فيلم المومياء .. رائعة شادي عبد السلام ، الفيلم الذي لا يشبه أي فيلم آخر على مدار تاريخ السينما المصرية
بقلم المؤرخ والناقد الفني د. أحمد عبد الصبور
فيلم المومياء الذي لا يشبه أي فيلم آخر على مدار تاريخ السينما المصرية أو العربية ، ولا نبالغ إذا قلنا حتى في السينما العالمية لذلك تم إختياره كواحد من أعظم 100 فيلم في تاريخ العالم ، وقامت مؤسسة المخرج الأمريكي المخضرم ” مارتن سكورسيزي ” بترميمه بعد أن أوشكت بعض فصوله على التحلل ... حيث تم ترميم نسخة الفيلم الأصلية عام 2009 بدعم من مؤسسة World Cinema Foundation والتي أسسها المخرج الأمريكي الكبير ” مارتن سكورسيزي ” ، وبدعم من وزارة الثقافة المصرية ، حيث تم الترميم في معامل سينماتك بولونيا بإيطاليا .
إن تجربة فيلم « المومياء » هي بحق تجربة فريدة في السينما المصرية والعربية والعالمية ، ولم يحدث أن إقترب فيلم مصري من الحضارة الفرعونية مثلما فعل ” شادي عبد السلام ” فالفيلم يعكس غرام وشغف المخرج المُبدع ” شادي عبد السلام ” إبن الصعيد المولود في المنيا الذي نشأ بين دروب تلك الحضارة ، والمتخرج في كلية فيكتوريا في الإسكندرية ، تلك المدينة المتعددة الثقافات ، وهو ما منحه حالة إبداعية نادراً ما تتكرر .
وهو ما ظهر في فيلم المومياء ، ذلك الفيلم المتفرد في تاريخ الفن الإنساني ، إن مومياء ” شادي عبد السلام ” هي قطعة الفسيفساء الأجمل التي نحتها بروح العابد ، وظهر ذلك في تصميم الأزياء والديكورات والخطة البصرية التي تعكس شغف ” شادي عبد السلام ” بالحضارة الفرعونية ، مما جعل فيلم المومياء من أهم 100 فيلم على مستوى العالم ، وقد إستغرق المخرج سنوات في إعداده للفيلم .
وقع ” شادي عبد السلام ” في غرام الفن منذ أن عمل مع المخرج الكبير ” صلاح أبو سيف ” في فيلم « الفتوة » ، وعشق هندسة الديكور ، ودرس العمارة ، وقام بتصميم الأزياء وأبدع في هذا المجال بعد تجربته في فيلم للمخرج ” حلمي حليم ” ، وصار واحداً من أهم رموزه ، بل أيضاً كان من المتفردين فيه … كل أشكال الفنون تلك إنصهرت في بوتقة ” شادي عبد السلام ” الوجدانية والإبداعية ، وشكلت بوضوح تجربته الفريدة في فيلم « المومياء » ، حيث دائماً ما كانت تشكل الحضارة الفرعونية مرجعية ” شادي عبد السلام ” في عدد من أعماله ، تلك الألوان الزاهية على جدران المعابد … تلك الحضارة التي لم تبح بكل أسرارها حتى الآن … كانت هى المحرض للمخرج المتفرد في تجربته الخاصة جداً ، وما شجعه أكثر هو عمله في ديكور وأزياء الفيلم البولندي « الفرعون » إخراج كافليروفيتش ، مما جعله يسأل نفسه عن شغف الآخر بحضارتنا ، ولماذا لا نطرح نحن التساؤلات عنها ؟ وتجلى هذا المنطق في الجملة الأثيرة التي شكلت إلهاماً له في فيلم المومياء حيث قالت : « أعطني إسمي في البيت الكبير وأعد إلى الذاكرة إسمي يوم أن تحصى السنين »، وبالفعل حصل ” شادي عبد السلام ” على إسم في البيت الكبير ، بيت الإبداع الإنساني .
وإستغرق ” شادي عبد السلام ” في الإعداد للمومياء والعمل عليه فترة طويلة من التحضيرات ، حيث كان يقوم برسم الإسكتشات الخاصة بالفيلم لقطة لقطة ، بل أيضاً كان مسئولاً عن الأزياء والديكورات ، والتي كانت شديدة التميز ، ولم تتكرر في أي فيلم آخر بدءاً من التصميم وصولاً لإختيار الألوان الواضحة والتي تنوعت ما بين الأبيض والأسود والأزرق .
” شادي عبد السلام ” الذي كان يثير مقارنات كثيرة مع زميل مشواره ” شاهين ” الذي كان أكثر إنتاجاً ، أدرك أن منحوتة واحدة في عالم الإبداع الإنساني تكفيه ، وأن البحث في الجذور والتأمل هو جزء أصيل من رسالة الفن ، ولذلك قدم فيلم « المومياء » بمنطق العابد والناسك في محراب الفن .
الدكتور “ مجدي عبد الرحمن ” ، أحد أعضاء فريق العمل ، والذي أفرد العديد من الدراسات والأبحاث حول الفيلم ، وكان يلقي محاضرات كاملة عنه لطلاب المعهد العالي للسينما في أكاديمية الفنون بالقاهرة ، تحدث عن دقة ” شادي عبد السلام ” في إنجاز منحوتته ، وكيف أن كل شيء كان يتم حسابه ، بدءاً من حركة الشمس ، ومدى سطوعها ، وأيضاً حركة الرياح وتأثيرها على تشكيل الكثبان الرملية أثناء تصوير أحداث ولقطات الفيلم ، وإستخدام الإضاءة الطبيعية في أغلب المشاهد ، إضافة إلى توظيف إضاءة « الكلوبات » والمشاعل في الخطة البصرية للفيلم الذي قام بتصويره ” عبد العزيز فهمي ” .
سيناريو الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية حدثت في أواخر القرن الثامن عشر « عام1871م » ، وكتبه ” شادي عبد السلام ” , أما الحوار فكان بمشاركة الروائي المتميز ” علاء الديب ” ، ويدور حول قبيلة تسمى « الحربات » في صعيد مصر تعيش على سرقة وبيع الآثار الفرعونية ، وتحديداً مقابر الأسر الفرعونية من السابعة عشرة إلى الحادية والعشرين ، وهي تعتبر اليوم أعظم ما تبقى من المومياوات الفرعونية ، تلك المومياوات تعرضت للسرقة حيث عثر عليها إثنين من أبناء قبيلة الحربات التي تشتهر بالتنقيب عن الآثار وإستمرا في بيع مكوناتها لمدة 10 أعوام قبل أن تعثر عليها الشرطة في مقابر الدير البحري والملك أمنحتب عام ( 1871 م ) ويتم نقلهما إلى متحف بولاق بالقاهرة عام ( 1881 م ) … حيث وقتها كان يعتبر أحد أقدم المتاحف بالبلاد في عام 1881م … وبعد ذلك تم نقل المومياوات في حدث عالمي ضخم ، حيث إستقبلهم حينها بالقاهرة ، الخديوي ” توفيق ” ، الذي قرر إيداعهم بالمتحف المصري في ميدان التحرير .
” شادي عبد السلام ” يسافر بنا في فيلمه إلى ماض يعبر آلاف السنين « العصر الفرعوني » ، ويوجه بصرنا إلى تلك الهوة بين مصر المدينة ومصر القرية … حيث الزمن يبدو هناك ساكناً لا يتحرك . فالمومياء بجمال تشكيله وشاعرية مشاهده وحواره باللغة العربية الفصحى ، وهو الأمر الذي كان ولا يزال نادراً هو فيلم له مقام خاص في خارطة الفن العالمي ، وإخراج المومياء يختلف عن السائد في السينما المصرية والعربية ، فقد إرتقى ” شادي عبد السلام ” بفيلمه إلى مستوى يقرب من العبادة …
أحداث الفيلم تدور حول الشاب ” ونيس ” « أحمد مرعي » ، الذي يستيقظ على واقع أن ما كان يقوم به والده وأفراد القبيلة من بيع الآثار المسروقة لا يجب أن يستمر ، وهذا ما يخلق عداوة بينه وبين آخرين يجدون في الآثار المصدر المادي الوحيد لحياتهم .
حين يخسر ” ونيس ” شقيقه يلجأ للشرطة لكي تحميه ، وتضع ، في الوقت ذاته ، حدّاً لتلك السرقات .
وقد جسد الفنان “ محمد خيري ” ببراعة فائقة شخصية ” أحمد باشا كمال ” صاحب الريادة في علم المصريات ، الذي ترك للمكتبة العربية العديد من المؤلفات في مجال المصريات ، منافساً بقوة مؤلفات علماء الغرب منها : ” ترويح النفس في مدينة الشمس ” ، ” معجم اللغة المصرية القديمة ” ، “ الحضارة القديمة في مصر والشرق ” ، ” الدر النفيس في مدينة ممفيس ” ، ” الفوائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية ” .
حيث جسد الفنان ” محمد خيري ” تلك الشخصية الخالدة في فيلم ” المومياء “ متناولاً قصة كشفه لخبيئة الدير البحري في العام 1881م ، بأسلوب متميز ومنفرد أشاد به النقاد .
أما القصة الأصلية فأبطالها أفراد من عائلة عبد الرسول الذين ينجحون في إكتشاف ما بات يعرف بخبيئة مومياوات الدير البحري التي ضمت مومياوات أعظم فراعنة مصر مثل : أحمس الأول وسيتي الأول ورمسيس الثاني … تلك المومياوات بقت لسنين دفينة في موضع مجهول بعد أن نقلها آخر كهنة أمون إلى هذا الموضع لحمايتها من اللصوص ، حتى وقعت في بداية القرن التاسع عشر بين يدي قبيلة الحربات … الفيلم يدور بالتحديد عن جيل الأحفاد من هذه القبيلة ، حيث وقعت الحادثة التي أدت لإكتشاف المومياوات خلال حياتهم … الفيلم محمل بالكثير من التساؤلات حول أزمة الهوية والحاجة للمال ، والتساؤل عمن هم الأجداد ، ومن يملك الحق في إرث الفراعنة ، وهذا جزء مما يطرحه ذلك الفيلم البديع .
وقد كتب عنه الناقد الفرنسي “ كلود ميشيل كلوني ” في دوسيه السينما « كان من الممكن وإلى حد بعيد إعتبار المومياء فيلماً غير مصري لولا أن مصر تقيم بين حناياه بماضيها ، بديكورها ، بواقعها ، بتمزقها ، وتعبر داخل الفيلم عن تفردها » .
شارك في بطولة المومياء “ أحمد مرعي ” ، و ” محمد خيري ” ، و “ نادية لطفي ” ، و ” زوزو حمدي الحكيم ” ، و ” عبد العظيم عبد الحق ” ، و “ محمد مرشد ” ، و “ شفيق نور الدين ” ، و ” محمد نبيه ” ، و “ أحمد خليل ” ،،، وآخرون …
عرض الفيلم ونال إشادات عظيمة فى العديد من المهرجانات العالمية مثل ( فينسيا ١٩٧٠ – قرطاج ١٩٧٠- لندن ١٩٧٠ – سيدني ١٩٧١- سان فرانسيسكو ١٩٧١- شيكاغو ١٩٧١- بلجراد ١٩٧٢- كارلو فيفاري ١٩٧٢- برلين ١٩٧٢) وأخيراً عرض في القاهرة في مطلع عام ١٩٧٥.
