وجبة سريعة من الهايكو السردي جاءت في زمن السرعة؛ ليقدّم للقارئ في ثلاثِ جمل سردية تتضمن العنوان، وتحته قصة قصيرة جداً، وهذه القصة تحيل اللغة إلى سهامٍ مصوبةٍ نحو الهدف، وتجعلها شكلاً تعبيرياً منزاحاً عن الأشكال التقليدية. وأقر عدد من الدارسين بأنها نشأت في أمريكا والغرب، ثم انتقلت إلى عالمنا العربي عن طريق الترجمة والتأثر والتأثير، والمثاقفة.
نشأة القصة القصيرة جداً:
ظهرت القصة القصيرة جداً في النصف الثاني من القرن الماضي في التسعينيات؛ بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المستجدة التي شهدتها المجتمعات كافة. حيث طرأ تغيير على بنية القصة في الأدب العربي، فظهرت أشكال جديدةً في تغيير الصياغة والتشكيل الفني لم تكن مألوفةً من قبل.
انتشرت في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي عن طريق الترجمة، والتثاقف، والتأثر، والتأثير.
مما لا شك فيه إن نص القصة القصيرة جداً جنس أدبي مستحدثٌ مكثف، ومضطرب يتراوح بين الظاهر والباطن، وبين الجلي والخفي، وبين المعلن والمضمر، ولكن لا ينظر النقاد الغربيين له من منطلق ربطه بهذه التغيرات بل ينظرون إليه على أنه لوناً لطيفاً من ألوان الأدب القصصي. إن هذا النوع الذي أخذ يفرض نفسه على القارئ أصبح الآن واقعًا ملموسًا ومتميزًا ويعدّ “فن المستقبل”.
تستند على قصر الحجم، والإيحاء والتكثيف. فيها المفارقة والواقعية والعجائبية، والحضور السردي الموجز والنهاية. تُبنى على الرمزية والتلميح بدل من التصريح في جملٍ صغيرةٍ موسومةٍ بحركيةٍ غايتها توتير المواقف، وتأزيم الأحداث مبنية على الاختزال، وتنفرد عن الأنواع السردية الأخرى؛ لأنها تقاس بعدد الكلمات والسطور التي يتألف منها النص، والتي ترتكز على الإيجاز الذي يغلب على هذا الضرب من الكتابة القصصية التي تحمل القارئ إلى حالة من التأمل.
بداية ظهورها:
كان أول ظهورٍ للقصة القصيرة جداً مع الكاتب الأمريكي (إرنست همنغواي) في عام1925م وكان نصه لا يتجاوز ست كلمات وهي كالتالي: (للبيع، حذاءُ لطفلٍ لم يُلبس قطٌّ). وعلى ذلك أتفق الغرب والشرق على أن الكاتب (الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو) يُعد رائداً للقصة القصيرة جداً، حيث كتب قصته المشهورة في سبع كلمات باللغة الإسبانية تحت عنوان(الديناصور) وهي مؤلفة من سبع كلمات كالتالي: (عندما استيقظ، كان الديناصور مازال هناك).
ظهرت القصة القصيرة جداً في أمريكا اللاتينية في سنة 1950م، وكانت تتكون من سطرين فقط.
يُعد (ايفان تورغينيف) المؤسس الحقيقي لهذا النمط المقتضب في روسيا فهو أول من كتب نصوص القصة القصيرة جداً في أواخر القرن التاسع عشر. وفي هذا الإطار فإن العديد من الكُتاب العالميين كتبوا نصوصاً قصصيةً قصيرة جداً، وفي مقدمتهم (أنطوان تشيخوف) و(ايفان بونين)، و(فرانز كافكا). ومن الكتاب الأمريكيين (راي برادبري)، وفي بريطانيا (آرثر كلارك)، وفي اليابان (ياسوناري كاواباتا)، وفي الأرجنتين مايسترو القصة القصيرة جداً (خوليو كورتاثر).
في عام 1938م صدر كتاب (انفعالات) للروائية والكاتبة الفرنسية (ناتالي ساروت) فكان هذا الكتاب بمثابة أول بادرة موثقة علميًا بأوربا لبداية القصة القصيرة جداً فأصبح هذا العمل نموذجًا يحتذى به عند العرب. ويتضمن العمل أربعة وعشرين نصًا قصصيًا قصيراً جداً دون أي حبكات معقدة أو شخصيات، أو أسماء، وهذا الكتاب كان له تأثير كبير في الساحة الأدبية الفرنسية والعالمية على حد سواء؛ لأنه كان بداية ظهور للون جديد من فنون النثر القصصي وترسيخه.
يقول الناقد الكوبي من أصل إيطالي (ايتالو كالفييو) أنه كتب في هذا النمط السردي مستلهماً تجربته من (بورخيس)، في حين أن الكاتبة الأمريكية (ليديا ديفيس) اشتهرت بقصتها القصيرة جداً ونالت عنها جائزة البوكر الدولية لعام 2013م.
