عَرَفَة خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ
عَرَفَة خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
يَوْمُ عَرَفَةَ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ، وَالْحَجُّ الْأَكْبَرُ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ؛
إِنَّهُ التَّاسِعُ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، ثَانِي أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَأَشْهَرُ أَعْمَالِهِ، وَأَفْضَلُ قُرُبَاتِهِ وَمَشَاعِرِهِ وَمَنَاسِكِهِ.
يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ حَازَ أَطْيَبَ الْفَضَائِلِ، وَحَوَى أَرْفَعَ الْمَنَازِلِ كَيْفَ لَا وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي مَا أَكْثَرَ مَا يُعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ النَّارِ .
فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ
رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَؤُوبَ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بِلَالُ، أَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ .
فَقَامَ بِلَالٌ فَقَالَ: أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْصَتَ النَّاسُ فَقَالَ:
مَعْشَرَ النَّاسِ، أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفًا فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلَامَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ-
غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ، وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ .
فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَنَا خَاصَّةً .
قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَثُرَ خَيْرُ اللَّهِ وَطَابَ .
هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَتَمَّ اللَّهُ فِيهِ النِّعْمَةَ وَأَكْمَلَ فِيهِ الدِّينَ؛
فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا .
قَالَ: أَيُّ آيَةٍ ؟
قَالَ:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
سورة الْمَائِدَةِ
قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمْعَةٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
يُكَفِّرُ صَوْمُ يَوْمِهَا سَنَتَيْنِ مَاضِيَةٍ وَآتِيَةٍ حَيْثُ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ
عَرَفَةُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ، بَلْ وَأَفْضَلُهَا، وَالَّتِي هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ عُمُومًا فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ .
قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟
قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
يَوْمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ لِمَكَانَتِهِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ :
قَالَ تَعَالَى:
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
سورة الْبُرُوجِ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمْعَةِ .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَهُوَ الْوَتْرُ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ:
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ
سورة الْفَجْرِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّفْعُ يَوْمُ الْأَضْحَى،
وَالْوَتْرُ يَوْمُ عَرَفَةَ .
وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ.
يَوْمٌ يُبَاهِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ- بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ أَهْلَ السَّمَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا .
وَانْطِلَاقًا مِنْ هَذَا الْفَضْلِ وَالْمَنْزِلَةِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا يَوْمُ عَرَفَةَ يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِحُضُورِهِ، أَوْ لَمْ تُسْعِفْهُ الظُّرُوفُ لِشُهُودِهِ أَنْ يَسْتَغِلَّهُ بِالصَّالِحَاتِ وَالْقُرُبَاتِ وَمِنْهَا:
لِمَنْ كَانَ حَاجًّا أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ إِنْ تَيَسَّرَ فَذَلِكَ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَفِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ عَرَفَةَ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
وَقَفْتُ هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ
صِيَامُهُ لِغَيْرِ الْحَاجِّ :
فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ .
وَأَمَّا الْحَاجُّ فَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ.
الِاجْتِهَادُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا إِدْرَاكًا لِفَضِيلَةِ الْعَشْرِ :
وَيَوْمُ عَرَفَةَ مِنْ أَهَمِّهَا لِيَشْمَلَهُ حَدِيثُ:
مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ…
التَّبَتُّلُ إِلَى اللَّهِ وَالِانْقِطَاعُ إِلَيْهِ وَالتَّخَلِّي مِنْ كُلِّ مَشَاغِلِ الْحَيَاةِ وَالْإِكْثَارُ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ .
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَدَاةِ عَرَفَةَ فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ .
إِنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِحَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى كَيْفَ كَانَ حِرْصُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجْتِهَادُهُ .
فَبَعْدَ أَنْ أَتَمَّ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ وَأَنْهَى خُطْبَتَهُ رَكِبَ بَغْلَتَهُ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَجَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَلَمْ يَكُنْ أَصْحَابُهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِمَنْأًى عَنْ هَذَا الْهَدْيِ، بَلْ أَخَذُوا عَنْهُ هَذَا الِاجْتِهَادَ وَعَاشُوا هَذَا الشُّعُورَ؛ فَكَانُوا بَيْنَ خَائِفٍ مُنْكَسِرٍ وَوَجِلٍ طَامِعٍ؛
فَهَذَا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الثَّكْلَى الْمُحْتَرِقَةِ، قَدْ حَالَ الْبُكَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ، فَلَمَّا كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ:
وَاسَوْأَتَاهُ مِنْكَ وَإِنْ عَفَوْتَ .
وَكَانَ يَقُولُ لِشُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ:
إِنْ كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّهُ شَهِدَ الْمَوْقِفَ أَحَدٌ شَرٌّ مِنِّي وَمِنْكَ فَبِئْسَمَا ظَنَنْتَ .
وَدَعَا بَعْضُ السَّلَفِ بِعَرَفَةَ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَقْبَلْ حَجِّي وَتَعَبِي وَنَصَبِي فَلَا تَحْرِمْنِي أَجْرَ الْمُصِيبَةِ عَلَى تَرْكِكَ الْقَبُولَ مِنِّي .