وفيلم « المومياء » كان إسمه في البداية هو « ليلة أن تمض السنين » ، وبلغت إيراداته ٤٤٧٥ جنيهاً في ٣ أسابيع عرض بسينما رمسيس بالقاهرة .
فيما وصلت تكاليف إنتاجه حوالي مبلغ ٩٠ ألف جنيه ، الذي كان رقماً كبيراً للغاية في ذلك الوقت ، حيث لم تكن تكاليف أي فيلم تتعدى ٣٠ ألف جنيه .
فيلم « المومياء » الذي تم إنتاجه عام 1969م ، وهو من تأليف وإخراج ” شادي عبد السلام ” ، ولكنه لم يعرض الفيلم جماهيرياً إلا في عام 1975م ، حيث حصد العديد من الجوائز الدولية والإحتفاء به في مهرجانات عالمية .
وتناول الفيلم الأحداث الحقيقية ، التي وقعت عام 1871م ؛ من خلال قبيلة كانت تسمى « الحربات » في صعيد مصر ، والمشهورة بالتنقيب عن الآثار الفرعونية ثم بيعها ، حيث إنه بعد موت شيخ القبيلة يقرر أولاده التوقف عن سرقة الآثار ، ولكن يتم قتل أحد الأبناء على يد عمه فيما ينجح الثاني في الهرب من أجل إبلاغ الشرطة وبعثة الآثار .
وإستوحي ” شادي عبد السلام ” الفيلم من القصة الأصلية ، الخاصة بأبناء عائلة عبد الرسول الذين يتمكنوا بالصدفة من إكتشاف ما يعرف بخبيئة مومياوات الدير البحري ، الخاصة بأعظم الملوك الفراعنة ، مثل : أحمس الأول وسيتي الأول ورعمسيس الثاني ، ويستمروا في نهبها لأعوام لحين الوقيعة بينهم ، ليبلغ أحدهم الشرطة بالأمر .
إحتل فيلم « المومياء » ، مكانة بارزة بين أعمال المخرج الراحل “ شادي عبد السلام ” ، حيث سبق أن تحدث عنه خلال مشاركته مع “ ناهد جبر ” ليكشف عن عقدة فيلمه في برنامجها الشهير السابق « سينماتك » ، بصحبة المخرج ” صلاح أبو سيف ” .
ويرى ” شادي عبد السلام ” أن الفيلم لم يكن فرعونياً ، لكنه كان يتناول إكتشاف المقبرة الفرعونية وعمليات السرقة وقتها في قالب درامي ، نظراً لكونه كان متأثراً بالتراث المصري وحريص في البحث عن الأصول بأعماله .
وقال المخرج إن عقدة البطل في « المومياء » ، هو كونه يبحث عن كيانه الحقيقي بين العالم الكبير ، في صراع بين الماضي والحاضر .
ونفي فكرة محاربة الفيلم سياسياً ، مؤكداً أن العمل الجيد يفرض نفسه ، ولا تستطيع أي جهة سياسية عرقلته ، لذلك حصد جائزة في مهرجان فينيسيا متفوقاً على فيلم إسرائيلي ، فضلاً عن حصده عدة جوائز أخرى منها مهرجان تونس ، الذي إستقبله الجمهور بحفاوة بالغة ، لنجاح الفيلم الكبير وقتها .
وذكر ” شادي عبد السلام ” أن دراسته للعمارة والفنون التشكيلية ، ساعدته في تصميم مشاهد وإخراج الفيلم ، حيث كان يعمل خلال الفيلم بحواسه جميعاً وتفاني بالغ .
وفي حوار آخر للمخرج ، بمجلة الكواكب عام 1970م ، روي بداية فكرة الفيلم ، قائلاً : « كنت قد قرأت قصة إكتشاف المومياوات في الدير البحري عام 1956م ، وتأثرت بها بشدة ، لذلك في عام 1963 خلال تواجدي في بولندا أثناء العمل في فيلم فرعون ، قادني الحنين إلى مصر للتفكير في تلك القصة مجدداً بعمق ، وبدأت في كتابة السيناريو » .
بالبداية ، كتب ” شادي عبد السلام ” ، إسم الفيلم « دفنوا مرة ثانية » ، ثم « ونيس » ، وبدأ في مارس عام 1968م ، تصويره مع “ عبد العزيز فهمي ” و ” سمير عوف ” ، و ” صلاح مرعي ” مهندس الديكور ، الذين يعتبرهم من خيرة الشباب في السينما المصرية ، على حد قوله وقتها .
وبعد الإنتهاء من الفيلم الذي لعبت فيه الكاميرا دوراً بالغاً ، قال المخرج إن المسئولين ترددوا بشأن عرضه ، بحجة أنه لم يكن فيلماً جماهيرياً ولن يحقق إيرادات ، ولكن فىي عام 1974م ، قرر ” يوسف السباعي ” وزير الثقافة حينها ، عرض الفيلم ، حيث إعتبره عملاً فنياً مصرياً متكاملاً يرتقي لمرحلة العالمية .
شادي عبْد السَّلام … وسينِما المُهَندِس المِعْماري
مِن عبق المسار الأركيولوجيّ ، تنبعث روح ” شادي عبد السلام ” لتظلّ حاضرةً بالفعل والقوة على الدوام ، إذ ألَّف أَبْلَغ الصور التي تنسج العلاقة العضوية بين السينما والتاريخ عبر أعماله السينمائيّة ، وخاصّة منها مُنجزه المُفارق « المومياء » الذي بات يتصدَّر أهمّ الأفلام العربيّة والعالمية ، غير أن ملامسة عمق رؤيته وفكره تدعونا لتفكيك سَيْرِهِ البيوغرافي المُكابِر والمُتَعدِّد .
وقد دأب ” شادي عبد السلام ” (1930 – 1986) على الإستغراق الواعي في الحضارة المصريّة القديمة ، من خلال قراءة مصادرها ومُتونها العربيّة والأجنبيّة التي تملأ خزانته الخاصّة ، مع العمل على تعميق دراسة مفرداتها ومكوِّناتها بناءً على ثقافة الفنون المُتنوِّعة التي طالما حفر في علومها ، سعياً إلى إستشراف المُستقبل بالإستناد إلى الماضي الفرعوني لتحقيق قِيَم الحَقّ التي أَجْهَر بها في شريطه القصير « الفلاح الفصيح » ( وهو فيلم قصير مدته20 دقيقة ، وتم إنتاجه عام 1970 م ) ، وهو الفيلم الذي حصل بموجبه على الجائزة الكبرى بمهرجان « فينيسيا » للأفلام القصيرة في سنة إنتاجه … وقد إستوحى المُخرج فيلمه من بردية قديمة بعنوان « شكوى الفلاح الفصيح » ، ضمن الأدب الفرعوني للدولة الوسطى ( 2200 ق . م ) ، حيث تدور الحكاية حول فلاح مصري سُلِب منه حقّه ، فعزم على مقابلة الحاكم ومواجهته بجرأة نادرة : « أيها الحاكم خلصني من شقائي ، أيها الإله ذو الوجهين يا إبن الشمس الخالد للخلد ، إن إقامة العدل كالتنفس ، أقم العدل ، فالعدل أخو الخلود ( … ) » … يضعنا الفيلم أمام خيارات المُخرج الصعبة في إشتغاله على الدواخل النفسيّة وإستغوارها من خلال البناء المُتماسك للظّاهر الذي يُفشي كَوامِن الباطن ، بالتأكيد على الرِّداء المُضاعَف الكامن في الملبس والمسكن ( العمارة ) ، أي هيئة « الإبصار » الذي يغلِّف الجسد ويحتويه … من ثمّة ، ففي حالة تَسْليمنا بإلْغاء المُفاضلة بين الأفلام القصيرة ونظيرتها الطويلة ، فإن فيلم « الفلاح الفصيح » لا يقلّ أهمِّية عن « المومياء » ، إذ عمل فيه ” شادي عبد السلام ” على إستنباط لغة سينمائيّة مغايرة ، تستدرج المعنى داخل التعبير ، بإستنبات البُعد الشِّعري في كلّ خطوة تقنية معمولة بسلطة العقل الذي لا يتوارى عن ترشيد التفاصيل وفجواتها .
في المُقابل ، نَتَلَمَّس الهاجس الإستشرافيّ عنده في تقريبنا من العصر الحديث ، مثلما يُحيل على ذلك عنوان فيلمه التسجيلي « آفاق » ( وهو إنتاج عام 1984م ) ، الذي عرض من خلاله شادي حينها « الآفاق الثقافيّة المُختلفة التي ظهرت في المُجتمع المصريّ ، وتناول فيه عرضاً لأوركسترا القاهرة السيمفوني ، وبعض الفَنَّانين التشكيليّين ، وصناعة السجاد ، وفنّ الباليه ووكالة الغوري ، والمُوسيقى العربيّة ، وإستوديو المُمثِّل لـ ” محمد صبحي ” … ولقد قدَّم ، بحقّ ، في هذا الفيلم رؤية شاملة لآفاق الثقافة المصريّة » … وهذا دَيْدَنُه في عديد أفلامه التسجيليّة التي ينسج فيها رؤيته الخاصّة التي تدفعنا لإثارة الأسئلة بإستفسار صور الواقع والنفاذ إلى عمقه وخلفياته … ولعَلّ هذا التوجُّه نحو الفنون وعموم أجناسها ، يُحيلنا على إنْجِذابه المُبَكِّر للمُوسيقى والرسم والتصوير والنحت وهندسة الديكور ، علماً أنه صَمَّم ديكورات وأزياء العديد من الأعمال السينمائيّة العالمية من قبيل « وا إسلاماه » من إخراج « أندرو مارتون » ، و « كيلوباترا » لـ « جوزيف مانكوفيتش » ، و « الصراع من أجل البقاء » لـ « روبرتو روسيليني » ، وأكثر من عشرة أفلام عربيّة ( بين عام 1960 وعام 1967) ، وعلى رأسها فيلم « الناصر صلاح الدين » لـ « يوسف شاهين » الذي تَمَيَّز بهندسة الديكور التي نفَّذها ” شادي عبد السلام ” بروح خَلَّاقَة ، ما أضفى على المَشاهِد أجواءً بصريّة شاعريّة منحت الفيلم خصوصيّة مَشْهَدِيَّة في غاية التوافق والتأثير .
