنية كانت أقوى من أي مسار مهني تقليدي، فقرر أن يهب حياته لعشقه الأول: الموسيقى.

في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كانت القاهرة تموج بحيوية ثقافية وفنية لا تُضاهى، فوجد عزت في فرقة Les Petits Chats البيئة المثلى التي تحتضن موهبته، ليصبح أحد أبرز عازفي الأورج في مصر آنذاك. ولم يكن مجرد عضو في فرقة، بل كان مساهمًا في تشكيل ملامح مرحلة كاملة من التجريب الموسيقي، التي فتحت الأبواب لموسيقى “الروك” و”البوب” بمذاق عربي.


اقرأ ايضا: ترامب يعلن عن هدنة بين إسرائيل وحماس لمدة 60 يوم

“فور إم”… مشروع العائلة الحالم

لم يكتف عزت بكونه جزءًا من تجربة جماعية ناجحة، بل قرر أن يخوض مغامرة جديدة، أكثر حميمية وطموحًا، فأسس مع شقيقاته الأربع فرقة “فور إم” في أواخر السبعينات. حملت الفرقة اسمه ودمه، وقدّمت أغاني خفيفة، جذابة، توازن بين البساطة الموسيقية والذكاء اللحني. وكانت الفرقة حينها علامة على تحديث الذوق المصري في ظل تطور المشهد الفني، وساهمت في تقديم الأغنية العائلية بروح العصر، وجعلت من عزت وشقيقاته رموزًا للألفة والجمال الموسيقي.

 

بدايات متأخرة في التمثيل… لكنها محكمة

رغم نجاحه في الموسيقى، لم يكن الفن بالنسبة لعزت أبو عوف مقتصرًا على نوتة أو لحن، بل كان طيفًا واسعًا من التعبير، وجد في التمثيل فضاءً آخر للبروز. ومع حلول التسعينات، وتحديدًا من خلال فيلم آيس كريم في جليم عام 1992، أطل وجهه على الشاشة كممثل للمرة الأولى، تحت إدارة المخرج خيري بشارة. كان الفيلم نقطة تحول كبرى في مسيرته، وأثبت عزت أن حضوره لا يُختزل في آلة، بل يمتد إلى أداء درامي يفيض بالصدق والبساطة.

ثم توالت أعماله السينمائية، ليشارك في أفلام تعد من علامات السينما المصرية في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، مثل: إشارة مرور، ليلة ساخنة، بخيت وعديلة، طيور الظلام، اضحك الصورة تطلع حلوة، وبنات وسط البلد. لعب أدوارًا متنوعة بين المسؤول الحكيم، والطبيب، والأب، والسياسي، والساخر، لكنه دومًا ظل يحمل مسحة من الوقار والتسامح الإنساني، حتى في أكثر الأدوار صرامة.

اقرأ ايضا: فرصة العمر: شروط الالتحاق بالكليات العسكرية المصرية للمتفوقين والمحاربين

الحضور التلفزيوني… صوت العائلة المصرية

إلى جانب السينما، كان لعزت أبو عوف حضور دافئ في المسلسلات التلفزيونية. أحبّه الجمهور في هوانم جاردن سيتي، زيزينيا، أوبرا عايدة، العمة نور، وعباس الأبيض في اليوم الأسود. وفي كل مرة، كان يظهر كأنما خرج من البيت المصري ذاته، لا من ورق السيناريو. لم يكن تمثيله صاخبًا ولا مفتعلًا، بل من النوع الذي يترك أثرًا طويل المدى، تمامًا كالموسيقى.

وجه خلف الكاميرا وصوت خلف المشهد

بعيدًا عن الأضواء، شغل عزت أبو عوف لسنوات منصب رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، حيث ساهم في تنظيمه ورفعه إلى مستوى لائق دوليًا. كان صوته، الذي عرفه الجميع من خلال البرامج الفنية، محببًا للجمهور، ورؤيته للفن متزنة ومرنة، تستوعب الكلاسيكي والحديث، دون تعصب أو ادعاء.

كما كانت له إسهامات في دعم الفنانين الشباب، خاصة من جيله الموسيقي أو الجيل الذي تلاه، فكان ينصح، ويوجّه، ويؤمن بأن الفن الحقيقي لا يموت، بل يتجدّد باستمرار.

ملامح الختام… رحيل بهدوء كقدومه

في يوليو 2019، غيّب الموت عزت أبو عوف بعد صراع مع المرض عن عمر سبعين عاما، تاركًا وراءه سيرة فنية وإنسانية نادرة. لم يكن صاخبًا، ولم يسعَ إلى البطولة المطلقة، لكنه ملأ الساحة بفنه الحقيقي، وأعطى صورة راقية عن الفنان المثقف، المُهذب، صاحب الذوق الرفيع.

 

تبنيه للمواهب الجديدة

اكثر ماكان يميزه تبنيه المواهب الشابة ووضعها على أول السلم، ومن أهم المواهب التي قدمها كانت موهبة المطرب محمد فؤاد و الذي قدم فيلم (اسماعيلية رايح… جاي) ليحكي من خلاله قصة مافعله الفنان الكبير عزت ابو عوف معه.

 

برحيله، خسر الوسط الفني وجهًا من أجمل وجوهه، وخسرت الموسيقى العربية فنانًا مزج بين الإيقاع والنبل، وبين الحضور الفني والهدوء الداخلي.

إرث لا يُنسى

ربما لا يُصنف عزت أبو عوف ضمن “نجوم الشباك”، لكنه ظل “نجم القلوب” بلا منازع. استطاع أن يحفر لنفسه مكانة خاصة في وجدان المشاهد العربي، تلك المكانة التي لا تُنتزع بالضجيج أو الادعاء، بل تُصنع بالصدق والتنوع والإخلاص للفن.

عزت أبو عوف لم يكن مجرد فنان، بل كان مدرسة في الرقي، وفي التواضع، وفي أن تجمع بين أكثر من موهبة دون أن تطغى إحداها على الأخرى.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.