وَوَقَفَ بَعْضُهُمْ بِعَرَفَةَ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا تَرُدُّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ مِنْ أَجْلِي .
يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ الْوُقُوفُ الْأَصْغَرُ لِوُقُوفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْعَرْضِ الْأَوَّلِ، وَالصُّورَةُ التَّقْرِيبِيَّةُ لَهَا، وَالْمَشْهَدُ الْحَيُّ لِمَشَاهِدِهَا.
فِي عَرَفَةَ يَتَوَافَدُ الْمُحْرِمُونَ إِلَى شِعَابِهَا وَقَدْ كَسَتْهُمُ السَّكِينَةُ وَالْخُشُوعُ وَعَلَتْهُمُ الْمَهَابَةُ وَالْخُضُوعُ، الْكُلُّ حَطَّ رِحَالَهُ، وَأَنَاخَ رِكَابَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ فَزِعًا إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ وَمُعْتَذِرًا إِلَيْهِ مِنْ قُصُورِهِ وَطَامِعًا إِلَى اللَّهِ فِي جِوَارِهِ.
فِي عَرَفَةَ تَتَجَلَّى وَحْدَةُ الْأُمَّةِ وَتَخْتَفِي مَظَاهِرُ عُنْصُرِيَّتِهَا وَتَمَايُزِهَا؛ فَاسْتَوَى عِنْدَهَا الْوَاقِفُونَ؛
يَدْعُونَ رَبًّا وَاحِدًا، وَيُؤَدُّونَ هَدْيًا وَاحِدًا
وَلَوْ رَأَيْتَهُمْ وَقَدْ صَبَغَهُمُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَالْحَالُ وَسَاوَى بَيْنَهُمْ؛ فَلَا تُفَرِّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ حَاكِمٍ وَمَحْكُومٍ، وَلَا بَيْنَ غَنِيٍّ وَمَحْرُومٍ، وَلَا بَيْنَ عَزِيزٍ وَذَلِيلٍ ذَابَتْ وَقْتَهَا الْفُرُوقُ الْفَرْدِيَّةُ وَغَابَتْ بَيْنَهُمُ الطَّبَقِيَّةُ.
تَوَحَّدَتْ قُلُوبُهُمْ وَدَعَوَاتُهُمْ، كَمَا تَوَحَّدَتْ أَجْسَامُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ إِلَى اللَّهِ مُلَبِّينَ وَدَاعِينَ وَذَاكِرِينَ.
فَلَا غَرَابَةَ إِنْ طَارَتْ قُلُوبُ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى اللَّهِ شَوْقًا وَوَجَلًا، وَسَمَتْ أَرْوَاحُ الْمُتَبَتِّلِينَ إِلَيْهِ خَوْفًا وَطَمَعًا، وَاخْتَلَطَتْ دُمُوعُ الْمُحِبِّينَ لَهُ فَرَحًا وَهَلَعًا؛
فَيَا لَلَّهِ مَا أَجْمَلَ تِلْكَ الْبِقَاعَ، وَلِبَاسُ الْمُحْرِمِينَ يُزَيِّنُهَا، وَصَدَى الْمُلَبِّينَ تَعْلُوهَا؛ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ أَبِي الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامِ الْمُوَحِّدِينَ، فِي مَنْظَرٍ مَهِيبٍ وَمَشْهَدٍ رَهِيبٍ بَيْنَ أَجْوَاءٍ إِيمَانِيَّةٍ سَاحِرَةٍ.
وَكُلَّمَا أَمْعَنَّا النَّظَرَ وَتَرَكْنَا لِلْخَيَالِ السَّفَرَ فَمَشْهَدٌ مِثْلُ عَرَفَةَ لَا تُتَرْجِمُهُ سُطُورٌ وَلَا تَسَعُهُ نُقُولٌ .
فَلَا نَمْلِكُ إِلَّا أَنْ نُرَدِّدَ أَفْضَلَ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّونَ فَنَقُولُ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
اللَّهُ أَكْبَرُ .. اللَّهُ أَكْبَرُ .. اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .. اللَّهُ أَكْبَرُ .. اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
وَإِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ مَكَانًا، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِهَا زَمَانًا يَقُولُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَنْ فَاتَهُ فِي هَذَا الْعَامِ الْقِيَامُ بِعَرَفَةَ، فَلْيَقُمْ لِلَّهِ بِحَقِّهِ الَّذِي عَرَفَهُ وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ فَلْيَبِتْ عَزْمُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَقَدْ قَرَّبَهُ وَأَزْلَفَهُ وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِأَرْجَاءِ الْخَيْفِ فَلْيَقُمْ لِلَّهِ بِحَقِّ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
نَحْرِ هَدْيِهِ بِمِنًى فَلْيَذْبَحْ هَوَاهُ هُنَا وَقَدْ بَلَغَ الْمُنَى
وَمَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْبَيْتِ لِأَنَّهُ مِنْهُ بَعِيدٌ، فَلْيَقْصِدْ رَبَّ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَنْ دَعَاهُ وَرَجَاهُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ .