غريب الحارة “قصة قصيرة” للدكتور / عمر محفوظ

غريب الحارة قصة قصيرة

بقلم الدكتور / عمر محفوظ ” كاتب وناقد”

غريب الحارة .. في زقاق الشيخ السادات، أحد الأزقة المتفرعة من حي الجمالية العتيق، ظهر رجل لا يشبه أهل الحارة في شيء. طويل القامة، نحيف الجسم، أشعث الشعر، يرتدي بدلة داكنة أكل الزمن أطرافها، ويحمل حقيبة جلدية صغيرة، تبدو كأنها تحمل كل ماضيه. لم يعرف أحد من أين أتى، لكنه فجأة استأجر غرفة متواضعة أعلى “قهوة الميدان”، ودفع الإيجار مقدمًا لثلاثة أشهر. لا تفاوض، لا جدال، فقط نظرة طويلة من عينيه الرماديتين وعبارة قصيرة قالها لصاحب القهوة الحاج سليم:
– “أحتاج إلى مكان أنام فيه… وأنسى.”
كان اسمه مروان عبد السلام. هكذا قال. لكن اسمه لم يلتصق بالناس. أطلقوا عليه ألقابًا شتى: “الغريب”، “المجذوب”، “المولانا المجنون”. وحدهم الأطفال كانوا يرونه شيئًا غريبًا ومثيرًا، يراقبونه من بعيد وهو يخرج كل مساء، يجلس على المقهى بصمت، ويكتب لساعات في دفتر جلدي لا يفارقه، ثم ينظر طويلًا إلى مئذنة الأزهر كما ينظر التائه إلى خريطة السماء.
لم يكن أحد يجرؤ على سؤاله، ربما لأن هالته كانت أكبر من الحارة، أو لأن حزنه كان كثيفًا يخنق من يحاول اختراقه.
ذات مساء، سمعه الحاج سليم يتمتم بعد أن صبّ له الشاي:
– “أتيتُ من بلدٍ بارد… دفنت فيه زوجتي وولدي، ثم دفنت قلبي.”
لم يرد العجوز. فقط وضع الشاي أمامه وقال:
– “كلنا دفنّا حاجة يا حاج مروان… بس القبر فين؟ ده السؤال.”
لم تكن مصر وطن مروان، لكنه لم يعد يملك وطنًا آخر. هو أستاذ فلسفة سابق، فرّ من بلده بعد انقلاب غامض، وُضعت فيه أسماء كثيرة على لوائح “غير المرغوب فيهم”. كان واحدًا منهم، لا لشيء إلا لأنه كتب مقالًا يتساءل فيه عن حرية الإنسان في مواجهة سلطة الإله المزيّف في السلطة. لم تكن المقالة سوى فلسفة وجودية، لكنهم قرأوها كخيانة.
في القاهرة، لم يسعَ إلى التدريس ولا الصحبة، فقط أراد أن يعيش بلا ماضٍ. لكن الماضي لا يُنسى، فقط يتنكر في أشكال جديدة.
الدفتر الجلدي الذي يكتبه كل مساء، لم يكن رواية ولا اعترافات، بل أقرب إلى مرآةٍ مكسورة. كتب فيه:
“الإنسان ليس كائنًا يبحث عن الحقيقة، بل عن مَن يصدّقه وهو يكذب على نفسه.”
في أحد الأيام، دخلت إلى القهوة فتاة عشرينية تُدعى ليلى. كانت ممرضة في مستشفى الحسين الجامعي، جاءت تبحث عن والدها الذي يعاني الزهايمر وغاب عن البيت. وجدته جالسًا مع رواد القهوة، يضحك دون سبب. حين رأى مروان ليلى، ارتجف. كان في ملامحها ظل قديم… شيء يشبه من فقدهم.
حين تحدثت إليه، شعر كأن الكلمات تخرج من قبر دافئ. كانت ليلى ذكية، مرحة، ذات فضول طيّب، لا تخشى صمته ولا غموضه. بدأت تمرّ على القهوة من حين لآخر، تجلس قربه، تسأله عن الكتب التي يقرأها، وعن الأفكار التي يكتبها، وعن سبب غربته.
لم يكن يجيب غالبًا، لكن أحيانًا، كان يتكلم كما لو أنه نسي أنه لا يتكلم.
قال لها ذات يوم: – “أنتِ تُشبهين من كانت تسكنني… ليس في الشكل، بل في النقاء.”
ضحكت، وقالت:
– “بس النقاء مش بيخلّي حد يسكن حد… لازم يكون في مفتاح.”
فقال:
– “مفتاحي ضاع… يوم ضاع الوطن.”
مع الوقت، بدأت روحه تهدأ، وبدأ يبتسم أحيانًا. كتب في دفتره:
“ربما لم تأتِ الحياة لتقهرني، بل لتجرب آخر محاولة للمصالحة.”
لكن كما أن الفرح لا يدوم، فإن الغربة لا تسمح بالتصالح الكامل. في مساء خريفي كئيب، دخل القهوة رجل غريب، أنيق في مظهره، يحمل حقيبة من الجلد الأسود، جلس قرب مروان وهمس له:
– “أستاذ مروان… ما زالوا يفتّشون عنك هناك. جوازك سقط، لكن صورتك ما زالت معلّقة.”
سكت مروان. لم ينظر في عينيه. فقط شرب الشاي دفعة واحدة وقال:
– “أنا هنا لا أملك اسمًا… ولا وطنًا.”
ترك الرجل له ورقة صغيرة عليها عنوان، وقال:
– “هذا مكتب الترحيل الدولي… القرار ليس بيدي.”
في تلك الليلة، لم يذهب مروان إلى المقهى. لم يكتب. لم يزر ليلى. في اليوم التالي، وجدت ليلى الدفتر الجلدي موضوعًا عند باب القهوة، وعليه عبارة واحدة:
“هذه روايتي الناقصة. كتبتها لأفهم نفسي، فازددت غربة. إن وجدتِ النهاية، أرسليها إليّ… في السماء.”
اختفى مروان بعدها. لم يُعرف هل غادر، أم أُخذ بالقوة، أم اختار أن يتلاشى كظلّ طويل في زقاق النسيان.
لكن ليلى جمعت أوراقه، رتبتها، وأخرجتها في كتاب حمل عنوان: (غريب الحارة).
أهدته إلى روح كل من لم يجد وطنًا يسعه، وكتبت في المقدمة:
بعض الغرباء، حين يمرّون في حياتنا، لا يتركون ذكريات… بل يتركون مرايا نرى فيها أنفسنا بشكل لم نعرفه من قبل.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.