على فين واخدانا يا دنيا

على فين واخدانا يا دنيا

بينما أنا في محطة تموين وقود السّيارة ، التي أضافتت من فترة قريبة الخدمة  الذاتية لوضع الوقود كما يحدث من زمن في أوربا والدول المتقدمة كما يقولون، وإذ بي أجد نفسي أنني قد تعوّدت ذلك بعد  أن اعتدت تجربة وضع الوقود لسيارتي من فترة وبينما أنزل قدمي من سيارتي وأكمل كوبليه الأغنية مسترسلة فلم يقطع حبل أفكاري وغنائي أيّة عائق كأن  لو تحدثت لعامل المحطة  من ذي قبل…  فانتبهت بأنني أشعر بحالة من الإنسجام مع ذاتي ولا يقطعها أحد عليّ حتى نسيت الشّارع والناس ولم أنتبه لوجود أحد،  وحقا لم ينتبه بالأساس لغنائي وصوتي العذب أي أحد .فظللت أكمل وأنا أفكّر في ما ستؤول إليه الحياة في المستقبل القريب استكمالاً لما نحن عليه الآن…
فبعض المطاعم حاليا تعتمد على الخدمة الذاتية بطريقة لطيفة وجذابة لا تشبه بوفيهات المطاعم وإنما يجلس الزائر على كرسي أمام بار مرتفع تمر من أمامه الأطباق التي يقدمها المطعم  من خلال رفّ دوار أوتوماتيكي وينتشل  مرتاد المطعم الصنف الذي يريد أن يأكله ويكرر الأمر اذا احتاج  المزيد وفي النهاية يقوم بدفع ثمن الأطباق التي سجلت برقم مقعده ولا حاجة للنادل الذي يقبل ويسأل وأنت تفكر ثم تطلب بأدب وبعدها تنادي :الحساب من فضلك الخ … فقط اجلس في مقعدك وتناول ما شئت ثم تناوله (بدون وجع دماغ ) وادفع فاتورتك واذهب وربّما تكون سيارتك مصفوفه في جراج المطعم أو المركز التّجاري والتي تعتمد على الخدمة الذاتية فاذهب وادفع في الآلة بكارت البنك الخاص بك وارحل في سلام فالباب الأتوماتيكي سيتكفل بإخراجك فور دفعك لحق استخدام الجراج.
ولا حاجة للمنادي الذي حمى لك السيارة وتكفل برعايتها وعليك ان تخرج من جيبك مبلغا غير معروف ربما لا يرضيه ويجادلك من أجله وربما يسعده (فتأخذ لك دعوة على الماشي مع تعظيم سلام) فلا داع أبدا لكلّ هذا فأنت في مكان أكثر تحضرا.
والجدير بالذكر أنّ وجبتك تلك التي تناولتها في المطعم  بهدوء دون الاحتكاك بأحد كانت أشبه بأمسية منفردة قضيتها مع نفسك في صحبة محمولك الرائع الذي يملأ حياتك بهجة دون أن يعترضك أحد (مراتك مثلاً تقولك بصلي ) أو أمّك تتوسّل إليك لتنتبه للجلسة الجماعية وتشاركها فلا داعٍ أبداً ولا وجود لهذا من الأساس .فأنت وحدك تشاهد ما يحلو لك وتلعب اللعبة المفضلة بعيدا عن الصخب العائلي.
وعلى صعيد آخر في الفترة الأخيرة بدأت تتزايد فرص العمل من المنزل وأن يكون لك دخل منزلي تحصله من عمل مكتبي منزلي تقيمه على جهازك  سواء موبايل أو لاب توب بحيث أصبح بمقدورك التواصل مع شركائك وعقد صفقات معهم عن بعد دون التواصل والتعامل الإنساني،  فتعرض المنتج أو تتعاقد على العمل وتقدّمه وتستلم المبلغ في حسابك  دون أن تتكبّد عناء الوظيفة والمدراء والزملاء،  وتكفيك رسالة خطيّة منمّقة تفي بالغرض المطلوب وتنجز المهمة،
ربّما يكون قد أعدّها لك شخص دفعت له مقابلا ليحسن تقديم منتجك بشكل جذاب .
وفي مقابل هذه المتع التي تزداد  يوما بعد يوم وتقلل من الاحتكاك المزعج بالبشر فقدنا الكثير من آدميتنا وتفاعلنا كبني آدم  بل وآداب التعامل الاجتماعي الناجح   مثل إفشاء السلام والاستئذان والتعامل المهذب ومهارات ضبط النفس وحضور الردّ الدبلوماسي ومهارات التّعامل في فريق مثل  آداب الحديث والمجاملة  والالتفات لشريكك  بل والتّعامل مع البسطاء والشّعور بجمال الحياة وانسانيتك والحاجة للأنيس والصّاحب…ولا أبالغ فنحن نتوجّه بأنفسنا ربما لحياة أهدأ لكن أقلّ متعة وجمالا  وستتقلّص إمكانياتنا في التّواصل الجيّد  وربّما ندفع أكثر أو أقل لا أدري ، فما يشغلني هو إنسانيتنا التي تضمحل شيئا فشيئا … فوجودك وسط جمعات زمالة وجيرة وأهل يشعرون بك ويتفقدون احتياجاتك وينتظرون منك واجبا متبادلا لن يعد في المستقبل القريب لها وجود ، ونحن سنبيت منعزلين ومكتفيين وسنتحول يوما لشجرة تموت في مكانها كمدا من اللإنسانية التي سكنت قلوبها  إن لم نستفيق ونقدّر قيمة الآخر في حياتنا.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.