كتب المؤلفون الأخرون نصوصهم مثل قصة (القطار السريع) للكاتب الإسباني (بيري كالداس) وجاء فيه كالتالي لم يشأ أحد أن يخبره بموعد وصول القطار. رأوه ينوء بحمل الحقائب فآلمهم أن يشرحوا له أنه لم تكن هناك أبداً، سكة حديد ولا محطة قطارات).
جَنَحَ إليها كُتاب أميركا اللاتينية في إجراء نصوصهم القصصية مجرى الأساطير والحكايات، والغرائب حيث اتسمت نصوصهم بالتلميح والمواربة بدافع الاضطهاد السياسي، والحرمان الاجتماعي؛ حيث أنهم صوروا رتابة الحياة اليومية؛ فكانت نصوصهم أقرب من الواقعية المبتذلة والمكاشفة والافصاح عن خلجات صدورهم ونزعتهم الإنسانية المتخفية وراء الكلمات والجمل والسطور.
لا بُدّ من الإشارة بإن كُتاب القصة القصيرة جداً يعبرون عن رؤيتهم للحياة وللعالم والوجود من خلال التعبير عما يجول حولهم من ظواهر ووقائع قد لا يلتفت إليها سواهم من الناس، ومع اختلاف أساليبهم في ترجمة رؤيتهم تلك، وبناءً على ذلك طغت السردية باعتبارها تمنح النص المظهر الحكائي، ومن البديهي أن يشعر القارئ بركون تلك القصص؛ لأن فيها تضافر الوضعيات والتحولات، وأن وقائع القصة وأحداثها تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الحكي مثل قصة (صدى) للكاتب الأوروغواياني (إدوارد غاليانو) فكان نص القصة كالتالي:( في الازمنة القديمة، عرفت الحورية صدى كيف تتكلم ، ونطقت نطقاً بلغ من السمو حداً أن كلماتها بدت جديدة دائمًا لم يتفوّه بها أحد من قبل أبداً، ولكن الإلهة “هيرا ” زوجة “زوس” الشرعية لعنتها في أثناء نوبة من نوبات غيرتها، ولقد عانت صدى من أسوء عقاب : حرمان من صوتها، ومنذ ذلك الزمن وهي غير قادرة على الكلام لا تستطيع سوى تكرار ما تسمع. تلك اللعنة تبدو في هذه الأيام فضيلة). لقد كانت نزعة هذه القصة سحرية، وفيها مفارقة وميل إلى المداراة على بعض المكونات السردية التي تسهم بشكل رئيسي على تشكيل الحكاية. فالأسماء تحمل أسماء تخيلية والبعض الآخر أسطوري من اصطناع القاصّ، وبفعل تحويلي ينشأ ضرباً من الاختلال الذي يتوسط الوضعيين الابتدائي والنهائي، وهذه الحكاية التي تمثل نواة للقصة القصيرة جداً يقوم بإنتاجها راوٍ غائب يسرد الأخبار سرداً موضوعياً على عكس القصة الغربية فترتكز على مخاطبة القارئ عبر محكي الأفكار التي يكون أساسها الوجدان أكثر من البنية السردية.
وكما يقول (أمبرتوإيكو): (فلابد علينا أن نتهيأ لأداء دور القارئ). وعلى هذا المنوال فإذا اتجهنا إلى المجموعة القصصية التي كتبها (لورون برتبهم) نجد أنها تهتم بتفاصيل الحياة اليومية، ولكنها تحمل في طياتها مغزىً عميقاً لمن فكَر، وسمع بشكل عميق حيث أنها تروي حكايات أولئك الذين أنهكتهم الحياة في السعي وراء طلب الحوائج، وألم الحياة؛ فانعكس ذلك في وجدان الأشخاص والقارئ.
الكاتب الفرنسي (فيليكس فينيون) أستطاع أن يوفق بين الخطاب الصحافي والخطاب الأدبي في القصة القصيرة جداً، وأقتدى في تأليفها بالأخبار التي تتسم بالعنف، وخير مثال على ذلك القصة -الخبر (السيد فوزان)، وأيضا أتسم أسلوبه بالتجرد من كل أحساس؛ لأن القصة الخبر متداولة بين الناس والقراء.
وعلى ذلك ففي إحدى القصص الموسومة (هي) للكاتب الكيبيكي (لورون برتيوم) جاء هذا النص: (كانت تمشي ببطء.. ببطء.. شديد.. ببطء شديد للغاية.. لن تصل أبداً) نجد في هذا النص القصصي أن الخطاب فيه لا يختلف عن الخطاب العادي؛ لأنه ليس فقط يطابق العالم الموضوعي بل يفتقر إلى جوهر الحكاية السردية، ويجنح فيه نحو المقام المتلفظ في التخاطب اليومي على حد قول (جيرار جينيت) بأنه يميل إلى الإثارة الشكلية.