« المعمار كأداة لهندسة الصورة »
إذا كانت هذه الإنجازات قد جعلت منه مصمِّم ديكور موصوفاً بالمهارة والإبداعيّة ، فإن براعته وشِعْريَّتَه تَتَّكِئان على تخصُّصِه المعماري ، وهو المُهندس المعماري الذي تخرّج من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة في عام 1955 ، والدارس لفنون المسرح بلندن ( 1949 – 1950 ) ، بعد أن تخرَّج من كلية فيكتوريا بالإسكندرية ( أحد أقدم المدارس الإنجليزيّة بمصر ) … من ثمّة ، لا يمكن مقاربة المُعطيات الإبداعيّة في أفلامه القصيرة الروائية والتسجيليّة بعامّة وفيلمه الروائي الطويل « المومياء » (1969) بخاصّة ، دون إستحضار تكوينه المعماري ، خاصّة وقد درس على يد معلّم المعماريين ” حسن فتحي ” الذي تشرَّب معه جماليات العمارة الإسلاميّة والعربيّة والقبطيّة ، وكذا النظر إلى الفنّ المعماري من جانب إرتباطه الوثيق بالفنون التشكيليّة التي يتحقَّق تَمَكّنها كخَلْفِية مِعْيارية في هندسة الصورة التي أتت بتأطيرات (Cadrages) محسوبة وموزونة بدقة شديدة ، على مستوى الإتساق والتوازن وتوزيع الكتل كما على صعيد التعبير ، لكونها تخضع إلى ذائقة حَداثِيَّة ، تتخذ فيها الذّاتِيَّة قُطب الرَّحى …
من ثمّة ، يُشير الناقِد ” حمادي كيروم ” ، في مقارنة نَبيهة ، إلى أن تاريخ السينما « عرف المُخرج السوفياتيّ « شيرغي إزنشتاين » الذي يكفيه فخراً أن أخرج الفيلم الخالد « المدرعة بوتمكين » ، هذا الفيلم الذي حرمه النقد الأيديولوجيّ قيمته الجمالية لعقودٍ من الزمن ، لأن قوة هذا الفيلم تكمن في النبوغ الهندسي الذي نفّذه مهندس القناطر « إزنشتاين » ، لهذا لا يمكن القبض على عمق وقوة وصلابة البناء الفنّي لأعمال ” شادي عبد السلام ” الوثائقيّة والروائية القصيرة والطويلة ، دون الأخذ بعين الإعتبار نبوغه كمهندس معماري وكمصمِّم للديكور وللملابس » … ذلك أن صاحب « المومياء » تَوفَّق بوضع العمارة الفرعونيّة في بوتقة الفنون ، وإظهار بنياتها وخطوطها ضمن هندستها البنائية الفخمة التي أَنْفَق حياته في إستكشاف أسرارها وأعماقها ، إذ أصَرَّ على إبرازها من مختلف المناحي والزوايا ، ومنها النظرة السّاقِطة من فَوْق (Vue plongeante) لإعادة تشكيل البسيطة وتفصيلها ، في إتجاه رسم هويّتها المصريّة بسخاءٍ إبداعي يُغطي تراثاً مادياً هائلاً ، أحاطت به كاميراته العنيدة التي تَتَقَصّى المَشاهِد والمساحات والأبعاد (Les plans) بالفِكر واليَقظة اللَّذَيْن لا يَهْمِلان الجزئيات والمُلحقات ، بل حتى الكُتل البشريّة، يعمل على توزيعها في الفراغ كي تكون مندمجة ومتناغمة مع الإيقاع المعماري وتَشَكّلاته … هكذا تَتَوحَّد العمارة الفرعونيّة مع ثقافة ومناخ زمانها ، بإعادة ترتيب زخارف وموتيفات معابدها وسراديبها ، ودوْزَنَة ألوانها في تلاؤُمِيَّة ناصِعَة مع مجموع الأيقونات والمُفردات والعلامات ، بما فيها النقوش الحائطيّة وكتابات البرديّات ، ضمن سَرْدِيَّة بصريّة مفتوحة على التلقي المقروء والمسموع والمحسوس في آن .
لسنا هنا بصدد مَعارف المعماري بحَصْر المعنى ، بل نحن أمام نبوغ المُهندس الفنَّان الذي يَتَشَخَّص نبوغه أيضاً في مقاربته الكروماتيكيّة المطبوعَة بمَيْل إقْلالي ، إذ جعل من الشمس فرشاته اللونيّة التي تعيدنا إلى حساسية الإنطباعيّين (Les impressionnistes) ، لاسيما وأنه صَوَّر جلّ المَشاهِد في المواقع الخارجيّة بعيداً عن الإنارة الكهربائيّة ، بحيث يختار اللون الطبيعيّ وتدرُّجاته (Dégradations) عبر متغيِّرات النهار الضوئيّة من الصباح الباكر إلى ما بعد الغروب وحتى الليل ، طبقاً لمواعيد ضوئية محدَّدة بدقةٍ متناهية ، تسمح له بإبراز تبايُنات حِياكات ومَلامِس (Textures) الجدران والنقوش والشُّقوق والجِلْد الآدمي ، وكذا توليف الظِلال الساقِطة والتَّضادّات (Les contrastes) القوية والبديعة ، وهي الإِبْدالات اللَّونِيّة والضَّوئِيّة التي جعلت الفيلم موسوماً بهَيْمَنَة الأزرق والبنفسجي الميَّال إلى الحمرة ، إنسجاماً مع توليف الأجواء المُناسبة لطبيعة المكان ، والتي تصل إلى حدِّ اللقطات التي يكتفي فيها بالأبيض والأسود فقط ( مشهد النساء بملابسهن السوداء ) .
إذا كانت هذه السرديّات المرئيّة تتعلَّق هنا بـ « حَكْي الزمن » ، فإن هذا الحَكْي الموصوف بالبُعد الروائيّ (Fiction) في السينما ، فإنه يحمل معنى الوصف والمُحاكاة ، ذلك أن « من خاصيات السينما أنها تحكي ، في مشروعها ، الإلتقاء مع التاريخ ، تحكي وتُحاكي في آنٍ واحد » ، كما يرى الناقِد الراحل ” نور الدين الصايل ” ، مؤكِّداً على أنه « يمكن في مرحلة أولى ، أن نكتفي بالقول إن الفيلم الذي يُسمّى بالتاريخيّ ما هو إلّا فِعْل حَكْي لشيء سبقه وفِعْل حَكْي بمُحاكاة ما سبق ، أي إعادة إنتاج بوسائل سينمائيّة ، من سينوغرافيا وفنون وتقنيات وميكانيزمات ، ونجد في هذا الصنف ، كلّ ما يُسمّى بأفلام الملابس (Les films de costumes) وأفلام اللوحات (Les filmes fresques) … إنها إعادة إنتاج ما سبق أن كان ، بوسائل الديكور والإنارة وأجساد المُمثّلين » … لعلّها الميكانزمات التي سلكها ” شادي عبد السلام ” بكَعْب عالٍ ، بداية من الكاستينج ، بحيث إنتقى ملامح الوجوه بعناية كبيرة ، لتتجاوب مع تقاسيم الأصل الفرعونيّ ، كما قَوَّمَ التقاسيم ونفَّذَ التصحيحات بالماكياج الدقيق ، ليزيد من شحذ صورة الجسد الفرعونيّ بالإكسسوارات والملابس المدروسة ، التي أخضعها لبحوث عبر الرسم والتلوين اليَدَوِيَّيْن ، وهي على شاكلة اللوحات التحضيريّة التي طالما أعدَّها ضمن تحليل وتحديد الكادرات واللقطات بشكلٍ قبلي … بينما حركة الكاميرا ، تبقى بدورها من المُقَوِّمات الرئيسَة في بناء المَشاهِد ، بين ثَبات وتحريك مُتأنٍّ ومُتوازن ، عبر تَقاطُعات ومحاور هندسيّة تسمح بإسْتِجْلاب مَرِن للشخوص والكُتل والظلال والخَيالات ، ضمن سَيَران مرئي يروم رَصْد وتَتَبُّع التصميم الجُدْراني والنَّحْتي القديم بالمُعادل الحيوي الذي يقحمنا بسلاسة في صلب الحدث وزمانه ، وعلى هذا النحو ، « نستمر لنتأمَّل التحريك الإبداعيّ الذي يشكِّله ” شادي عبد السلام ” من خلال دراساته وخبراته كمهندس معماري فنَّان ، حيث ينقلنا في مسار عجيب عبر أبنية المعبد مستخدماً زوايا التصوير وإيقاع الحركة مع التمازج والتبادل بين اللقطات بحيث يحقّق تتابعها إستمرارية عبقرية تجعلنا نشعر كأننا نعبر مدينة فرعونيّة بأكملها » .
فضلاً عن أعماله السينمائيّة الخالدة ، خَلَّف المُخرج والمهندس والرسَّام “ شادي عبد السلام ” العديد من القِطع الفنِّيّة المُوازية التي عملت على تقديمها مكتبة الإسكندرية سنة 2005 بمُناسبة اليوبيل الماسي لهذا الأخير ، في إطار تنظيم معرض فنّي لصور فوتوغرافيّة ولقطات ولوحات ورسيمات « المومياء » وأعمال أخرى ضَمَّت (39) لوحة أصليّة ورسوماً ملوَّنة لملابس شخصيّات تاريخيّة تعود إلى عديد الأفلام السابقة الذكر ، إضافة إلى رسومات فيلمه القصير « الفلاح الفصيح » ، وتصاميم مشاهد فيلمه الكبير « إخناتون » الذي أعَدَّ له السيناريو وعمل على تعديله وتنقيحه على إمتداد أكثر من عشر سنوات ، كما نَفَّذ عدداً من تصاميم ديكوراته ، فلَمْ يُقَدَّر له إنجازه بحلول الأجل المحتوم .
« فيلم المومياء » إبداع … تفوق … خلود
أكثر ما يميز مخرج الفيلم الراحل “ شادي عبد السلام ” هو الوضوح الشديد للرؤية و الهدف وبساطة التعبير ، فالرجل لا يلجأ إلى التعقيد سواء في تسلسل الأحداث أو في كيفية سردها ، فهو لا يقفز بين الأزمنة أو الأحداث جيئة وذهاباً دونما ضابط ، بل يلتزم جانب ( النظام ) في السرد للأحداث ، وقد تعمدت هنا أن أستخدم تعبير ( النظام ) لأدلل به على عمل “ شادي عبد السلام ” ، فهو فعلاً أحد أكثر المخرجين تنظيماً وترتيباً ودقة في تاريخ السينما المصرية ، فالرجل كان منظماً في أسلوب حياته بصفة عامة وهو ما إنعكس على فنه بشكل ملحوظ ، وهذا له فائدة عظيمة تتجلى في سهولة وصول المشاهد للفكرة عبر متابعة الأحداث متابعة تنطوي على القدر المطلوب من التأني والعناية .
ذلك الأسلوب البسيط المنظم إذا ما ضممنا إليه الخلفية الثقافية للرجل مع الحس الفني المرهف إلى حد بعيد ، إضافة إلى تجربته كمصمم للملابس ، ومصمم للمناظر ، ومساعد للمخرج في عدد من الأعمال الهامة ، مع الأخذ في الإعتبار الموهبة التشكيلية الفطرية التي يتمتع بها ، كل هذا من شأن أن يفرز في النهاية مخرجاً قادراً على التعبير عن أفكاره بشيء من السهولة النسبية التي يكفلها تمكنه من معظم أدوات العمل السينمائي .
فهو في مجال تصميم الملابس عمل في أفلام شهيرة منها : ( الناصر صلاح الدين ) ، ( وا إسلاماه ) ، ( ألمظ ) وقد عمل كمصمم للمناظر أيضاً في العملين الأخيرين ، أما في ( الناصر صلاح الدين ) فقد كان ( وليّ الدين سامح ) هو مهندس المناظر وقد إستفاد منه “ شادي عبد السلام ” كثيراً … ولقد كان لشادي في مجال تصميم الملابس والمناظر شخصية مميزة وطاغية إلى حد بعيد ، والدليل عليها أنك _ لو كنت من المهتمين بالعمل السينمائي ومفرداته _ تستطيع أن تكون على يقين من أن ” شادي عبد السلام ” هو مصمم الملابس في فيلم معين دون أن تكون قد أطلعت على تترات المقدمة ، وهذا لأن الرجل له بصمة واضحة تماماً في هذا المجال ، هذا على الرغم من أن تصميمه للملابس إنصب في معظمه على أفلام تاريخية ، أي أن الملابس فيها تقيدت بعصر زمني معين مما كان من شأنه أن يكون عذراً لتتشابه ملابس الفيلم مع ملابس باقي الأفلام التاريخية التي تناولت نفس الفترة ، وهو ما لم يحدث ، فشادي إستطاع بيسر أن يحفر طريقاً مميزاً له في هذا المجال بالتحديد رغم التشابه الذي أشرنا إليه وذلك عبر خطوطه وألوانه الرائعة .
