علماء السلطان
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
علماء السلطان كتب أحد المشايخ غاضباً : (إن هذا المصطلح من اختراع الجماعات الإسلامية لاتهام كل من لا يوافقهم ) .
وقد سمعنا ذلك أيضاً ممن ( على راسهم بطحا ) وكما قيل : يكاد المُريب يقول : خذوني، بل تبجح بعض هؤلاء المشايخ واعتبرها مفخرة وقُربة إلى الله !
علماء السلطان
ولتأصيل هذه المسألة أقول : يُقصد بمصطلح علماء السلطان نوع من الشيوخ والعلماء يُسخّرون علمهم ومكانتهم لخدمة الحكام طمعًا في عطاياهم أو خوفًا من بطشهم وقد ورد ذمُ هذا السلوك لما فيه من إيثار الدنيا على الآخرة وتقديم رضا المخلوق على رضا الخالق.
ففي الحديث عنه ﷺ ” …ومن أتى أبوابَ السُّلطانِ افتُتِن وما ازداد عبدٌ من السُّلطانِ قُربًا إلّا ازداد من اللهِ بُعدًا ” رواه أحمد والبزار وحسنه المنذري والألباني وفي حديث آخر : إياكم وأبواب السلطان، فإنه قد أصبح صعباً هبوطاً. رواه الطبراني والديلمي، وصححه الألباني. قال المناوي في فيض القدير: صعبا ـ أي شديدا: هبوطا ـ أي يُنزل درجة مَن لازمه، ويُذله في الدنيا والآخرة ، ورُوي (حبوطا) ـ بالحاء – أي يحبط العمل والمنزلة عند الله تعالى ، وروي (خبوطا) بالخاء ، والخبط أصله الضرب، والخبوط البعير الذي يضرب بيده على الأرض ، وإنما كان كذلك، لأن من لازم أبوابهم لم يَسلم من النفاق ولم يصب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه أغلى منه ، وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم، سيما من له لهجة مقبولة وكلام عذب وتفاصُح وتشدق، إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أن في دخولك لهم ووعظهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم الشرع، ثم إذا دخل لم يلبث أن يداهن ويطري وينافق فيهلك ويهلك.
اهـ. ومعنى قول النبي ﷺ: ” من أتى أبواب السلطان افتتن ” قال المباركفوري: افتتن ـ بصيغة المجهول أي وقع في الفتنة، فإنه إن وافقه فيما يأتيه ويَذره فقد خاطر على دينه، وإن خالفه فقد خاطر على دُنياه.
اهـ. وقال المناوي: وذلك لأن الداخل عليهم إما أن يلتفت إلى تنعّمهم فيزدري نعمة الله عليه، أو يُهمل الإنكار عليهم مع وجوبه فيفسق فتضيق صدورهم بإظهار ظلمهم وبقبيح فعلهم، وإما أن يطمع في دنياهم وذلك هو السحت ” ومما تقدم يُعرف أن ذلك ينطبق على من دخل عليهم يلتمس دنياهم، فداهن، أو نافق، فسكت عن الحق، أو تكلم بالباطل، ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، وأما من صدع بالحق ولم يخش في الله لومة لائم فهو من المجاهدين الكبار ، فقد قال رسول الله ﷺ: إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.
رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الألباني. وأخرج أبو عمر الداني في كتاب “الفتن”: “لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وكَنفه، ما لم يُمالئ علماؤها أُمراءَها”ويمالئ أي يداهن وينافق . والحديث مرسل عن الحسن البصري.
ومما نُقل عن الصحابة والتابعين في ذلك ما رواه البخاري في تاريخه والبيهقي في الشعَب عن علي قال: اتقوا أبواب السلطان. ومنها ما رواه معمر في جامعه والخطابي في العزلة والبيهقي عن ابن مسعود قال: إن على أبواب السلطان فِتناً كمَبارك الإبل، لا تصيبوا من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينكم مثله. وروى أحمد بإسناده : أن عبد الله بن عمر لقي ناساً خرجوا من عند مروان ( بن الحكم ) فقال: من أين جاء هؤلاء؟ قالوا : خرجنا من عند الأمير مروان، قال: وكل حق رأيتموه تكلًّمتم به وأعنتُم عليه؟ وكل منكر رأيتموه أنكرتمُوه عليه؟ قالوا : لا والله، بل يقول ما يُنكَر فنقول : قد أصبتَ أصلحك الله، فإذا خرجنا من عنده قلنا: قاتله الله ، ما أظلمه وأفجره ! قال عبد الله: كنا بعهد رسول الله ﷺ نعدُّ هذا نفاقًا لمن كان هكذا “.
المسند وصححه أحمد شاكر والأرنؤوط . وعن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر : قالَ أُناس لِابْنِ عُمرَ: إنّا ندخلُ على سلْطانِنا ( أي أمرائنا وحكامنا ) فَنَقُولُ لهمْ خِلافَ ما نتكَلَّمُ إذا خَرجْنا مِن عِندِهِمْ، قالَ : كُنّا نعدُّها نِفاقًا . رواه البخاري وروى أبو نعيم في الحلية والذهبي في السير عن جعفر الصادق أنه قال: الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم وأخيراً فلا تزال الأمة طوال تاريخها تعرف علماء الحق القائمين بالقسط وحق العلم وتثني عليهم ، كما تذكر علماء السوء ومخازيهم (الذين يُبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ) ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَاقَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَابَ لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡا۟ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰا فَبِئۡسَ مَا یَشۡتَرُونَ﴾