المزيد من المشاركات
بدايات القصة القصيرة جداً في عالمنا العربي:
ظهرت محاولات عديدة في العالم العربي للكتابة في هذا المجال حيث أبدع الكُتاب العرب في كتابة قصصًا قصيرة جداً في فترة مبكرة وتندرج ضمن مرحلة البدايات مثل (نجيب محفوظ) الذي يُعدّ أول من كتب القصة القصيرة جداً حيث أنه ابتدع جنسًا أدبيًا جديدًا ترتفع في مستواها الفكري والفني والسردي، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن تجربة (جبران خليل جبران) التي كانت قصصه أقرب إلى الخواطر، ويوسف الشاروني، ومحمد زفران وأخرين.
وفي الأربعينيات نشر المحامي (نوئيل رسام) قصصًا قصيرة جداً وأكد بذلك بداية لظهور هذا الفن في العراق، واستمرت مرحلة النضج الفني في مرحلة الستينيات والسبعينيات. ولا يزال الكُتاب العرب يبحرون وينهلون في بحر متلاطم الأمواج في فضاء القصة القصيرة جداً وكتابتها.
مراحل تطور القصة القصيرة جداً في عالمنا العربي:
مرحلة التراثية: نجد في تراثنا العربي القديم جذورًا عربيةً قديمة لأصل القصة القصيرة جداً فكَادَت أن تقترب من مجموعة الأشكال النثرية مثل: (الحديث، الخبر، الفكاهية، الخطبة، المقامة، اللغز وغيرها).
مرحلة الكتابة في اللاوعية: ومن هنا فتتسم هذه بالعفوية والتلقائية فكانت من بداية القرن العشرين، وامتدت حتى سنوات التسعين في بعض الدول العربية مثل المغرب والجزائر وتونس، وفي هذه المرحلة نماذج سردية قصصية قصيرة جداً كُتبت بطريقة عفوية وتلقائية دون أن يكون لصاحبها وعي بقضية التجنيس.
مرحلة الوعي بتجنيس القصة القصيرة جداً: تمتد هذه المرحلة من السبعينيات إلى يومنا هذا. لقد كانت ولادة القصة القصيرة جداً في العراق على يد الكاتب (بدر شاكر السياب ). ثم نشر القاص الفلسطيني (محمود علي السعيد ) مجموعته (الرصاص)1979م حيث يعد من الأوائل الذين استخدموا مصطلح القصة القصيرة جداً بالخاصية الشعرية؛ لأنه كان شاعراً موهوبًا.
مرحلة التحديث: يتضح ذلك جلياً من استفادة العرب من الرواية الفرنسية والرواية المنولوجية رواية (تيار الوعي)، ورواية (ما بعد الحداثة) والقصة القصيرة بأمريكا اللاتينية. ومن هنا لقد استعان كُتاب القصة القصيرة جداً بتقنية التشظي، وتشغيل الاسترجاع، والاكثار، والميل إلى الاختزال، وخلخلة السرد، وتنوع الرؤى السردية، والاستفادة من اللامعقول والرمز والتناص.
مرحلة التأصيل: وهنا بدأ الكُتاب في تأصيل قصصهم كتابةً وبناءً وقالبًا وتشكيلًا، وكان هذا التأصيل جليًا عند الكتاب المغاربة مثل (مصطفى لغتيري)،و (جمال بوطيب).
موقف النقاد حول القصة القصيرة جداً:
نتيجة لذلك نجد إشكالاً حول القصة القصيرة جداً. فإن المتتبعين في أصل القصة القصيرة جداً مختلفون فيما بينهم، ومنهم من يراها نوعًا سردياً متطورًا لما يتوفر فيها من أحداث وسرد حكاية وشخصيات وعنصر المفاجئة والخاتمة، ومنهم من يعتبرها متطورة عن قصيدة النثر لما تشتمل عليه من لغة شعرية، وهيمنة غنائية، وتوظيف أدوات الشعر وصور فنية. ومنهم من يرجعها إلى الشعر الحر؛ لاعتماد نظام الأسطر والمقاطع والطباق والجناس. والبعض الأخر موقفه سلبيٌ منها، ويعبر عن رفضه لهذا الجنس الأدبي، ويعتبرونه جنسًا أدبيًا لا يستحق الاهتمام ِالبتة.
ومن هنا فإن القصة القصيرة جداً هي صنف من أصناف القصة، ولا يمكننا تجاهلها في عوالم الثقافة، ومستقبلها يتجلى في حاضرها؛ لأنها حاضرة بقوة في مجال الإبداع والنقد بالإضافة للحفاوة التي تحظى بها في مختلف مناطق العالم عن طريق المهرجانات والندوات.. أنها “فن المستقبل”.
قد يعجبك ايضآ