وقد كان تصميمه للملابس في فيلم ( المومياء ) تصميماً رائعاً بكل معنى الكلمة سواء بالنسبة لملابس الأفندية ، أم رجال الشركة ، أم أفراد قبيلة الحربات ( الزي الصعيدي ) ، فإستطاع ” شادي عبد السلام ” أن ينقلنا إلى الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الفيلم بمنتهى الدقة والحرفية من خلال عنايته بأدق التفاصيل فيما يتعلق بالملابس .
أما عن المناظر ، فقد تأثرت أيضاً بدقة المخرج وحسه التشكيلي العالي ، فكان تصميم المناظر بدءاً من المشهد الإفتتاحي وحتى النهاية جميلاً ، بإستثناء مشهد أو إثنين لم يكن ( التنفيذ ) فيهما متقناً ربما لضعف في التمويل ، فمثلاً مشهد الحديث الذي دار بين العم والأبناء في المقابر في بداية الفيلم لم يكن تنفيذ تصميم المقابر فيه على المستوى المطلوب رغم أن التصميم كان ملائماً لبيئة الأحداث بشكل ملحوظ .
ثم يبرز ذكائه أيضاً كمخرج من خلال الإستعانة بمدير تصوير بارع كعبد العزيز فهمي ليتمكن من القيام بعملية الإتصال البصري بالمشاهد بأسلوب محترف ومتقن جداً ، فمن المعروف أن السينما فن يعتمد في المقام الأول على الصورة التي تلعب دوراً جوهرياً في تبليغ الفكرة ، وفي فيلم المومياء نجد أن قيمة الصورة تتعاظم عنها في أفلام أخرى والسبب هو تقليص مساحة الحوار لأقصى حد ممكن مما حمل الصورة معظم المسؤولية بالنسبة لعملية توصيل الرسالة للمشاهد ، وهو ما أضاف عبئاً جديداً على كاهل الممثلين ، فتقليص الحوار لا يريح الممثل كما يتصور البعض بل إنه يعد تحدياً كبيراً له على الصعيد المهني ، لأن عليه أن يكون متواجداً أمام الكاميرا وأن يعبر وأن يوصل الفكرة بعدد قليل من الكلمات وكم كبير من التركيز والمعايشة للشخصيات التي يعبرون عنها .
أما مساهمة “ عبد العزيز فهمي ” فقد جاءت عبر صنع الكادرات التي صاغها المخرج على الورق بإحساس ” عبد العزيز فهمي ” الخاص جداً ، فقد إستعان الرجل بقدرته العجيبة على تنويع مصادر الضوء والتحكم بها وتطويعها ليخلق كادرات معبرة تعبيراً جميلاً ، بل إنه إبتكر في هذا المجال فبث النور من أماكن غير مألوفة في بعض المشاهد وأضاءها بأسلوب لا يسهل على الحرفي إستكناهه مما دفع بالمختصين في الحقل الفني بفرنسا ( الفيلم نال جائزة التلفزيون الفرنسي ) إلى التساؤل عن مصدر الضوء في بعض المشاهد بالتحديد … كما كانت المشاهد الليلية متقنة تماماً من حيث درجة الضوء وتوزيع على عناصر الكادر .
وفي حديثنا عن الكادر لا يفوتنا أن نشيد بقدرة “ شادي عبد السلام ” التشكيلية التي أبدعت لنا تابلوهات فنية رائعة ، وهي لم تكن وليدة اللحظة أو إتفق عليها مع مدير التصوير قبل البدء في التصوير ، كلا ، بل كانت كل الكادرات الرئيسية معدة سلفاً بشكل يدوي وبرسم يد المخرج ولازالت موجودة حتى الآن ، فما رأيناه على الشاشة من تمركز للكاميرا ومن تحديد للعناصر التي سيحويها الكادر وكافة الجوانب المتعلقة بهذا الأمر كان قد صمم ورسم سلفاً بيد المخرج ، وهو أمر ندر أن نصطدم به في السينما العربية ، فعادة ما يجري تحديد عناصر المشاهد بشكل إجمالي وتترك بعض التفاصيل أو كلها إلى وقت إعداد المكان للتصوير ، أما شادي فكان قد أفرغ كافة محتويات الكادرات على الورق بتفاصيلها ، وهو في نظري سلاح ذو حدين ، فمن يقدم على عمل كهذا يحجم إلى حد كبير من قدرة معاونيه على التحرك ، كمصممي الأكسسوارات ومدير التصوير ، فإذا لم يكن الشخص متمكناً من أدواته كشادي للقي صعوبات كبيرة في إتمام العمل على هذا النحو ، لكن على ما يبدو أن حرفية شادي ساهمت في تقبل الآخرين لهذا الأسلوب الذي يبدو أنهم لم يجدوا ما يضيفونه عليه .
والمتتبع لكادرات ” شادي عبد السلام ” يجدها قد إحتوت _ في معظم الأحوال _ على عدد قليل من العناصر ، وهو أمر بالطبع مقصود ، ويعكس شخصية المخرج ذات الرؤية الصافية ، فالرجل يملك عقلية ملأى بالأفكار ولكنها منظمة إلى أقصى حد ، ومن ثم فهو لا يزحم عين المشاهد بالكثير من التفاصيل الغير هامة ، فخرجت معظم الكادرات بأقل قدر من العناصر ولكنها إستطاعت أن تصل إلى الحد الأقصى إلى القدرة التعبيرية ، وفي رأيي أن اللجوء إلى هذا الأسلوب يتناسب والبيئة والعصر الذيْن يتناولهما الفيلم فحين يتناول الفيلم حياة قبيلة كالحربات تعيش في بيئة جبلية قاسية وتجاور آثار الفراعنة ، وحين ينطوي الفيلم على بعد زمني هام يمثل بيت القصيد في الفكرة التي يرغب المخرج في توصيلها ، حين يتوافر كل هذا فإن تركيز العناصر التي تظهر في الكادر يكون مقبولاً بل ومستحباً إلى حد كبير .
وقد تمكن ” عبد العزيز فهمي ” من إدارة الكاميرات بطريقة فذة وخاصة في الأماكن المفتوحة التي تحتوي بطبعها على عناصر ذات أبعاد غير محكومة مما يستدعي قدراً كبيراً من الحرفية في إدارة الكاميرات وتوجيهها بشكل يحيل المكان إلى المفتوح إلى ما يشبه البلاتوه الذي تم التحكم في عناصره سلفاً ، وهذا أمر بالفعل غاية في الصعوبة ، ناهيك عن صعوبة التحكم في إضاءة الأماكن المفتوحة ، وهي الصعوبة التي ثبت أنها لا تعيق فناناً كعبد العزيز فهمي عن أن يخرج لنا مشاهد رائعة ستظل من أروع المشاهد في تاريخ السينما المصرية .
وقد إستخدم المخرج الفصحى المبسطة عن عمد ليضفي على الفيلم المهابة التي تنبغي له والتي هي ضرورية إذا ما أخذنا في الإعتبار البعد الزمني الذي يشير إليه الفيلم .
ولا يفوتنا في النهاية أن ننوه إلى مدى إنبهار المخرج بفترة المصريين القدماء حيث أخرج قبل هذا الفيلم فيلماً آخر بعنوان ( الفلاح الفصيح ) الذي يدور في عهد الفراعنة ، وكان قد أعد العدة لصناعة فيلم ( أخناتون ) وإنتهى من عمل تصميمات الملابس له ولكن أجله حان قبل أن ينهي ما بدأه .
فيلم « المومياء » … وكيف تصبح الكاميرا راوي الحكاية الوحيد ؟

كل من يتابع الأفلام المصرية يلاحظ فقرها بصرياً ، رغم أن المرء من الممكن أن يشعر بحس تشكيلي مدفون ، لكن هذا الحس يختنق تحت وطأة الحدث ، لأن عملية السرد والحكاية يستحوذان كلياً على إهتمام الفنان ، ومن هنا تأتي قيمة فيلم المومياء للمخرج ( شادي عبد السلام ) ، وذلك رغم أنه لم يأت بجديد على مستوى تكويناته أو توزيع أجسامه وتحديد الحركة والإضاءة ، إلا أنه يكاد يكون النموذج الأكمل بصرياً في تاريخ السينما المصرية .
بالإضافة إلى إستخدام هذه القواعد والشروط في التكوين الشكلي ، طبَّق الفيلم البعد الرابع في السينما وهو الإحساس بالزمن ، ورغم ذلك لم يغفل ( شادي عبد السلام ) الإهتمام بالحكاية نفسها ، وهي مستوحاة من أحداث حقيقية ، وقعت في زمن إكتشاف مقابر الأسر الفرعونية من السابعة عشرة إلى الحادية والعشرين ، وهي تعتبر اليوم أعظم ما تبقى من المومياوات الفرعونية ، حيث تحوي بينها مومياوات مجموعة من أبرز الفراعنة تاريخياً ومنهم ( أحمس الأول ) و ( رمسيس الثاني ) … وهي المومياوات التي تُعرف اليوم بإسم ( مومياوات الدير البحري ) .
تلك المومياوات بقت لسنين دفينة في موضع مجهول بعد أن نقلها آخر كهنة أمون إلى هذا الموضوع لحمايتها من اللصوص ، حتى وقعت في بداية القرن التاسع عشر بين يدي قبيلة تسكن السكن ، والفيلم يدور بالتحديد عن جيل الأحفاد من هذه القبيلة ، والتي وقعت الحادثة التي أدت لإكتشاف المومياوات خلال حياتهم … بين أزمة الهوية والحاجة للمال ، التساؤل عمن هم الأجداد ، ومن يملك الحق في إرث الفراعنة ، وتدور أحداث هذا الفيلم البديع .
كل تلك العوامل جعلت المومياء أعظم فيلم مصري بالنسبة لعدد كبير من النقاد ، حيث تم إختياره في المركز الأول في قائمة أفضل 100 فيلم عربي ، وهي القائمة التي تمت عبر تصويت النقاد في مهرجان دبي السينمائي عام 2013، كما تم إختياره ثالثاً في قائمة أفضل 100 فيلم مصري ، والتي تمت عبر إختيار نقاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1996 … هذه المكانة جعلت أيضاً المخرج الأمريكي الكبير (مارتن سكورسيزي) يشرف على عملية ترميم فيلم ( المومياء ) بنفسه … والنسخة المرممة متاحة الآن للعرض على الإنترنت وفي جناح خاص بمكتبة الأسكندرية .
لكننا اليوم وبشكل خاص نركز على القراءة البصرية لهذا الفيلم الذي تبدو فيه الكاميرا وكأنها راوي الحكاية الوحيد .
الضوء في دور البطولة :-
أحداث الفيلم تقع في فصل الصيف لأن أهل الجبل يعلمون أن بعثات التنقيب تتوقف صيفاً لتجنب الحرارة ، إلا أن ( شادي عبد السلام ) إعتمد على ضوء الشمس الطبيعي المنتشر في المشاهد الخارجية وإستغلال الغمام المنتشر شتاءً أو بإستغلال مناطق الظلال ، وفي غياب هذه الظروف الطبيعية لجأ مصور الفيلم للحصول على هذا التأثير صناعياً ، فالمشهد الذي يظهر فيه اللقاء الأول بين ” ونيس ” والشاب الغريب في الوادي حجب المصور أشعة الشمس مع ترك المكان الذي يحتله الغريب مغموراً بأشعة الشمس ، وذلك بواسطة مظلة صناعية .

في أثناء دخول مقابر المومياوات يستخدم رجال القاهرة المصابيح الكشافة ، بينما يستخدم رجال القبيلة المشعل الناري ، وهذا بالتبعية يحمل عدة إنعكاسات ، المشعل الناري وسيلة قديمة مقارنة بالمصابيح الكشافة الحديثة التي يستخدمها أهل العلم الأكثر تقدماً وأصحاب المبادئ والقضية والأمانة العلمية ، أما المشاعل النارية فتتراقص نتيجة لحركة الهواء ، فتعكس توترهم لأنهم يمارسون عملاً ضد القانون والأخلاق .


في اللقاء الذي يجمع بين ( مراد ) و ( ونيس ) يعترف الأول أن سيده هو الذهب وبريقه ، في هذا المشهد تُستخدم أشعة الشمس كمصدر إضاءة خلفي فقط أو مصدر خلفي جانبي ، وليس أمامياً صريحاً أو جانبياً صريحاً ، فيقع وجه ” ونيس ” في منطقة إضاءة غير مباشرة ، فيبدو وجهه داكناً ليعكس الفجوة النفسية التي يعيشها والقلق الذي يحيط به ، بينما يظهر وجه ” مراد ” تحت الإضاءة الجانبية الخلفية فيظهر بريق عينيه ليعكس مدى جشعه .

تكوين الكادر … لكل موضع حكاية :-
في معظم كادرات الفيلم يلاحظ أن الزوايا بين التكوينات المختلفة هي زوايا قائمة وليست مرنة ؛ لأن أحداث الفيلم متوترة وشخصياته خشنة وقضيته حساسة ومهمة .
تعبر الصورة عن لحظة صراع الإبن الأكبر لرئيس القبيلة المتوفي مع عميه ، يطلب العمان من الإبن أن يحل محل أبيه في قيادة القبيلة لسرقة المقابر الفرعونية ، بينما تواجه الأم هذا الموقف … التكوين الشكلي هنا مهم ، يظهر طرفي النزاع في وضع تقابل ، الإبن على اليمين والعمان على اليسار والأم في الوسط حيث مركز الإهتمام وهي تواجه الكاميرا والشخصيات تنظر إليها … الأم على دكة مائلة لليمين أقرب لمكان الإبن وذلك حتى لا يبقى الإبن منعزلاً في الكادر ولخلق التوازن الشكلي والدرامي … الفراء على الأرض يجمعهم لأنهم أسرة واحدة ، العم الأكثر وقاراً وإتزاناً يظهر جالساً في الكادر ، أما العم الأكثر حدة وإنفعالاً يصبح وقوفه ضرورة شكلية تخدم الهدف الدرامي .

في مشهد آخر يظهر حديث بين العم الأكبر ورجل ملثم من أتباع القبيلة ، الحائط في مقدمة الكادر يوحي بالسرية الشديدة لهذا الحديث ، والإضاءة المعتمة للحائط تسمح بالتركيز على الشخصيتين فقط ، العم الأكبر لا يظهر وجهه لأن المشاهد رآه سابقاً بينما الشخص الملثم يظهر لأول مرة … كذلك اللون الأزرق ليبين شخصية القاتل ، كما يستخدم نفس اللون للكفين على مقدمة المركب التي تمت عليها الجريمة .

عندما يلجأ ونيس لقبر أبيه بعد أن ضاقت به نفسه ، يتمركز الشاهد في منتصف الكادر ، ويتشكل الشاهد على شكل هرمي ثابت لإيصال شعور القوة ، بينما يصل اللون البنفسجي بين الشاهد وبين ونيس وكأنه يستمد منه القوة ، وإتجاه الظل في إتجاه ونيس ليوحي بتوحده مع روح والده .

في هذا الكادر يظهر الغريب الذي يأتي مع رجال القاهرة ويتعرض لإعتداء من أهل القرية ، يحتل التمثال الأثري معظم الكادر لأن الآثار هي محور الحكاية ومركز الإهتمام ، بينما وُضع الممثل مواجهاً للكاميرا لرؤية نظرات إنبهاره المصاحبة لكلمات تأتي في ذهنه يسمعها المتابع في شريط الصوت « وهذا كف يقبض على مصيري لم يُقرأ أبداً » .

عندما يشعر ” ونيس ” بالحيرة والعجز أمام هذه الآثار تصوره الكاميرا من أعلى ، هذا يزيد من الشعور بمدى ضآلة ” ونيس ” وشعوره بالضياع ، أشبه بنقطة في بحر ، لكن التميز اللوني بين الملابس والآثار يميزه لأنه – رغم ضآلته في الكادر وتصويره من أعلى – يظل مركز الإهتمام لكونه الشخصية الرئيسية ، ويعكس هذا التباين خلود الآثار في مقابل زوال البشر .

حركة الكاميرا … راوي لا يحتاج للكلمات :-
في الصورة يظهر البطل خلف تل من الرمل ناظراً نحو رجال القاهرة ، هذا الكادر يعكس ضياع البطل لأنه يقف وسط مساحة خالية من الطبيعة ويبدو غارقاً في بحر من الرمال التي تبطئ الحركة ، مع تباين لوني واضح بين ردائه الأسود ولون الرمال الفاتح … وعند إستكمال الحركة يقترب ” ونيس ” نحو الكاميرا وتقترب الكاميرا بعدسة التقريب وهذا يرفع سرعة تقدمه إلى أن يملأ وجهه الكادر وعليه نظرات التحدي والتصميم بعد أن كان الكادر يعكس حالة الضياع .

في هذا المشهد يظهر الغريب – بعد أن يتم الإعتداء عليه – محتمياً بالآثار الفرعونية ، وحركة الكاميرا تؤكد فكرة الإحتماء ، تلتف من وراء الآثار ليظهر جسم الغريب – أشبه بوضع الجنين – ولا تكشفه من الزاوية الأخرى فيفقد التشكيل قيمته ، وحين يراه المشاهد لا يكاد يتميز الفارق بينه وبين الآثار لتشابه درجة اللون بين ما يرتديه الغريب وبين الآثار .

يتغلب ونيس على مخاوفه ويذهب لرجال القاهرة ويخبرهم ، ويتم تصويره صاعداً إلى مستوى أعلى كمن يتخطى مخاوفه وينتصر للحق والخير .

كل هذا التحليل البصري يقودنا إلى أهمية ( شادي عبد السلام ) كصانع سينما أصيل ومهارته في ترسيخ قواعد ومبادئ التحكم في الصورة لإثراء الحكاية ، لأن الصورة هي أهم لغات السينما رغم أن السينما جامعة للفنون ، الثراء البصري لا يجعل المشاهد بمعزل عن سرد الحكاية ، ويخلق حالة من التوحد بين الفيلم والمشاهد خاصة أن الفيلم يحكي حكاية تاريخية في زمن سابق ، الإبداع البصري في هذه الحالة يصبح ضرورة درامية لأن هذا النوع ليس فناً شعبياً فقط ولا يبحث في تفسيرات أو فهم ما حدث في صورة خطابية ، وإنما مصدر جديد وسرد للتاريخ وجزء لا يتجزأ منه … وهو ما يحلينا في النهاية لمقولة ” شادي عبد السلام ” :
أتصور أن الأفلام التاريخية التي أقدمها ومُصر عليها هي نوع من البحث التاريخي بلغة الكاميرا عن هموم وأشواق الحاضر ، أنا أرى الحياة في إستمراريتها سواء بالنسبة لي أو لغيري ، ولا يمكن أن أعزل اليوم عن الأمس ، إذا أردت أن أرى جيداً ما يحدث اليوم فما نحن فيه اليوم هو نتاج تاريخنا .
- ” شادي عبد السلام ” .
بدأ ” شادي عبد السلام ” بكتابة فيلمه ( المومياء ) ، وقتما كان يدفعه إحساس قوي بالرغبة في تقديم ما هو جديد وجاد ، دون النظر إلى إمكانية تنفيذه من عدمها … وإستغرق في كتابة السيناريو عاماً ونصف العام ، تاركاً ورائه كل شيء لا يتعلق بالمومياء … كان صادقاً مع نفسه منذ البداية ، حيث كان يعيش أزمة مالية قاسية ، بالرغم من العروض الكثيرة التي كانت تعرض عليه لتصميم وتنفيذ الديكور ، والتي كانت ذات أجور مغرية ، إلا أنه وجد نفسه غير قادر على عمل أي شيء غير المومياء ، وشعر بأنه سيكذب عليهم وعلى نفسه لو قبل بالعمل فيها .
بعد إنتهائه من كتابة المومياء ، بدأ ” شادي عبد السلام ” بالبحث عن طريقة لتنفيذه ، وقتها كان يعمل مع ” روسيلليني ” ، فعرض عليه السيناريو ، وبعد أن قرأه ” روسيلليني ” لم يصدق بأن هذا السيناريو يبحث عمن ينفذه … فأخذه فوراً إلى وزير الثقافة المصري ، وكان ذلك بمثابة تزكية وإعتراف صادق من مخرج عالمي كبير ، بأهمية الفيلم وأهمية تنفيذه ، لذلك دخل السيناريو ضمن مشاريع مؤسسة السينما .
لقد كانت مرحلة تنفيذ فيلم ( المومياء ) تجربة صعبة ، مع مخرج صعب يحمل فكراً وأسلوباً مختلفين … وتكمن تلك الصعوبة في أنه إستخدم الكاميرا التي تفكر ، فالكاميرا عند ” شادي عبد السلام ” لا تنقل الملامح فقط ، وإنما تربط عناصر التمثيل والأداء الصوتي بكادرات فكرية تُوظَف داخل بناء الفيلم بشكل كامل … دراسته للعمارة منحته القدرة على البناء ، بناء الفيلم بكامله ، فهو يقتصد ويستفيد من كل العناصر المكونة للمشهد ، وأن يكون لكل عنصر شخصية مميزة ، ووظيفة تتمشى مع بقية المشاهد ، وذلك حتى يصبح العمل في النهاية قطعة من المعمار الحيّ ، له روحه الخاصة ، ويتدفق بالحياة .
كل لقطة ، كما يقول “ شادي عبد السلام ” ، محددة ومرقمة في السيناريو ، وبإستطاعته ـ أيضاً ـ أن يحدد عدد لقطات الفيلم منذ البداية وقبل التصوير ، لأنه لا يؤمن بالإرتجال أثناء التصوير في الفيلم الروائي ( … أذهب لوحدي إلى أماكن التصوير، وأصورها بالفوتوغرافيا ، حتى يصبح كل شيء واضح تماماً في ذهني … ) … كذلك ، فهو يحدد على السيناريو الوقت الذي يتم فيه التصوير بالنسبة للمواقع الطبيعية ، إنه لا يحدد رقم العدسة للمصور ، وإنما يخبره بما يريد ويترك له تحديد الرقم المناسب للعدسة … فشادي فنان يؤمن بالتخصص كلٍ في مجاله … فقد إستعان بالكاتب ” علاء الديب ” لصياغة كل حوار المومياء ، فالصياغة الأدبية للحوار عنده ـ كما يقول ـ غير مكتملة وضعيفة … ولكي تظهر الصورة كما يريدها أو كما يتصورها ، يلتقي ” شادي عبد السلام ” مع مدير التصوير ” عبد العزيز فهمي ” في جلسات طويلة ، يناقشه ويشرح له ويعيد عليه حكاية الموضوع كما يشعر به ، فالمسألة بالنسبة لشادي ليست مجرد حكاية الفيلم أو ما يقوله ، إنما المهم إحساس المصور بالأشياء … فعن إستخدامه للألوان ، ” يتحدث شادي عبد السلام ” ، فيقول : ( … أهمية اللون أن يظهر عندما أحتاج إليه ، وأنا لا أحتاج إليه أكثر من مرتين أو ثلاث في الفيلم … ) … صحيح بأن ” شادي عبد السلام ” قد صور المومياء بالألوان الطبيعية ، إلا أنه كان حريصاً على إعطاء اللون دلالته الدرامية ، وإلا فلا داعي لإظهاره … فمثلاً في أحد المشاهد ، يستخدم فيه الأبيض والأسود فقط للمشهد بكامله ، فيما عدا لقطة واحدة يظهر فيها لون محدد ، فالمشهد يظهر جنازة الأب ، وكل القبيلة ترتدي الزي الأسود في مقابل اللون الفاتح للجبل … يقول شادي : ( … النقطة السيكولوجية عندي في هذا المشهد هي إرتباط الشاب بأبيه الذي لم نره ، وبالتالي لم نتعرف على مشاعر الإبن نحوه ، وليس هناك حوار يدل على هذه المشاعر ، فالمشهد كله صامت ، إنما هناك اللحظة التي تصور وجه الإبن ورأسه ينحني حزناً على قبر أبيه ، فنرى الأرض من وجهة نظره مغطاة باللون البنفسجي ، وهو لون الورد المفروش على القبر ، وعن طريق هذا اللون وحده ، أردت أن أعبر عن العاطفة التي تربط بين الإبن وأبيه … ) … هكذا تصور ، ليس إلا دليلاً على إن ” شادي عبد السلام ” يتمتع بحس سينمائي ذو شاعرية شفافة وعميقة في نفس الوقت ، ولا يفكر بهذه الطريقة ، في تنفيذ مشهد واحد ، إلا مخرج متمكن من تقنياته الفنية وأدواته السينمائية .
صُورت أغلب مشاهد فيلم ( المومياء ) خارج الأستوديو ، وهذا يعني بأن مخرجه “ شادي عبد السلام ” ، لن يستطيع أن يلون الأرض والجبال والآثار على مزاجه ، لذلك إستفاد ” شادي ” من الشمس ودورتها التي تلون الطبيعة ، فكان يصور في الصباح مشاهد الصباح ، وفي الظهر والليل كذلك … وكانت دورة الشمس اليومية هي التي تحكم عمله ، وعلى أساس حركتها تم وضع جدول العمل ، حتى تتحقق وحدة اللون المطلوبة للفيلم … كانت هناك ـ أيضاً ـ صعوبة التصوير في الليل بالنسبة للمشهد الأخير ، وهم ينقلون التوابيت من بطن الجبل إلى النهر ، فقد كان من الصعب تصويره في الليل ، وذلك لأن الطبقة الحساسة على الشريط لن تسمح بظهور شيء ، لعدم توفر الضوء ، وكان ” شادي ” حريص كل الحرص على عدم إستخدام إضاءة صناعية ، فهي ترمي ظلالاً على الأرض ، وهو لا يريد في هذا الفيلم الإحساس بالكهرباء إطلاقاً … لذلك إتفق مع مدير التصوير على تنفيذ هذا المشهد خلال وقت محدد وضيق جداً ، وهو لحظة ما بعد الغروب مباشرة ، حيث يختفي قرص الشمس وتبقى أشعته في السماء ، يبقى ضوء الشمس لكن دون إحمراره … ويصر ” شادي ” على التصوير في هذا الوقت بالذات ، لأن الطبيعة في الأقصر ـ كما يقول ـ في هذا الوقت ، تلون الجبال باللون البنفسجي المائل إلى الإحمرار … إن هذا المشهد يمتد عرضه على الشاشة إثنتي عشرة دقيقة فقط ، ويتكون من ثماني وعشرون لقطة ، ولم يكن من الممكن أن يتم تصوير هذا العدد من اللقطات دفعة واحدة أو في يوم واحد من تلك اللحظة المحددة ، إذاً ماذا فعل هذا المخرج العبقري ؟! لقد صور في كل يوم لقطة واحدة فقط من هذا المشهد ، وبالتالي إستغرق تصوير هذا المشهد ثمانية وعشرون يوماً ، وذلك حتى يحتفظ المخرج باللون الواحد للمشهد كله .
إن هذه الدقة وقوة الملاحظة لا تصدر إلا من مخرج حساس وغير عادي ، فأي مخرج عادي قد يصور فيلماً كاملاً مدته ساعتان في ثمانية وعشرون يوماً ، وليس مشهداً مدته إثنتي عشرة دقيقة … حقاً إن ” شادي عبد السلام ” لمخرج عبقري .
بعد إنجاز الفيلم مباشرة ، وقبل عرضه جماهيرياً ، عرض بشكل خاص على النقاد والمهتمين بالسينما ، فقوبل بعاصفة من النقد بين التأييد والمعارضة ، وأمام هذه العاصفة كان من الممكن أن ينهار صاحب ( المومياء ) ، لولا وجود النقد المخلص الذي وقف إلى جانبه ورد الثقة إلي نفسه ومنحه إحساساً بأن جهده لتقديم شيء جديد لم يذهب هباءً ، فقد كان يريد أن يعرف هل هو على خطأ أم على صواب في أول تجربة إخراجية له … ولم يقتصر دور النقاد في تحقيق توازنه النفسي فحسب ، بل كان لهم الفضل ـ أيضاً ـ في توجيه نظر الآخرين إلى الفيلم ، وإكتشاف قيمة الجديدة .
بعدها خرج فيلم (المومياء) إلى المهرجانات السينمائية الدولية ، ليحصل على العديد من الجوائز … منها أربع جوائز عالمية وسبع شهادات تقديرية من سبع مهرجانات ، وكان أهمها جائزة جورج سادول الفرنسية عام 1970م .
يرى البعض من السينمائيين ، بأن ” شادي عبد السلام ” يهتم بالشكل على حساب المضمون ، بمعنى إن إهتمامه وتركيزه على القضايا الحرفية السينمائية يجعل المضمون في مرحلة تالية ، وهذا غير صحيح ، فإهتمامه الحرفي يخدم ـ أساساً ـ القضية التي يريد أن يعبر عنها ، بإعتبار أن الشكل له الدور الهام والفعال في تطور المضمون … ويقول ” شادي عبد السلام ” في هذا الصدد : (… أنا مؤمن بأن للسينما لغة خاصة بها ، وهي لا تعتمد على الكلمة المنطوقة ، وإنما على الصورة السينمائية التي تخدم الإطار العام للفيلم ، والحرفية بالنسبة للمخرج هي آخر شيء يفكر فيه ، بل من الكريه أن يكون المخرج مجرد حرفي فقط ، لا بد أن يكون للمخرج وجهة نظر ورأي يلتزم به ، حرفة المخرج تماثل معرفتي لإستخدام القلم … ) .
الفكرة عند ” شادي عبد السلام ” هي الفيلم كله ، والفيلم هو الفكرة … فنحن في فيلم ( المومياء ) لن نجد لقطة أو مشهد أو حدث يمكنه أن يعبر عن فكرة الفيلم ، فالفكرة تجري في شرايين الفيلم بأكمله .
إن فيلم المومياء يعد إبداع مصري خالص … لم تغب السينما المصرية فى بعض أفلامها عن واقع الحياة والقضايا المصيرية التي تهم المواطن المصرى لكنها إهتمت أيضاً بتاريخ مصر وتراثها الحضاري الضخم وقد إهتم بعض المخرجين بهذا الجانب وجعلوا منه موضوعات لأعمالهم ويكاد يكون ” شادي عبد السلام ” هو المخرج الوحيد الذي تناول مصر تاريخياً فى أفلامه حتى قبل عمله كمخرج حيث بدأ حياته الفنية مصمماً للديكور وعمل مساعداً للمهندس الفني “ رمسيس واصف ” عام 1957 م ثم عمل مساعداً للإخراج في عدة أفلام كان أغلبها لمخرجين أجانب ، وشارك “ شادي عبد السلام ” في الفيلم البولندي الفرعون من إخراج “ كافليرو فيتش ” وهي نقطة البداية الحقيقية في مشواره ، وقد شارك في إعداد ديكورات الفيلم وأزيائه وإكسسواراته ، كما عمل كمساعد مخرج في فيلم وا إسلاماه إخراج ” أندرو مارتون ” والفيلم الإيطالي الحضارة للمخرج ” روبرتوروسللين ” والفيلم الأمريكي ” كليوباترا ” للمخرج ” جوزيف مانكوفيتش ” وبعد أن قام بإخراج أول أفلامه القصيرة كان هذا واضحاً فى فيلم الفلاح الفصيح إنتاج عام 1970م والمأخوذ عن إحدى البرديات الفرعونية القديمة والمعروفة بإسم “ شكوى الفلاح الفصيح ” وقد فاز بجائزة السيدالك في فينسيا في نفس العام وفيلم “ جيوش الشمس ” عام 1974 و فيلم ” كرسي توت عنخ آمون الذهبي “ وفيلم ” الأهرامات “ وما قبلها عام 1984 وفيلم ” رع رمسيس الثاني “ عام 1986 وترك بصماته كمصمم ديكور وملابس للعديد من الأفلام أهمها فيلم ” الناصر صلاح الدين “ من إخراج “ يوسف شاهين ” وقدم فيلمه الطويل الأول “ المومياء ” ، وبعد الإنتهاء منه عكف على الإعداد لفيلمه الثاني “ إخناتون ” الذي ظل يكتبه وينقح فيه قرابة عشر سنوات ورحل عن عالمنا قبل أن يرى النور لإصراره على تفاصيل فنية ورغبته أن تقوم وزارة الثقافة بإنتاجه .
شادي عبد السلام … ” الفرعون الأخير ” الذي عرف الخلود دون تحنيط
هو صاحب لوحات فنية من فرط إتقان رسم خطوطها دبت فيها الروح ، نجح في أن يجعل للصمت صوت ، ولصوت الرياح وحركة حشائش الأرض معنى يصلك بوضوح دون عناء ، كان خير ناقل للحضارة المصرية القديمة من الماضي إلى عالمنا الحاضر عبر شاشة السينما ، فإستحق الخلود وأن يحمل لقب ” الفرعون الأخير ” الذي تتجمع عظامه ويعود إليه قلبه ليحيا كل صباح في شباب جديد محتفظاً بصورته الجميلة .
إن مهندس الديكور ومصمم الملابس المخرج الراحل “ شادي عبد السلام ” نجح عبر أعمال فنية قليلة أن يلفت نظر العالم إلى موهبته ، وإعتبرته الصحف العالمية أول مخرج مصري يرقى إلى المستوى العالمي .
أعد ” شادي ” نفسه جيداً لخطوة تقديم فيلم روائي طويل تحتفي به دول العالم ، فكل خطواته قادته إلى السير في طريق العظماء ، الذين يتذكرهم التاريخ ، فإبن الصعيد الذي ولد في المنيا درس فنون المسرح في لندن ، وتخرج من كلية الفنون الجميلة ، تتلمذ على يد المهندس المعماري “ حسن فتحي ” ، الأمر الذي إنعكس بشكل إيجابي على معرفته بقيمة الصورة ، وكيف يوظفها كلغة أولى للسينما لا حاجة معها لكثير من الحوار يصف ما تراه العين .
عمل مهندساً للديكور ومصمماً للملابس في عدد من الأفلام المصرية ، جاءت البداية مع فيلم ” وا إسلاماه “ ، بعد أن رشحته الفنانة “ لبنى عبد العزيز ” لتصميم ملابس الفيلم – طبقاً لما صرحت به – ، وقد سافر ” شادي عبد السلام ” إلى إيطاليا لإحضار المواد الخام اللازمة لتصميماته ، التي أبهرت الجميع ، كما صمم ديكور وملابس ” عروس النيل ” ، “ عنتر بن شداد ” ، “ أمير الدهاء ” ، “ رابعة العدوية ” ، “ شفيقة القبطية ” .
عمل ” شادي عبد السلام ” مساعد مخرج في “ وا إسلاماه ” إخراج “ أندرو مارتون ” ، والفيلم الإيطالي “ الحضارة ” للمخرج “ روبرتوروسللين ” ، والفيلم الأمريكي ” كليوباترا ” للمخرج “ جوزيف مانكوفيتش ” ، وأخرج عدد من الأفلام القصيرة ، هي : “ الفلاح الفصيح ” ، وفيلم ” جيوش الشمس ” ، “ كرسي توت عنخ آمون الذهبي ” .
وبالطبع يُعد فيلمه الطويل ” المومياء ” العمل الأشهر والأهم في تاريخه الفني ، وحين نرصد أهم ما كُتب عن الفيلم وعن ” شادي عبد السلام ” في الصحف العالمية التي إحتفت بإبداعه أكثر من إحتفاء العالم العربي ، وهو ما تم تجميعه عن الفيلم :
– مجلة سينما 70 الفرنسية : ” فيلم غريب وساحر والواضح أن مخرجه لا يدين بموهبته لمخرج أخر ” .
– في فايننشال تايمز البريطانية كتب ديفيد روبنسون : ” يمتاز الفيلم بإيقاعه المتهمل المريح ، الذي يجبر المتفرج على الإستسلام له ، إن ” شادي عبد السلام ” بلا شك أول مخرج مصري يرقى إلى المستوى العالمي ” .
– Les lettres الفرنسية : ” إن هذا الفيلم الفريد في نوعه هو إشارة لما يمكن أن يتمخض عنه الشرق من جديد خلاق ” .
– مجلة Sight and sound البريطانية : ” هو واحد من تلك الأفلام الذي تعتبر كل لقطة فيه عمل جمالي قائم بذاته … ويبدو وراء هذا الشكل الرائع كثير من الأشياء تُقال بطريق غير مباشر ، وراء الكلمات معان تُقال وأن لم ينطق بها أحد ” .
– مجلة variety الأمريكية : ” إنه يعود بنا إلى الماضي ، إلى الجوانب الأكثر أصالة والأكثر إرتباطاً بالأرض ليعالجها ويقدمها لنا برؤية سينمائية عميقة ، إنه فيلم جميل وأصيل وقد تم إخراجه بقدر غير عادي من الفِطنة واسعة الأفق والدهاء ” .
– جريدة l’ unita الإيطالية : ” نقطة تحول في السينما المصرية ” .
– مجلة مونتاج البريطانية : كتبت على غلافها ” المصريون قادمون ” .
ونشرت مجلة الكواكب عام 1970 حواراً صحفياً لـ شادي عبد السلام يحكي فيه قصة فيلمه المومياء حيث قال : كنت قد قرأت قصة إكتشاف المومياوات في الدير البحري لأول مرة عام 1956 ، وهي التي أصبحت موضوع أول أفلامي ، ومنذ عام 1963 وأنا في بولندا أثناء العمل في فيلم ” فرعون ” جعلني الحنين إلى مصر أفكر في هذا الموضوع في ليلة شتاء باردة جداً وكان التفكير هادئاً وبعمق شديد .
وتابع : قلت لنفسي أين هذا المناخ من مصر ومن هنا بدأت رحلة المومياء في عقلي ، وفى عام 1965 ظهر الشكل الأول ، قصيدة شعر من 40 سطراً تقريباً كتبتها على لسان الغريب ، أنها ليست قصيدة بمعنى الكلمة لكنها نظم أقرب منها إلى الشعر ، وبعدها بدأت أكتب السيناريو .
في البداية كان فيلماً واقعياً تقليدياً أطلقت عليه ” دفنوا مرة ثانية ” ، ثم ” ونيس ” ، ولكنني لم أكن متعجلاً ، وكنت أبحث للوصول إلى الشكل الملائم تماماً للتعبير عن نفسي .
وفى مارس 1968 بدأت التصوير مع ” عبد العزيز فهمي ” الذي أعتبره يدي اليمنى ، وأصدقائي وتلاميذي ” سمير عوف ” مساعدي الثاني و ” صلاح مرعي ” مهندس الديكور ، و “ أنسي أبو سيف ” مهندس الديكور أيضاً ، وكلهم من خيرة الشباب في السينما المصرية .
المومياء ليس أكثر من 24 ساعة تمثل لحظة وعي أو ضمير لم ينضج بعد عام 1881م ، أي قبل عام من الزحف الإستعماري الإنجليزي على مصر ، ” إنى أحاول في الواقع أن أعبر عن قضية عامة جداً لكنها تأخذ القالب المصري ، البيئة والحياة والتاريخ الذي أعرفه وأحس به أكثر من غيره ” .
يتابع شادي عبد السلام في حواره …
وفي عام 1969 وبعد إنتهاء تصوير الفيلم تردد المسئولون في عرضه على الجمهور المصري بحجة أنه يعتبر فيلماً ليس جماهيرياً ولن يحقق إيراداً ، بينما في عام 1974 قرر ” يوسف السباعي ” وزير الثقافة ، عرض الفيلم داخل مصر بإعتباره عملاً فنياً متكاملاً يصل بالفيلم المصري إلى المستوى العالمي ، وذلك بعد أن شاهد عرضاً للفيلم بطوكيو أثناء زيارته لليابان .
كما حل المخرج ” شادي عبد السلام ” والمخرج ” صلاح أبو سيف ” ، ضيوفاً على الفنانة ” ناهد جبر ” ، في حلقة من حلقات برنامجها الشهير ” سينماتك ” .
وقال ” شادي عبد السلام ” : “ فيلم المومياء مش فيلم فرعوني ، لكن الفيلم بيتضمن إكتشاف مقبرة فرعونية ، أنا متأثر بالتراث والبحث عن أصولي في أعمالي ” .
وتابع : ” عقدة البطل في فيلم المومياء أنه يبحث عن كيانه وسط العالم الكبير ، ويبحث على نفسه في الماضي والحاضر ” .
وعما إذا كان الفيلم قد ” حورب ” سياسياً ، قال : ” لم يحارب الفيلم في أي مهرجان ، والعمل الجيد يفرض نفسه ، ولا تستطيع جهة سياسية أن تقف أمامه ، وفي مهرجان فينيسيا حصلت على جائزة ، على الرغم من وجود فيلم إسرائيلي في المهرجان ” .
كما أشار إلى أن الفيلم دخل عدة مسابقات وحصل على جوائز ، منها مهرجان تونس ، الذي إستقبله الجمهور بحفاوة بالغة ، وكان الفيلم ” سمعته سابقاه ” .
وأوضح ” شادي عبد السلام ” أن دراسته للعمارة والفنون التشكيلية ، أفادته في إخراج فيلم ” المومياء ” ، الذي كان يعمل فيه ” بإحساسه ” ولم يكن يقصد أسلوبا معيناً له .
حصل الفيلم على عدة جوائز عالمية ، من أهمها جائزة أفضل فيلم أجنبي عُرض في باريس عام 1970م ، وكانت الجائزة تحمل إسم الكاتب والمؤرخ السينمائي الفرنسي الكبير ” جورج سادول ” ، وكانت الجائزة تُمنح لأول مرة لفيلم مصري ، كما حصل الفيلم على جائزة النقاد الدولية من مهرجان قرطاج ، وجائزة المركز الكاثوليكي الإيطالي للسينما ، وجائزة أكاديمية الفيلم البريطاني .
قالت الفنانة “ نادية لطفي ” عن أسباب قبولها للمشاركة في الفيلم بمساحة دور صغير : ” حاولت أتحدى نفسي ، حاجة كانت جديدة بالنسبة لي إني أمثل شخصية كل أبعادها وزواياها تكون واضحة ومقنعة في فترة زمنية قصيرة جداً لا تتعدى الدقائق ” .
أما الفنان ” أحمد مرعي ” فقال عن شخصيته بالفيلم : ” شخصية صعبة لممثل جديد … مطلوب مني أشعر بدوري وأحسه أكثر من إني أؤديه بإنفعال … كان عليّ أن أظهر هادئ ، واثق من نفسي ، رغم كل ما تعانيه الشخصية من توتر في مواجهة مجتمع يواجه تغيير شامل ، وكان عليّ إتخاذ قرار يحدد مصيره ” .
لقد نجح ” صانع المومياء ” المخرج المصري الكبير ” شادي عبد السلام ” ، أن يسجل إسمه بحروف من نور في قائمة حراس الهوية المصرية رغم قلة إنتاجه من حيث الكم ، فقد صنع السينمائي العبقري الذي يعد من أبرز مخرجي السينما العربية طوال تاريخها ، مشروعاً واضح المعالم على المستوى الفكري والفلسفي ، عبر فيه عن جزء أصيل من الروح المصرية .
قصة عمل ” شادي عبد السلام ” في السينما ، إختلفت كثيراً عن باقي أبناء جيله ، فبعد حصوله على درجة الإمتياز في العمارة ، لم تكن لديه الرغبة بالعمل كمهندس معماري ، فبدأ يفكر بالعمل في السينما بعد أن قضى مدة الخدمة العسكرية .
دخل للساحة السينمائية عن طريق المخرج ” صلاح أبو سيف ” في فيلم ( الفتوة ) ، وكان عمله وقتها يقتصر على تدوين الوقت الذي تستغرقه كل لقطة ، كما عمل مساعداً للمهندس الفني ” رمسيس واصف ” عام 1957 م ، ثم عمل مساعداً للإخراج في عدة أفلام لمخرجين أجانب ، لكن كل تلك الخطوات كانت تمهيداً لخطوته الكبرى والمركزية في مشروعه ، وهي صناعة فيلم المومياء .
وثقت مكتبة الإسكندرية المشروع العظيم لشادي عبد السلام في فيلم المومياء ، من خلال متخف دائم لمقتنيات عبقري الصورة ، كان شادي عبد السلام (١٩٣٠-١٩٨٦) فناناً متميزاً متعدد المواهب ، فقد كان رساماً ومصوراً وكاتب سيناريو ومصمم ملابس وديكورات لعدد من أهم الأفلام السينمائية المصرية ، وكان مخرجاً سينمائياً عكست أعماله رؤيتَه الفريدة للثقافة المصرية القديمة وكذلك التراث الإسلامي والقبطي ، وقد وضع فيلمه الروائي الطويل الوحيد ” المومياء ” السينما المصريةَ على خريطة السينما العالمية ؛ فقد نال عدة جوائز منها جائزة “ جورج سادول ” في باريس في عام إنتاجه سنة 1970… وفي سنة 2009 اختارته المؤسسة العالمية للسينما كواحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما العالمية ، وقامت بترميم النسخة الأصلية ، وتم الإحتفاء به في مهرجان كان السينمائي في نفس العام .
لقد بدأت مكتبة الإسكندرية في العمل على إنشاء المعرض الدائم والمتحف المفتوح لمقتنيات ” شادي عبد السلام ” في عام ٢٠٠٢ م ، وتم إفتتاحه في ١٥ مارس ٢٠٠٥ بمناسبة اليوبيل الماسي لشادي عبد السلام .
يحتوي معرض ” شادي عبد السلام ” القيِّم بمكتبة الإسكندرية على العديد من لوحات و” إسكتشات ” الفنان ، وعددٍ من اللقطات السينمائية المأخوذة من الأفلام التي شارك فيها أو أخرجها ، بالإضافة إلى بعض مقتنياته الشخصية ؛ مثل قطع أثاث لمكتبه ومكتبته الخاصة .
ملحق بالمعرض قاعة ” آفاق ” ، وهي قاعة تعرض بها يوميّاً الأفلام التي أخرجها “ شادي عبد السلام ” وأغلبها أفلام تسجيلية وتعليمية ، وبعض الأفلام التي شارك فيها كمصمم للملابس والديكور وأغلبها أفلام تاريخية ، كما تعرض بعض الأحاديث التليفزيونية التي أجراها الفنان ، وبعض الأفلام والبرامج التي تتناول حياته وأعماله .
عمل ” شادي عبد السلام ” مديراً لمركز الأفلام التجريبية بوزارة الثقافة في عام 1970م ، وفي الفترة ما بين عامي 1974 و 1980 قام ” شادي عبد السلام ” بإخراج أربعة أفلام تسجيلية قصيرة ، بدأها مباشرة بعد إستلامه رئاسة مركز الفيلم التجريبي التابع لهيئة السينما ، وهي ( آفاق 1974) وهو نموذج لأوجه النشاط الثقافي المختلف في مصر ، وفيلم ( جيوش الشمس 1976) ويتناول معركة العبور ونصر أكتوبر 73 .
فيلم المومياء … يوم أن يُحصى الإبداع … !!!
هناك في مجال السينما والنقد أفلام لا تستطيع أن تهرب من إعطائها العلامة الكاملة ” العشرة على عشرة ” … !!!
مهما حاولت أن تأتي يميناً أو يساراً … صدقني لن تفلت من وضع ” إمتياز “على الفيلم … !!!
نعم … !!!
قليلة تلك الأفلام وهي ظاهرة عالمية سينمائية حيث لا مجال ( للمستر بيس ) سوى للقليل … القليل جداً … !!!
ليس هذا كلامي المتواضع فعدد قليل من المخرجين وضعتهم جمعية النقاد في أعلى 100مخرج عالمي وأفضلهم …
ونلاحظ أن الأغلب … إن لم يكن كل المخرجين في القائمة ذات المائة إسم أخرجوا على الأقل من خمسة إلى سبعة من الأفلام شديدة الجاذبية والإبداع في حياتهم الفنية والمهنية …
ولكن … !!!
لـ ” شادي عبد السلام ” رأي آخر … !!!
فهذا الرجل وُضع في القائمة ليس بسبب ” دستة ” أفلام أو على الأقل ثلاث أفلام … !!!
بل من أجل فيلم واحد فقط … !!!
أسُطورة غامضة كالفراعنة القدماء هذا الفيلم …
جعلت منة المخرج الوحيد الذى يدخل قائمة العظماء ” بفيلم ” واحد فقط … !!!
لذللك كانت لدى البعض ” توجسات ” قبل المشاهدة وأسئلة تطرح نفسها …
هل الفيلم ” ساحر ” إلى تلك الدرجة أم أن لديهم هناك واسطة _ كوسة يعني _ في القائمة … ؟؟؟!!!
وبالطبع للإجابة على أي سؤال عن الفيلم … فيجب مشاهدة الفيلم لتجد نفسك أمام لحظة الحقيقة …
وبمجرد بدأ المشاهدة للفيلم ، سوف ترى منذ الوهلة الأولى في بداياته …
أن هذا اللحن البسيط يتثرثب مع بداية قوائم الأسماء التي تظهر في خفوت مغلفة من وراءها قرص شمس متوهج على ضفاف نيلنا العظيم …
وتمر أقل من ساعتين بقليل في سرعة لم ولن تشعر بها من قبل !!! وتجد نفسك تقف مدوياً بالتصفيق الحاد على هذة الأسطورة الخالدة …
التي لم تحقق نجاح على الإطلاق في فترة السبعينات … بل سُحب الفيلم مباشرة بقليل بعد أن إتجه الجمهور لأفلام السبعينات التجارية … وما أدراك ما أفلام السبعينات … !!!
نعم لقد فعلها هذا المخرج العبقري في واحد من أندر الأفلام العالمية ” إكتمالاً ” .
وهذا هو السبب _ من وجهة نظري _ التي أهلته لتلك المكانة الخالدة والتقدير من كافة أنحاء العالم …
فأنت هنا كمشاهد للفيلم … ستجد كل شيء على أكمل وجه _ بيرفكت _ …
فإذا بحثنا عن ” التمثيل ” سنجد أنفسنا أمام عمالقة تمثيل بلا أدنى أخطاء من كل الطاقم على الرغم من أن جميعهم _ عدا نادية لطفي التي أدت دور شرفي مميز للغاية _ غير محترفون أو نجوماً … فكل حركة ملحوظة وكل كلمة مُتقنة ، وأختص بالذكر هنا ” أحمد مرعي ” هذا الشاب المهدور حقة تماماً في الإعلام والتاريخ الفني ، فهذا الشاب لم يلمع سوى مع هذا المخرج العملاق ، وبعد وفاتة إتجه للأعمال الدرامية وبعض الأدوار السينمائية القصيرة لكن الفشل كان طريقه الملازم له حتى وفاته …
كان كالسر الذي لا يفك شفرته سواة ، يقع تحت يدة كحفنة تراب ليخرجها لنا ماساً يتلألأ على الشاشة …
ويمكنك رؤيتة بوضوح قبل إنتاج هذا الفيلم في فيلمة الرائع القصير ” شكاوي الفلاح الفصيح ” مع المخرج ذاته وستجد نفسك في الفيلمين معاً منسجم بشكل مخيف مع الشخصية بأداء شديد الهدوء … شديد الإختراق … رحمه الله …
إما إذا بحثنا عن ” الصورة ” فسوف نجد ذاتنا أمام واحدة من أجمل ” الكوادر ” في عالم السينما … والمدهش أن مخرجنا الراحل قد وجد ” بُعداً جديداً ” لم يكتشفه الكثيرون وقتها وأصبح الآن واحد من أهم كوادر السينما وهي الصورة شديدة الإنبساط وفي الوقت ذاته شديدة الضيق … !!!
ويمكن ملاحطة هذا الأمر ” بجلاء تام ” في مشهد الجبل الأساسي حيث يتم تركيز كادر الإخراج داخل فوهة جبل من داخله في شكل غريب للغاية وممتع للبصر … لم أجد مثيل قريب له سوى في الفيلم الأمريكي ( 127 hours ) للمخرج ” داني بويل ” ، إنتاج عام 2010 !!!
ولن ننسى بالطبع الموسيقى التصويرية ” شديدة الجاذبية ” حيث بها تلك السمة من أفلام الحروب والمعارك … حتى لتجد نفسك قد أندثرت تماماً داخل الفيلم معتقداً أنه بدون أدنى موسيقى !!!
أيضاً الأزياء والإكسسوارت لعبت دوراً بارزاً في نقل ” الحقبة الزمنية والمكانية ” بكافة تفاصيلها ، وأختص بالذكر أزياء أبناء عمومية القرية حيث الملبس شديد السواد مع لحى بيضاء وعمامة رفيعة بيضاء لتظهر وقار الشخصيات مصحوبة بهذا النوع من الجاذبية الذي لا تعلم من أين يأتي … !!!
وقد يلفت نظرنا شىء هام بل شديد الأهمية في هذا العمل وهو الإحترام !!! ، وأختص بالذكر المشهد الذي يدخل فيه الشاب “ أحمد مرعي “على أبناء عموميته ويجد إحداهما في مشهد حميم مع إمراءة وهنا يظهر الإحترام الشديد فمخرج آخر قد يظهر المشهد ” ساخناً ” للغاية بتعبير السبعينات وأفلامها !!!
لكن مخرجنا قد عالج الموقف بشديد البراعة فالمشهد لا يظهر سوى من باب صغير بعيد لا يظهر منه أي شيء سوى من جانب ضئيل من الباب وتظهر يد المراءة فقط … نعم اليد فقط !!!
وبصورة ما تجد أن الرجل خرج ليرتدي جلبابه بينما تهرب المراءة مرتدية جلباب كبير وتهرب وتُستكمل باقي المشهد …
وهنا لنا توقف ” كبير ” … !!!
فالمشهد من المشاهد الهامة للغاية وتُمثل نقطة المواجهة المشهورة في أسُس البناء الدرامي الناجح … وكان بإمكانه إضافة مشاهد صريحة ولن يستطيع أحد أن يناقشه في الأمر …
لكن المخرج أراد ” هذا الإحترام ” لجمهور قد يشاهد أفلامه فتخدشه …
وعن آلة تراقبه وعن أعمال يحُاسب عليها … فأخرج لنا عملاً ” نظيفاً ” .
كما يستهزء البعض الآن … !!!
وحاز به على إعجاب جميع العالم ودخل القائمة الذهبية …
..
وفى النهاية عندما وضعت اليد لتكتب هذا النقد وجدت أنه سيتكلف بضعة أسطر لكن الحروف والكلمات أبت وإمتدت لتصل إلى ما وصلنا إليه …
هذة التحفة الفنية تستحق كل هذا وأكثر …
والأكثر إحتراماً في نظري هو هذا ” الفنان ” الذي عشق مصر فعشقته …
عشق تراثها فعشقته …
ومنها إنطلق للعالمية وبفيلماً واحداً فقط …
وكم تمنيت أن يخرج لنا فيلمه للنور ” إخناتون ” ليبهرنا بتحفة فنية جديدة … رحمه الله رحمةً واسعة …
ذاب في حب الفراعنة فأهدته إحدى أسرارها الدفينة …
إنها ليست لعنة الفراعنة كما يقولون …
إنها ” هبة ” الفراعنة لمن يستحقونها فقط .
الكل يفخر بمصريته عبر كلمة السر الكامنة في الحضارة المصرية القديمة التي علمت ولازالت تعلم العالم حتى الآن من خلال المومياوات ، والمقابر ، والجداريات ، والنقوش المرسومة على الجدران كدليل حي على أن مصر أولاً وستظل في المقدمة ، حتى وإن واجهت العثرات الصعبة .